موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

محمد الروكي
التقعيد بالاستدلال واثرها في اختلاف الفقهاء



الاستدلال في اللغة هو طلب الدليل، وهو الذي يدل على الطريق.
وفي اصطلاح الأصوليين يطلق على أربعة معان:
1 ـ الاستدلال بمعنى إيراد الدليل من قرآن وسنة وقياس وغير ذلك.
2 ـ الاستدلال بمعنى إيراد الدليل الذي ليس نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً.
3 ـ الاستدلال بمعنى: الاستصلاح، وهذا الإطلاق قد ورد على ألسنة كثير من الفقهاء والأصوليين كالجويني والغزالي والشاطبي وغيرهم.
4 ـ الاستدلال بمعنى الأقيسة التي ليست من قبيل قياس التمثيل، وقياس التمثيل هو القياس الأصولي الذي يسميه علماء أصول الفقه بالقياس الشرعي، وهو إلحاق فرع بأصل في الحكم الشرعي لمساواتهما في العلة.
فالقياس إذا لم يكن بهذه الصورة كان من قبيل الاستدلال، وهو صور، أهمها:
أ ـ قياس العكس: وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في العلة. كالحكم على أن وضع الشهوة في الحلال يستوجب الأجر قياساً على العكس وهو أن وضعها في الحرام يستوجب الوزر.
ب ـ قياس الدلالة: وهو الجمع بين أمرين بما يدل على العلة لا بعين العلة، مما يلزم من الاشتراك فيه الاشتراك في عين العلة. ويكون ذلك بالتلازم والتنافي.
ج ـ القياس الاقتراني، ويسمى أيضاً بالقياس الحملي: وهو الذي يكون مؤلفاً من قضايا إذا سلمت لزم لذلك قول آخر، كقولنا: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، ينتج: كل نبيذ حرام.
د ـ القياس الاستثنائي، ويسمى أيضاً بالقياس الشرطي: وهو الذي دلّ على النتيجة أو ضدها بالفعل لا بالقوة، كقولنا: إن كان النبيذ مسكراً فهو حرام، لكنه مسكر، ينتج: أنه حرام.
والقياس الاقتراني والاستثنائي سبيلهما الاستقراء التام، فيدخلان معاً في القياس المنطقي.
والمعنى الثاني للاستدلال، من هذه المعاني الأربعة، هو المعروف والمستعمل كثيراً عند الأصوليين.
والاستدلال بهذا المعنى ـ الذي سندرج عليه ـ تتسع دائرته وتضيق حسب مذاهب الأصوليين في توسيعه وتضييقه، وذهاباً مع رأي الموسعين فإن الاستدلال يشمل الأدلة العقلية الآتية:
1 ـ الاستصحاب. 2 ـ أقل ما قيل. 3 ـ شرع مَن قبلنا. 4 ـ قول الصحابي. 5 ـ الاستصلاح. 6 ـ الاستقراء. 7 ـ قياس العكس. 8 ـ قياس الدلالة. 9 ـ القياس المنطقي.
والاستدلال بجميع صوره هذه ـ ما عدا قول الصحابي ـ راجع إلى القياس إذا نحن وسعنا دائرته ونظرنا إليه نظراً بعيداً دون التقيد بالمعاني الضيقة التي يفرضها الفقه التقليدي:
فالاستصحاب هو الحكم على الشيء في الزمان الحاضر بنفس الحكم الذي ثبت له في الزمان الماضي، وهذا عمل قياسي، لأننا لما أعطينا للشيء في الحاضر حكمه في الماضي فقد قسنا حاضره على ماضيه، وألحقناه
به في الحكم. فإذا وجدنا دليلاً بخلاف ما ثبت في الزمان الماضي، كان ذلك هو الفارق، فيمتنع القياس حينئذ.
والعمل بأقل ما قيل هو تحكيم للاستصحاب ورجوع إليه، لأن أقل ما قيل مجمع عليه، فيستصحب هذا الإجماع إلى أن يرد دليل بخلافه.
وشرع من قبلنا إذا أمعنا النظر فيه وجدناه قائماً على فكرة الاستصحاب بمعناه الواسع، فما تعبد الله به من قبلنا من الأمم الأصل فيه: أنه باق مستمر فيمن بعدهم إلى أن يرد دليل بخلاف ذلك، وهو النسخ، لأن شرائع
الله كلها حلقات لدين واحد هو الإسلام، وأصحاب هذه الشرائع هم جميعاً أمة واحدة (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون). فالصلة بين هذه الشرائع وأصحابها وثيقة جداً. ومن ثم لم يكن مقصود الشريعة أن
تهدم كل ما قبلها، وتقيم حياة جديدة لا صلة لها بما قبلها. بل إن هناك مبادئ وقيماً وأصولاً تعبدية توارثها الناس من أمة إلى أخرى، فلا داعي لإلغائها ما دامت لا تتعارض مع مصالح الشريعة ومقاصد الدين.
وإدخال الشرائع السابقة في الاستصحاب بهذا المعنى هو توسيع لدائرة الاستصحاب وخروج به عن معناه الضيق الذي يقرره الفقه التقليدي.
والاستصلاح بدوره هو عمل قياسي، إلا أنه ليس بمعناه الضيق الذي يطلق عليه الفقهاء والأصوليون قياس التمثيل، بل هو قياس أوسع من ذلك وأعمق، يجمع فيه بين القضايا المتماثلة على أساس مراعاة المصلحة
المرسلة، ولذلك سمي عند الإمام مالك بقياس المصلحة، وورد عند الغزالي باسم ((قياس المعنى)).
أما قياس العكس، وقياس الدلالة، والقياس المنطقي، فاندراج هذا كله في الدائرة العامة للقياس أمر واضح لا يحتاج إلى تقرير.
وأما الاستقراء فهو المنهج العلمي للوصول إلى القياس وأحكامه.
وأما قول الصحابي فليس دليلاً بنفسه، وإنما هو متضمن للدليل، لأن الأمة إنما هي ملزمة بالوحي ـ القرآن والسنة ـ ولأن الصحابي لا يجوز له الحكم في مسألة من المسائل من غير استناد إلى دليل شرعي.
وإنما اختلف الفقهاء والأصوليون في قول الصحابي هل هو حجة أم لا؟ من جهة تضمنه للسنة أو عدم تضمنه لها. وبعبارة أخرى: إن اختلافهم في حجية قول الصحابي هو في حقيقة الأمر اختلاف في الموقوف هل
هو حجة أم لا؟ لأن قول الصحابي قد يكون نقلاً لسنة فيكون حجة. وقد يكون نقلاً لرأي الصحابي واجتهاده فلا يكون حجة.
فعُلم من هذا أن صور الاستدلال راجعة إلى القياس وآيلة إليه، ومن ثم كان التقعيد الفقهي، والاستنباط الفقهي عامة، راجعاً إلى النص، والقياس في دائرته العامة الواسعة، فإذا تعارض شيء من ذلك مع غيره عرض
على الترجيح.
والقواعد الفقهية التي قعدها الفقهاء بالاستدلال كثيرة، وسنحاول عرض نماذج منها مصنفة حسب أصول تقعيدها الآتية:
1 ـ ما قعد منها بالاستصحاب.
2 ـ ما قعد منها بالاستصلاح.
3 ـ ما قعد منها بباقي أنواع الأقيسة التي سبق ذكرها، ولنا أن نسميها قياس الاستدلال.
أولاً ـ التقعيد بالاستصحاب:
المراد بكون الاستصحاب مصدراً للتقعيد الفقهي: أن الفقيه قد يعمد في عملية التقعيد إلى فكرة الاستصحاب ومنهاجه، فيكون بذلك قد حكم على جملة من الفروع والجزئيات بحكم شرعي واحد، مرجعه في ذلك
الاستصحاب، وهذا يعني أنه ينتقل في الاستصحاب من إجرائه في الأحكام الجزئية إلى إجرائه في الأحكام الكلية. فكما كان يُجريه في كل جزئية على حدة، يجريه الآن في القاعدة التي تستوعب جملة من الجزئيات.
ولمزيد من التوضيح لنتأمل الأمثلة الآتية:
أ ـ لو ادعت الزوجة على زوجها عدم وصول النفقة المقدرة إليها، وادعى الزوج الإيصال، فالقول قولها بيمينها، لأن الأصل بقاؤها بعد أن كانت ثابتة في ذمته، حتى يقوم على خلافه دليل من بينة أو نكول.
ب ـ لو ادعى المستقرض دفع الدين إلى المقرض، وأنكر المقرض ذلك فالقول قول المقرض، لأن الأصل في ذمة المستقرض: انشغالها بالدين، فهي على ذلك إلى أن يدل دليل على فراغها منه.
ج ـ لو ادعى المشتري دفع الثمن إلى البائع، وأنكر البائع ذلك، فالقول قول البائع، لأن الأصل في ذمة المشتري أنها مشغولة بأداء الثمن إلى أن يقوم دليل على فراغها منه.
د ـ لو ادعى المستأجر دفع الأجرة إلى المؤجر، وأنكر المؤجر ذلك، فالقول قوله إلى أن يقوم دليل على فراغ ذمة المستأجر من ثمن الإجارة.
هـ ـ لو ادعت المرأة امتداد الطهر وعدم انقضاء العدة، فإنها تصدق مع يمينها ولها نفقة العدة، لأن الأصل بقاء العدة بعد وجودها.
فالملحوظ في هذه الأمثلة خمسة: أن الحكم في كل واحد منها كان ثابتاً للمحكوم عليه في وقت، ثم استصحب بقاؤه فيما بعده من الأوقات ما دام لم يقم دليل على خلاف ذلك الالحكم. وهذا هو عين الاستصحاب. ولما
كان ثبوت هذا الحكم بالاستصحاب مطرداً في هذه الأمثلة وفي نظائرها، اعتمد الفقهاء على إطراد هذا الاستصحاب وصاغوا منه قاعدة فقهية هي: ((الأصل بقاء ما كان على ما كان إلى أن يرد دليل بخلافه)).
ومن القواعد التي أصلها الاستصحاب:
الأصل في الذمة البراءة:
الذمة هي العهد، لأن نقضه يوجب الذم، ويفسر بالأمان والضمان، لأن العهد يستوجبهما. وتطلق أيضاً على الحرمة والحق.
وتطلق الذمة أيضاً على محل الالتزام عامة، وهي بهذا المعنى وصف يصير الشخص به أهلاً للإيجاب له أو عليه، وهذا هو المعنى الذي يهمنا في القاعدة.
وكل مولود يولد وذمته فارغة من حقوق الغير، ومن ثم كان الأصل في كل ذمة أنها بريئة من كل تحمل إلى أن يثبت ذلك بدليل كالإقرار أو البينة.
وفروع هذه القاعدة كثيرة جداً، منها:
1 ـ إذا ادعى شخص أن له على آخر ديناً، فإن ذلك لا يثبت في حق المدعى عليه إلا بإقراره أو بينة المدعي، لن الأصل في ذمة المدعى عليه البراءة من كل دَين، فيستصحب هذا الأصل إلى أن يرد دليل بخلافه.
2 ـ إذا اتهم شخص آخر بحد من حدود الله، كالزنا أو السرقة أو الشرب ... فإن ذلك الحد لا يثبت ولا يقام على المتهم إلا بإقراره أو بينة. وفي حالة الاتهام بالزنا إذا لم يقر المتهم، ولم تكن هناك بينة فإن المدعي يقام
عليه حد القذف.
3 ـ إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن بعد هلاك المبيع أو فواته، فإن القول قول المشتري، لأن ذمته بريئة من الزيادة التي يدعيها البائع، إلا أن يقر أو يأتي البائع ببينة.
4 ـ ومثل ذلك إذا اختلف المؤجر والمستأجر في مقدار الأجرة، فإن القول للمستأجر إلى أن يثبت دليل بموافقة قول المؤجر، لأن الأصل براءة ذمة المستأجر مما يزعمه المؤجر إلى أن يقوم بذلك دليل.
5 ـ إذا ادعى المستعير رد العارية، وأنكر المعير ذلك، فإن القول للمستعير لأن الأصل في ذمته البراءة، فلا تشغل إلا بدليل. ومثل ذلك إذا ادعى المودّع رد الوديعة وأنكر المودع ذلك.
الذمة إذا عمرت بيقين فلا تبرأ إلا بيقين:
ومعناها: إن ذمة المكلف إذا شغلت بحق من حقوق الله أو حقوق العباد، وثبت ذلك بما يفيد اليقين، أو ما يقوم مقامه من غلبة الظن فإنها لا تبرأ من ذلك الحق إلا بدليل، فإذا ادعى المكلف فراغ ذمته من ذلك الحق فعليه
أن يثبت ذلك.
وهكذا فالقاعدة السابقة تتعلق بالذمة حال براءتها وفراغها من الحقوق، وهذه تتعلق بالذمة حال شغلها بحقن فالأصل في الحالة الأولى هو فراغها وبراءتها، وعلى مَن يدعي شغلها الدليل المثبت. وفي الثانية: الأصل
هو شغلها وعلى المدعي البراءة الدليل.
ومن فروع هذه القاعدة:
1 ـ إذا أقرض شخص آخر مبلغاً من المال، وأشهد على ذلك، ثم ادعى المستقرض رد القرض، فلا يقبل منه ذلك غلا بالبينة أو بإقرار المُقرض، لأن ذمة المستقرض قد شغلت بدليل فلا تبرأ إلا بمثله.
2 ـ إذا مر الحول على النصاب، وشك المالك هل أخرج الزكاة أم لا؟ فإن عليه أن يخرجها، لأنه لما مر الحول، والمال بالغ النصاب، فقد شغلت ذمته بالزكاة يقيناً، فلا يمكن أن تبرأ إلا بيقينه.
3 ـ إذا دخل وقت الصلاة، وشك هل صلى أم لا، فإنه يجب أن يصلي، لأنه لما دخل وقت الصلاة فقد عمرت ذمته بيقين، فلا تبرأ إلا بيقين.
الأصل في الأمور العارضة العدم:
الأمور العارضة هي كل ما يحدث للشيء ويطرأ عليه من الصفات والأحوال وغيرها مما أصله عدم الوجود. فهذه الأمور: الأصل فيها العدم لأنه متيقن، ومَن ادعى وجودها فعليه الدليل.
ـ فمن ادعى أنه عقد بيعاً أو إجارة أو شركة أو نكاحاً أو غير ذلك من العقود، ونكر الطرف الآخر، كان القول للمنكر إلى أن يثبت المدعي ما يدعيه بالبينة، لأن الأصل في هذه العقود كلها العدم، فعلى مدعي وجودها
الدليل.
ـ وإذا تبايع شخصان، فادعى أحدهما أنه اشترط الخيار لنفسه وأنكر الآخر ذلك، فالقول للمنكر، لأن الأصل عدم اشتراط الخيار، وعلى الذي يدعي اشتراطه أن يثبته بالدليل.
ـ إذا ادعى الورثة أن العقد الذي عقده موروثهم كان في حالة جنونه، لم يلتفت إلى دعواهم حتى يثبتوها بالبينة، لأن الجنون الطارئ على الشخص والأصل عدمه، فعلى مَن يدعي الجنون في العاقد حال التعاقد أن
يثبته بالدليل.
وقد عبر السيوطي وابن نجيم وغيرهما من الفقهاء عن هذه القاعدة بقولهم: ((الأصل العدم)) وهو تعبير ليس بالسليم، لأنه يفيد أن العدم أصل في كل الأمور، وليس الأمر كذلك، بل العدم إنما هو أصل في الأمور
الطارئة العارضة التي لم تكن موجودة ثم وجدت. أما الأمور التي هي ذاتية في الشيء وجزء من ماهيته، فهذه الأصل فيها الوجود، ومَن ادعى عدم وجودها فعليه الدليل:
ـ فمن استعاره سيارة ثم ادعى أنها بغير محرك، فالقول للمعير لأن الأصل في السيارة أن تكون بمحرك، فعلى المستعير الذي يدعي عدمه أن يثبت ذلك بدليل.
ـ ومَن تزوج صغيرة وادعى أنها ليست بكراً، فالقول قولها، وعليه هو أن يثبت دعواه بدليل.
ـ وإذا اختلف إثنان في عقد، فقال أحدهما: صحيح، وقال الآخر: باطل، فالقول لمدعي الصحة، لأن العقد إذا انعقد لازمته الصحة وصارت جزءاً منه، والبطلان نفي لها، فعلى مدعيه الدليل.
القديم يترك على قدمه:
المراد بالقديم هنا هو الذي لا نعرف متى كان أوله ومبدؤه.
ومعنى القاعدة: أن ما كان في أيدي الناس أو تحت تصرفاتهم قديماً من أشياء ومنافع ومرافق مشروعة في أصلها، يبقى لهم كما هو، ويعتبر قدمه دليلاً على أنه حق قائم بطريق مشروع، لأنه لما كان من الزمن القديم
على هذه الحالة المشاهدة، فالأصل بقاؤه على ما كان عليه، ولغلبة الظن بأنه ما وضع إلا بوجه مشروع.
فأصل القاعدتين ـ إذاً ـ هو الاستصحاب، ومن فروعهما:
1 ـ لو كان لأحد جناح في داره ممدود على أرض غيره، فأراد ذلك الغير أن يمنعه من مد الجناح، فليس له ذلك إلا بإذنه، لأن الأصل في القديم أن يترك على قدمه إلى أن تقوم الحجة بخلاف ذلك.
2 ـ ومثل ذلك ما لو كان له مسيل ماء، أو مسيل أقذار، في أرض الغير فليس لذلك الغير أن يمنعه منه إلا بإذنه، لأن هذا المسيل ما دام غير معروف أوله فالأصل ـ أو الغالب ـ أنه لم يوضع إلا بوجه مروع، فيترك
على حاله وعلى مَن يدعي حدوثه الدليل.
3 ـ لكن إذا كان له مسيل أقذار على الطريق العمومي يضر بالجماعة، فإنه يزال ومهما تقادم لأنه غير مشروع في الأصل، لأن الشرع لا يقر أحداً على أن يضر بالعامة ولو كان في ذلك حقه، ولأن الضرر عارض
فالأصل فيه العدم.
ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه:
معناها: أن ما قام الدليل على ثبوته في زمان مضى، يبقى محكوماً عليه بذلك إلى أن يرد دليل بخلافه. فهي كقاعدة: ((الأصل بقاء ما كان على ما كان)).
فمن ثبت له ملك شيء في الزمان الماضي، وادعى شخص أن الملك قد انتقل إليه، لم تُقبل دعواه، إلا أن يثبتها بدليل.
ولو أن إنساناً ادعى ديناً في ذمة حين أو ميت، وأقام بينة شهدت له أنه كان له عليه هذا المبلغ المدعى به، قبلت الشهادة، وحكم له بالدين، لأن ما ثبت بزمان يحكم ببقائه.
الحق لا يسقط بالتقادم:
هذه القاعدة متفرعة عن التي قبلها، لأن الشيء إذا ثبت حكمه في الزمان الماضي، فالأصل بقاؤه ثابتاً. وهذا يقتضي أن الحق إذا ثبت للشخص فإنه يبقى ثابتاً ولا يزول إلا بدليل، ولا يؤثر فيه تقادم الزمان وطول
المدة، لأن الذي يسقطه إنما هو استحقاق الغير، وهذا يحتاج إلى دليل.
فإذا قسم الورثة تركة موروثهم، ثم بعد مدة ظهر وارث جديد، فله أن يرجع عليهم بحصته، ولا يسقط حقه بالتقادم، لأن ما ثبت بدليل شرعي لا يسقطه التقادم، وإنما يسقطه دليل شرعي آخر.
وإذا رجع الأجير يطلب أجرته بعد غيابه مدة طويلة، فإن على المؤجر أن يمكنه منها لأنها حق له، والحق لا يسقط بالتقادم.
غير أن الحقوق التي وقتها الشرع وحدد لها آجالاً لطلبها، أو أعطى للفقهاء حق الاجتهاد في تحديدها، فإنها تفوت بانتهاء الأجل المحدد لطلبها. من ذلك أن الشفعة حق للشريك، رفعاً للضرر عنه، المتوقع حدوثه من
الشريك (المشتري)، لكن طلب هذا الحق له مدة محددة هي سنة كاملة تبتدئ بيوم علم الشريك ببيع شريكه حصته. فإذا انتهت السنة ولم يطلب الشفعة سقط حقه فيها، ليس بالتقادم ولكن بمرور الأجل المحدد. لأننا لو
تركنا الأجل مفتوحاً من غير تحديد لكان في ذلك إضرار بالمشتري، وقاعدة الشرع: ((لا ضرر ولا ضرار)) وكذلك الخيار في البيع، إذا انتهت مدته ولم يعلن الذي بيده الخيار عن رأيه، فإن حقه يسقط ويصير
الطرف الآخر في حل من عقد البيع.
الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته:
هذه القاعدة تتعلق بالحوادث التي يقع النزاع في تحديد تاريخها، ويكون الحكم فيها مرتبطاً بذلك التاريخ، فإذا وقع شيء من ذلك نظرنا إلى الحادث المختلف في زمان وقوعه، فنعتد بأقرب زمان إلى يوم التداعي
والنزاع، لأنه متفق عليه، فهو متيقن، فيحكم به إلى أن يرد دليل بخلافه.
ومن فروع هذه القاعدة:
1 ـ إذا اختلف الزوج وورثة زوجته في المهر، فقال الزوج: وهبتني إياه في صحتها. وقال الورثة: بل وهبتك إياه في مرض موتها. فالقول قول الورثة، لأن الهبة أمر حادث وهناك وقتان وقع عليهما النزاع: وقت
الصحة الذي يدعيه الزوج وهو الأبعد، ووقت المرض الذي يدعيه الورثة وهو الأقرب إلى يوم النزاع والتقاضي، فيحكم بالوقت الأقرب وتضاف إليه الهبة.
2 ـ إذا تبين في البيع عيب بعد القبض، فزعم البائع حدوثه عند المشتري، وزعم المشتري وجوده عند البائع، فإنه يعتبر حادثاً عند المشتري، لأنه أقرب الوقتين إلى يوم النزاع، فهو متيقن، وأما وجوده قبل ذلك
فيحتاج إثبات ذلك إلى بينة.
ثانياً ـ التقعيد بالاستصلاح:
الاستصلاح في اصطلاح الأصوليين والفقهاء، هو بناء الأحكام الفقهية على مقتضى المصالح المرسلة. والمراد بالمصالح المرسلة: المصالح المطلقة التي لم يرد في الشرع نص باعتبارها ولا بإلغائها.
وبيان ذلك: أننا علمنا من استقراء نصوص الشرع وتتبع مقاصده أن أحكامه مبنية على مراعاة المصلحة وهي جلب المنافع ودرء المضار والمفاسد. غير أن هذه المصالح منها ما هو منصوص على اعتباره،
كمصلحة الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وكالمصالح الحاجية وما يخدمها من التحسينية. ومنها ما هو منصوص على إلغائه وعدم اعتباره، كالانتفاع بالربا، ومال الخمر، والزواج بأكثر من أربع وغير ذلك.
ومنها ما هو مسكوت عنه، لم يرد نص باعتباره ولا إلغائه، فهذا القسم هو المراد عندنا هنا، وهو المسمى بالمصلحة المرسلة، ويسمى بالاستدلال المرسل، وقياس المصلحة، وقياس المعنى. وقد أجازه قوم كالمالكية
والحنابلة، ومنعه آخرون كالشافعية والظاهرية والشيعة.
ومن أمثلة العمل بالمصالح المرسلة ما ينسب إلى الإمام مالك من الفتاوى الآتية:
1 ـ جواز ضرب المتهم للإقرار بالسرقة أو القتل.
2 ـ القول بقتل الزنديق وإن نطق بكلمة الشهادة.
3 ـ عدم وجوب الإرضاع على الزوجة الشريفة التي تتضرر به.
والمراد بالتقعيد بالاستصلاح: أن يتوصل الفقيه إلى أحكام كلية عن طريق الاستصلاح، تندرج تحت كل واحد منها فروع كثيرة، وذلك لأن الاستصلاح كما يتوسل به الفقيه إلى معرفة الأحكام الجزئية للإفتاء بها في
الوقائع والحوادث كالأمثلة السابقة، فكذلك يتوسل به إلى معرفة كليات الأحكام، وتلك هي القواعد.
والطريق الأسلم للاجتهاد بالاستصلاح ـ سواء على مستوى الأحكام الجزئية أو الكلية ـ هو العلم بمقاصد الشريعة. ومقاصد الشريعة هي المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها. أو هي الغاية
من الشريعة.
وقد كان الصحابة (رضوان الله عليهم) أعلم الناس بمقاصد الشريعة وأرعاهم لها في اجتهادهم:
ـ فقد نقل عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى الناس: أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حداً وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار.
ومن طريف ما وقع للشيخ ابن تيمية في هذا الباب ما حكاه عن نفسه قائلاً: ((مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم مَن كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله
الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم)).
والاحتياج إلى المقاصد وضرورة العلم بها، ليس قاصراً على دليل الاستصلاح، بل إن مقاصد الشريعة وعاء للأدلة الشرعية منقولها ومعقولها، وهي ميزانها والمسلك السليم للبحث فيها، وهي المنهاج النبوي الذي في
ضوئه تفسر النصوص الشرعية تفسيراً سليماً، وعلى أساسه يستنبط الفقيه ويجتهد بعيداً عن مزالق القصور وظلمات الجمود.
وإنما يتميز ارتباط الاستصلاح الوثيق، بالمقاصد، لكون المصلحة ومراعاتها بمراتبها هي الجزء الأهم الذي يمثل مادة المقاصد وموضوعها.
وهذه أمثلة من القواعد الفقهية التي قعدها الفقهاء بالاستصلاح:
سدر الذريعة وفتحها منوط بالمصلحة:
الذريعة في اللغة هي الوسيلة، والمراد بها عند الفقهاء والأصوليين: هي ما يتوصل بها إلى مفسدة فتكون ممنوعة، أو إلى مصلحة فتكون مطلوبة. فالذريعة لا يكون المطلوب سدها دائماً، بل يكون سدها أو فتحها
خاضعاً لحكم ما أفضت إليه، وما شاع على ألسنة الفقهاء من التعبير بالذريعة وإرادة سدها حتى صار عرفاً عندهم في الدلالة على ذلك، فإنما هو من باب التعبير بالغالب. وإلا فإن سد الذريعة أو فتحها منوط بما تفضي
إليه من المقاصد والأحكام.
والمراد بأن فتح الذريعة أو سدها منوط بالمصلحة: أنها إذا أفضت إلى مصلحة كانت المصلحة في فتحها، وإذا أفضت إلى مفسدة، كانت المصلحة في سدها، لأن درء المفسدة وإغلاق بابها هو في ذاته مصلحة، فكان
بذلك فتحها وسدها منوطاً بتحقيق المصلحة.
وهذه القاعدة تتفرع عنها قواعد فقهية كثيرة، منها:
ما يفضي إلى الحرام حرام:
أي: إن الأمور التي من شأنها أن تكون ذريعة إلى فعل الحرام، فهي محرمة بإفضائها إلى الحرام، ولو كانت في ذاتها مباحة، لأن مصلحة الدين والخلق أن يمنع المكلف من فعل ما يفضي إلى الحرام.
وفروعها كثيرة جداً، منها:
1 ـ النكاح: قال الفقهاء: إن حكمه الندب من حيث الجملة، لكن إذا كان وسيلة إلى شيء محرم صار حكمه الحمرة، فيحرم على مَن لا يخاف العنت وكان يضر بالمرأة لعدم قدرته على الوطء، أو النفقة، أو اضطره
الزواج إلى أن يكسب من موضع لا يحل.
2 ـ البيع في أصله مباح، فإذا كان ذريعة إلى الربا صار حراماً، كبيع العينة، وهو أن يشتري السلعة ـ مثلاً ـ بألفين آجلة، ثم يبيعها من البائع بألف معجلة، فهذا البيع قد أفضى في النهاية إلى استلاف ألف على أن ترد
بألفين، وهو عين الربا.
3 ـ وقد حرم الشارع أموراً كثيرة سداً للذريعة، مثل: الخلوة بالأجنبية لأن ذلك ذريعة إلى الفاحشة، واستدامة النظر إلى الأجنبية لأنه ذريعة إلى إثارة الشهوة المفضية إلى المحظور. والبيع على بيع المسلم. والخطبة
على خطبته لأن ذلك ذريعة إلى العداوة والبغضاء. وغير ذلك كثير ... .
4 ـ بيع العنب لمن يصنع منه الخمر لا يجوز، سداً للذريعة إلى المحرم.
5 ـ يحرم إيجار الدار لمن يتخذها للهو والخمر، لأن الغاية محرمة فحرمت الوسيلة المفضية إليها.
6 ـ يحرم بيع السلاح في حالة الفتنة، أو بيعه للحربيين، أو بيعه لقطاع الطريق، لأن بيعه في كل هذه الصور ذريعة إلى مفسدة محققة وهي إزهاق أرواح المسلمين وانتهاب أموالهم والاعتداء على أعراضهم.
ما يفضي إلى المكروه مكروه:
معناها: أن الشيء قد يكون مباحاً أو مندوباً، لكنه إذا جُعل وسيلة إلى المكروه كان فعله مكروهاً. مثل:
1 ـ يكره النكاح في حق مَن لا يشتهيه وينقطع به عن عبادته. ويكره في حق مَن لم يجد الطول ولا حرفة له ولا صناعة.
2 ـ ومما انفرد به المالكية: أنه يكره أن تقام جماعة ثانية في مسجد له إمام راتب، قال ابن أبي زيد القيرواني: ((ويكره في كل مسجد له إمام راتب أن تجمع فيه الصلاة مرتين)) ونقل عن ابن العربي أنه قال في
القبس: ((وانفرد مالك من بين سائر الفقهاء بأنه لا يصلي في مسجد واحد مرتين)). وعلة ذلك: أن تجويز الجماعة الثانية ذريعة إلى تهاون الناس في المواظبة على الجماعة وفضيلة الوقت.
ما يتوقف الواجب على فعله فهو واجب:
وهذه القاعدة هي بمعنى قولهم: ((ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)) أي إن الوسائل التي لا يتوصل إلى فعل الواجب إلا بها، فهي واجبة، كما أن الوسائل التي لا يتوصل إلى درء المفسدة إلا بها، فهي واجبة أيضاً.
وفروع هذه القاعدة كثيرة، منها:
1 ـ تقدم أن البيع أصله الإباحة، لكن إذا تعلق بأمر اضطر إليه المسلمون فإنه يصير في حق البائع واجباً، كالتاجر في الطعام، يكون عنده طعام، والمسلمون مضطرون إليه لمجاعة، فإن بيعه لهم ـ بثمن المثل ـ
واجب، لأن عدم البيع يفضي إلى مفسدة عظيمة هي هلاك الأنفس، والاستجابة للبيع درء لهذه المفسدة.
2 ـ النكاح مباح، وقيل مندوب، لكن الذي لا ينفك عن الزنا إلا به وكان قادراً عليه، فهو واجب عليه، لأن الإحصان والتعفف واجب، ولما كان بعض الناس لا يقدرون على الإحصان والتعفف إلا بالزواج فإنه في
حقهم واجب لأن ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب.
3 ـ تحصيل العلوم الشرعية واجب على المسلمين على الكفاية، لأنها وسيلة إلى الحفاظ على الشريعة. ثم إن كل وسيلة لتحصيل هذه العلوم هي واجبة أيضاً، ومن ثم كان تحصيل علوم اللغة وأصول الفقه وسائر
العلوم الآلية واجباً على الكفاية أيضاً، لأنها وسائل لتحصيل علوم الشرع ومعرفة أحكام الله تعالى، وما يتوقف الواجب على فعله فهو واجب.
4 ـ قال الشيخ السعدي: ((ومن فروع هذه القاعدة: جميع فروض الكفايات، من أذان، وإقامة، وإمامة صغرى وكبرى، وولاية قضاء، وجميع الولايات، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وجهاد لم يتعين، وتجهيز
الموتى بالتغسيل والتكفين والصلاة والحمل والدفن وتوابع ذلك، وكذلك الزراعة، والحراثة، والنساجة والحدادة، والنجارة، وغير ذلك. ومن فروع ذلك: السعي في الكسب الذي يقيم به العبد ما عليه من واجبات النفس
والأهل والأولاد والمماليك من الآدميين والبهائم، وما يوفي به ديونه، فإن هذه واجبات ولا تقوم إلا بطلب الرزق والسعي فيه. ومن فروعها: وجوب تعلم أدلة القبلة والوقت والجهات لمن يحتاج إليها ... )).
ما يتوقف عليه المندوب ففعله مندوب:
عبر عنها الشيخ عبدالرحمان السعدي بقوله: ((ما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون)). ومعناها: أن الأفعال المباحة إذا أفضت إلى المندوبات صارت مندوبة الفعل، لأن الوسيلة تأخذ حكم ما أفضت إليه.
ومن فروع هذه القاعدة:
1 ـ البيع إذا كان وسيلة إلى مندوب صار مندوب الفعل، وذلك كأن يقسم الشخص لآخر على أن يبيعه شيئاً بعينه، فاستجابة البائع لذلك مندوبة، لأن فيها إبرار قسم المشتري، وإبرار القسم مندوب إذا لم تكن فيه
مضرة.
2 ـ ولما كان الصف الأول في الصلاة أفضل من الثاني، والثاني أفضل من الثالث وهلم جراً، كان اتخاذ الوسائل لنيل هذه الفضيلة مندوباً، لأن الوسيلة المفضية إلى المندوب حكمها الندب أيضاً.
مَن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه:
وينمكن أن نصوغها هكذا: ((مَن سعى إلى إبطال قصد الشارع عوقب بنقيض سعيه)).
ومعنى القاعدة: أن المكلف إذا فعل فعلاً كان ذريعة إلى تعطيل أو نقض مقصود للشارع، فإنه يعاقب بنقض فعله وعدم ترتيب آثاره عليه، لأن تعطيل أو نقض مقصود الشارع محرم، فكانت الوسيلة المفضية إلى ذلك
محرمة أيضاً، لأن الشرع لا ينظر إلى تلك الوسائل مفصولة عما تفضي إليه من المقاصد، بل يحكم عليها مقرونة بغاياتها ومراد المكلف منها، ولو لم يكن حكمه عليها كذلك لفتح باب للفوضى والفساد، ولتوصل كل
مكلف إلى ما يريد إيقاعه من أنواع الظلم والعدوان بفعل أمور ظاهرها الإباحة وباطنها الحرمة.
وفروع هذه القاعدة كثيرة، منها:
1 ـ إذا قتل الوارث موروثة عمداً وعدواناً قصد استعجال الحصول على الإرث، فإنه يحرم منه بتاتاً، أعني: إذا بقي حياً بأن عفا عنه أولياء موروثه المقتول، فإنه لا يرث فيه شيئاً، وإذا قُتل قصاصاً فلا ينتقل إلى
ورثته ما كان سيرثه في موروثه، المقتول. وعلة هذا الحرمان: أنه سعى بقصده إلى مناقضة قصد الشارع، فكان من مقاصد الشرع أن يحرم من الإرث، لأن الشرع لا يلتفت إلى مجرد موت الموروث وبقاء الوارث
حياً بعده، فهذه مجرد أشكال ورسوم، بل ينظر إلى ما وراء ذلك من مقاصد وبواعث ودوافع، وعلى أساسها يبني حكمه الشرعي.
2 ـ إذا ارتدت الزوجة بقصد أن يطلقها زوجها، ثم تابت بعد حصول الفرقة بينهما، فليس لها أن تتزوج بعد توبتها بغير زوجها، لأنها بقصدها ناقضت قصد الشارع، فكان عقابها أن تعامل بنقيض قصدها، وإلا كان
ذلك ذريعة إلى أن تتوسل كل امرأة تريد مفارقة زوجها بالردة.
3 ـ إذا بتّ الرجل في طلاق زوجته في مرضه المخوف بقصد أن يحرمها من الإرث ثم مات، فإنها ترثه معاملة له بنقيض قصده الفاسد، لأن إمضاء هذا الطلاق بهذه الصورة ذريعة إلى حرمان الزوجات من الإرث.
مَن سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه:
هذه القاعدة تتعلق بكل ما يصدر عن المكلف من عقود والتزامات وتصرفات، وهي تفيد إلزام المكلف بكل ما يصدر عنه من ذلك، حسماً للنزاع، وسداً للذريعة إلى فساد المعاملات واختلالها.
ومعنى القاعدة: أن المكلف إذا عقد عقداً، أو التزم بشيء، أو قام بتصرف، أو أقر بحق، فإنه في كل ذلك ملزم بما صدر منه، لأن هذه الأمور مبنية على الجدية والإلزام، ولا مجال للتلاعب فيها. فإذا صدر عن المكلف
شيء منها ثم رجع عن ذلك، وأراد أن ينقضه، فإن رجوعه لا عبرة به، ونقضه لما عقده مردود عليه ولا يلتفت إليه سداً للذريعة، لأن الشأن في ذلك أن يبني على الصرامة والإلزام.
ومن فروع هذه القاعدة:
1 ـ إذا أقر الشخص على نفسه بمال أو غيره، ثم ادعى الخطأ في الإقرار والغلط فيه، إنه لا يقبل منه ذلك، لأنه بادعائه ذلك يكون ناقضاً لما أبرمه من قبل.
2 ـ إذا بادر إلى اقتسام التركة مع الورثة، ثم ادعى بعد القسمة أن المقسوم ماله، فإن ادعاءه لا يقبل ولا يعتد به، لأن إقدامه على القسمة فيه اعتراف منه بأن المقسوم مشترك.
3 ـ إذا باع أو اشترى ثم ادعى أنه كان فضولياً، وأن المالك أو المشتري لم يجز العقد، لم يسمع ذلك منه.
خطأ القاضي في بيت المال:
المعلوم أن القاضي إنما يحكم بين الناس بما يثبت عنده منهم من أدلة وبينات، وبما يعرض عليه من ظاهر أحوالهم، وهو في كل ذلك يتحرى الصواب والسداد في الحكم، لكن قد يجانب أحياناً الصواب فيخطئ في
الحكم، وتضيع الأنفس أو الأموال أو غير ذلك من الحقوق. وفي هذه الحالة فإن ضمان ما ضاع من ذلك ليس على القاضي المخطئ، وإنما هو على بيت المال، لأن القاضي هو من جهة نائب عن الشرع وعامل
لغيره، ولأنه من جهة أخرى لم يتعمد الخطأ.
فهذه القاعدة هي من قواعد الاستصلاح، لأن تضمين بيت المال ما يفوته القضاة بخطئهم من النفوس والأموال والفروج، هو ما تقتضيه المصلحة، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لامتنع العلماء عن القضاء والحكم، ولكان
ذلك ذريعة إلى فساد أحوال الناس، واختلال الأمن فيهم، ولرجعوا في الحكم بينهم إلى غير شريعة الله فكانت المصلحة ـ إذاً ـ تقتضي أن تسد هذه الذريعة بالعفو عن أخطاء القضاة التي لا يتعمدونها وجعل ضمانها في
بيت المال.
وفروع هذه القاعدة كثيرة، منها:
1 ـ إذا شهد إثنان على رجل بالسرقة، فقطعه القاضي، ثم تبين أن الشاهدين قد غلطا، وتعذر عليهما وعلى عواقلهما الدية، فإن دية يد المقطوع في بيت المال.
2 ـ إذا قضى بالدار أو بالحيوان للمدعي، ثم تبين له أن الدار أو الحيوان للمدعى عليه، فلما أراد استرجاع ذلك وجده قد فات بانهدام الدار، أو موت الحيوان، ولم يقدر المدعي على الضمان، فإن الضمان يكون في بيت
المال، لأن الخطأ من القاضي.
ثالثاً ـ التقعيد بقياس الاستدلال:
إن قياس الاستدلال يشمل الأقيسة التي ليست من قبيل قياس التمثيل، كقياس العكس، وقياس الدلالة، وغيرهما.
والفقهاء قد نشطوا كثيراً في التقعيد بهذه الأقيسة، حتى إن جزءاً مهماً من القواعد التي دوّنوها هو من قبيل التقعيد بقياس الاستدلال. وهو يكشف عن مدى عمق وسعة العقلية الفقهية الإسلامية، وما وصلت إليه من
نضج واكتمال في إطار تعميق البحث الفقهي وتأصيله.
والتقعيد بقياس الاستدلال معناه: أن الفقهاء قد يتوصلون إلى أحكام كلية عن طريق إجراء قياس العكس أو قياس الدلالة أو غيرهما من صور قياس الاستدلال.
وهذه نماذج وأمثلة توضح ذلك:
ما لا يتجزأ فحكم بعضه كحكم كله:
وهذه القاعدة ترتبط بأقوال وأفعال المكلف التي يلزمه آثارها، ذلك أنه قد يعقد صيغة يلتزم فيها بشيء: عقد أو فسخ أو عبادة أو غير ذلك، لكن على جهة التبعيض، أي: إنه يتلفظ بما يُلزم فيه نفسه بجزء من ذلك العقد
أو الفسخ أو العبادة أو غير ذلك، ففي هذه الحالة ينظر إلى ذلك الشيء الذي ألزم نفسه ببعضه، فإن كان مما يقبل التبعيض والتجزئ، كان مُلزماً بالجزء الذي نص عليه في الصيغة التي عقدها. وإن كان مما لا يقبل
التبعيض والتجزئ فإنه يلزم به كله، لأن الشيء الذي لا يتجزأ يلزم من ذكر بعضه ذكر كله لكون أبعاضه غير معتبرة في ذاتها إذا نظرنا إليها مستقلة عن صورتها الكلية. فوجود بعضه يستلزم وجود بقية أبعاضه
ويتوقف عليه. ومثل ذلك إذا صدر منه فعل بعض ما لا يتجزأ، فإنه يلزمه أثر ذلك الفعل كله.
وفروع هذه القاعدة كثيرة، منها:
1 ـ إذا قال المكلف: على صيام نصف يوم، لزمه صيام اليوم كله، لأن صيام اليوم لا يتجزأ إذ لا يصدق على مَن صام نصف اليوم أنه صائم. وما لا يقبل التبعيض فذكر بعضه كذكر كله.
2 ـ إذا نزع أحد خفيه بعدما مسح عليهما، انتقض مسحه الخفين معاً لأن انتقاض المسح لا يتبعض.
3 ـ إذا رمى الصيد فقده قطعتين فمات، فجميعه حلال، لأن ما كان ذكاة لبعضه كان ذكاة لكله.
4 ـ إذا كان الشخص وصياً على عدة تركات، أو قيماً على عدة الأوقاف، فخان في إحداها، فإنه يجب عزله من جميعها لأن الخيانة لا تتجزأ، ففعل بعضها كفعل كلها.
5 ـ إذا قال لزوجته أنت طالق نصف تطليقة، لزمه الطلاق، لأن الطلاق لا يتجزأ، وما لا يتجزأ فذكر بعضه كذكر كله. ومثل ذلك لو ذكر جزءاً آخر غير النصف كالثلث والربع وغير ذلك.
الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه:
معناها: أن الشخص إذا رضي بالشيء وأذن فيه، لزم من ذلك أن يكون راضياً بما يفضي إليه ذلك الشيء بذاته، لأن المتولد من الشيء لازم له، فلزم أن يكون الرضا بالمتولد لازماً للرضا بالمتولد منه. فأصل القاعدة
التلازم.
ومن فروعها:
1 ـ إذا رضي أحد الزوجين بعيب صاحبه، ثم زاد ذلك العيب، فلا خيار له، لأن الزيادة متولدة، والرضا بالشيء رضا بما يتولد عنه.
2 ـ إذا قطع الحاكم يد السارق حداً، أو يد الجاني قصاصاً، فسرى ذلك في جسم المقطوع وهلك فلا ضمان على الحاكم، لأن الرضا بالحكم المستحق رضا بما يفضي إليه بذاته ويتولد منه بطبيعته.
3 ـ إذا سبق ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى الجوف من غير أن يبالغ المتوضئ، لم يكن مفطراً لأن تجويز الاستنشاق والمضمضة للصائم يلزم منه تجويز ما يتولد منه.
الشك في أحد المتقابلين يوجب الشك في الآخر:
المراد بالمتقابلين: المتضادان، أو النقيضان، ومعنى القاعدة: أن الشك في أحد المتقابلين تقابل تضاد، يلزم منه الشك في الآخر، لأن تقابلهما وتضادهما هو الذي ترتب عليه هذا اللزوم، ومعنى ذلك: أن الشيئين إذا كانا
متقابلين ـ كالوضوء والحدث ـ وتطرق الشك إلى أحدهما، فطبيعة مقابلتهما تقتضي أن يتطرق نفس الشك للطرف الآخر المقابل، وإلا لم يعودا متقابلين.
فأصل القاعدة التلازم، ومن فروعها:
1 ـ الشك في الإفطار يوجب الشك في الصيام.
2 ـ الشك في الحدث يوجب الشك في الوضوء.
3 ـ الشك في نجاسة الماء أو الثوب أو البدن أو المكان، يلزم منه الشك في طهارته.
4 ـ الشك في بطلان العقد يوجب الشك في صحته.
الشك في الشرط يوجب الشك في المشروط:
معناها: أن مَن شك في تحقق الشرط فقد شك في تحقق المشروط لأن الشرط لازم للمشروط، وإذا تطرق الشك إلى اللازم، لزم أن يتطرق إلى الملزوم.
فأصل القاعدة ـ أيضاً ـ التلازم، ومن فروعها:
1 ـ أن مَن صلى ثم شك في الوضوء، كان شكه في الوضوء يوجب الشك في الصلاة، لأن الوضوء شرط للصلاة، والشك في الشرط يلزم منه الشك في المشروط.
2 ـ الشك ي تبييت نية الصوم يوجب الشك في الصوم.
وهذه القاعدة غير قاعدة ((اليقين لا يزول بالشك)) لأن تلك تقعد الجزئيات التي يطرأ فيها الشك بعد اليقين، كمن تيقن الوضوء وشك في الحدث، أما هذه فتقعد الجزئيات التي يتطرق إليها الشك ابتداء كمن شك هل
توضأ أم لا.
إذا سقط الأصل سقط الفرع:
أي: يلزم من سقوط الأصل وانتفائه: سقوط الفرع وانتفاؤه، لأن الفرع تابع للأصل.
وقريب من هذه القاعدة قول الفقهاء: ((إذا سقط المتبوع سقط التابع))، كسقوط النوافل تبعاً لسقوط الفرائض بالنسبة لمن أغمي عليه ففاته بعض الفرائض.
ولا عكس للقاعدتين، أي: إذا سقط الفرع أو التابع، فلا يلزم من ذلك سقوط الأصل أو المتبوع.
ومن فروع القاعدة:
1 ـ إذا أبرأ الدائن المدين فقد برئ كفيله، لأن المدين أصل، والكفيل فرع، وإذا سقط الدين عن الأصل فقط سقط عن الفرع. ولذلك قالوا: إذا برئ الأصيل برئ الكفيل.
2 ـ إذا استدان شخص مالاً من آخر، ورهن عنده فيه رهناً، ثم أبرأه الدائن، فإن الرهن يسقط ضمانه وينقلب أمانة، لأن الدين هو الأصل، والرهن وسيلة لتوثيقه، فهو فرع. وإذا سقط الأصل سقط الفرع.
إذا بطل الشيء بطل ما في ضمنه:
ويرادفها قولهم أيضاً: ((إذا بطل المتضمّن بطل المتضمَّن))، لأن المتضمَّن لازم للمتضمّن وتابع له، وإذا بطل الشيء بطل لازمه وتابعه.
ومن فروع هذه القاعدة:
1 ـ إذا بطل عقد البيع، بطلت كل شروطه والتزاماته، لأنها تابعة له وفي ضمنه.
2 ـ لو أقر إنسان لآخر، وكان الإقرار مرتباً على عقد كبيع أو صلح، ثم انتقض البيع أو الصلح بوجه ما، بطل الإقرار.
سقوط المقصد يستلزم سقوط الوسيلة:
هذه القاعدة واسعة، تشمل ما لا يحصى من فروع الشريعة، لأن أحكام الشرع متعلقة بأفعال المكلفين، وأفعال المكلفين من جهة نظر الشرع إليها: مقاصد ووسائل، فالمقاصد مطلوبة لذاتها، والوسائل مطلوبة لمقاصدها.
ولما كانت الوسائل مطلوبة لإفضائها إلى المقاصد، كان سقوط اعتبار المقاصد يوجب سقوط اعتبار الوسائل على غرار ما تقدم من سقوط التابع بسقوط المتبوع.
ومن فروعها أن الكذب حرام لإفضائه إلى مفاسد جسيمة، لكن إذا كان فيه إنقاذ نفس من الهلاك فإن المقصد الأول يسقط اعتباره ويسقط به اعتبار الوسيلة، لأنها تنقلب إلى وسيلة تفضي إلى مصلحة.
والوسيلة إذا كانت تعبدية لم تسقط بسقوط مقصدها، وقد أشكل ذلك على الإمام القرافي فقال: ((وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس مَن لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر، فيحتاج إلى
دليل يدل على أنه مقصود في نفسه وإلا فهو مشكل على القاعدة)).
إذا زال المانع عاد الممنوع:
المانع هو ما يلزم من وجوده عدم وجود الحكم، ولا يلزم من عدمه وجود الحكم ولا عدمه، والممنوع هو المتأثر بالمانع، بحيث يحول المانع دون وجوده.
ومعنى القاعدة: أن المانع إذا ارتفع وال فإن الممنوع يرجع إلى حالة الجواز وإمكان الوقوع.
وهذه القاعدة أصلها: قياس العكس، وهو كما تقدم: إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لافتراقهما في العلة.
وبيان ذلك: أن هذه القاعدة متفرعة عن قاعدة أخرى هي أصل لها وهي: ((إذا وجد المانع زال الممنوع)) أي لم يصح إيقاعه بوجود المانع، وإذا كان وجود المانع يقتضي زوال الممنوع، فإن ذلك يلزم منه عن طريق
العكس أن زوال المانع يقتضي رجوع الممنوع إلى حالة الأولى.
وفروع هذه القاعدة كثيرة جداً، في العبادات والعادات والمعاملات، منها:
1 ـ إذا طهرت الحائض والنفساء، عاد الممنوع ـ وهو الصلاة والصوم ـ إلى حكمه الأول وهو الوجوب.
2 ـ إذا أوصى لوارث ثم صار ذلك الوارث محجوباً بوارث آخر فإن وصيته تصح.
----------------------------
* المصدر:نظرية التقعيد واثرها في اختلاف الفقهاء
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع