موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

محمد جواد مغنية
الطهارة


اهتم المسلمون كثيراً بالطهارة، ووضعوا فيها المؤلفات الطوال، ومرنوا عليها الأطفال، ودرسوها في معابدهم ومعاهدهم، واعتبرها أئمة الفقه شرطاً أساسياً لصحة العبادة، ولست أغالي إذا قلت: لم يهتم دين من
الأديان بالطهارة، كما اهتم بها الإسلام.
وهي في اللغة النظافة، وفي اصطلاح الفقهاء رفع حدث أو إزالة خبث، هو النجاسة المادية، كالدم والبول والعذرة. والحدث أمر معنوي يحدث للإنسان حين يصدر منه ما يمنعه من الدخول في الصلاة، ويوجب
الوضوء أو الغسل أو التيمم. والطهارة من الحدث لا تتم إلا بنية التقرب وطاعة الأمر بها، أما طهارة اليد والثوب والإناء من النجاسة فتتم عن غير نية، بل لو حمل الهواء الثوب المتنجس، وسقط في الماء الكثير
يطهر تلقائياً.
وتتحقق الطهارة من الحدث والخبث بالماء لقوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ) (سورة الأنفال/11). وقوله سبحانه: (وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً) (سورة الفرقان/ 48). والطهور هو الطاهر
بنفسه المطهر لغيره. ولما كان من الماء القليل والكثير، ومنه المعتصر من الأجسام، والممتزح بغيره، والباقي على أصل الخلقة، قسمهُ الفقهاء إلى قسمين: مطلق ومضاف.
الماء المطلق
1- الماء المطلق، هو الباقي على طبيعته، كما نزل من السماء، ونبع من الأرض، بحيث يصح أن يتناوله اسم الماء مجرداً عن كل وصف يخرجه عن أصل الخلقة، ويشمل ماء المطر والبحر والنهر والبئر، وكل ما
نبع من الأرض، وما أُذيب من البرَد والثلج.
ويبقى الماء على إطلاقه إذا تغير مما يعسر التحفظ منه ـ غالباً ـ كالمتغير بالطين والتراب، وطول المكث، أو بما يتساقط عليه من ورق الشجر. أو يتجمع فيه من التبن ونحوه، أو بما يكون في مقر الماء أو ممره من
الملح والكبريت وما إلى ذلك من المعادن، والماء المطلق طاهر ومطهر للحدث والخبث اتفاقاً وقولاً واحداً، أما ما روي عن عبد الله بن عمر من أن التيمم أحب إليه من ماء البحر فيرده قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من لم يطهره البحر فلا طهره الله".
الماء المستعمل
إذا أُزيلت النجاسة عن البدن أو الثوب أو الإناء بماء مطلق، وانفصل الماء عن المحل المغسول بنفسه أو بعصر سمي هذا الماء المنفصل بالغسالة عند الفقهاء أو المستعمل، وهو نجس، لأنه ماء قليل لاقى النجاسة
فينجس، سواء أتغير أم لم يتغير، وعليه فلا يرفع خبثاً ولا حدثاً.
وقال جماعة من فقهاء المذاهب: إذا انفصل هذا الماء عن المحل المغسول متغيراً بالنجاسة فهو نجس، وإلا كان حكمه حكم المحل الذي انفصل عنه، أنْ طاهراً فطاهر، وأن نجساً فنجس، وهذا لا يصح إلا إذا لاحظنا
المحل قبل ورود الماء عليه، وإلا فقد يطهر المحل المتنجس الذي صب عليه الماء، ويكون الماء المنفصل عنه نجساً لملاقاته للنجاسة.
وإذا استعمل الماء لرفع الحدث فهو طاهر غير مطهر على المشهور من مذهب أبي حنيفة، والظاهر من قول الشافعي وأحمد، وطاهر مطهر عند مالك في إحدى الروايتين عنه (المغني لابن قدامة ج1 ص19). وقال
الإمامية: الماء المستعمل في الوضوء والأغسال المندوبة، كغسل التوبة والجمعة طاهر ومطهر للحدث والخبث، أي يجوز أن نغتسل به ونتوضأ ونزيل النجاسة، أما الماء المستعمل في الأغسال الواجبة كالغسل من
الجنابة والحيض فقد اتفق علماؤهم على انه يزيل النجس، واختلفوا في رفعه للحدث وجواز الوضوء به والغسل ثانية فبعضهم أجاز، وبعضهم منع.
(فرع) إذا انغمس الجنب في الماء القليل بعد أن طهر موضوع النجاسة، ونوى رفع الحدث قال الحنابلة: صار الماء مستعملاً، ولم ترتفع الجنابة، بل يجب أن يغتسل ثانية. وقال الشافعية والأمامية والحنفية يصبح
الماء مستعملاً، ولكن ترتفع الجنابة، ولا تجب إعادة الغسل، (المغني لابن قدامة ج1 ص22 الطبعة الثالثة، وابن عابدين ج1 ص140 الطبعة الميمنية).
وقد كان ناس القرون الوسطى بحاجة إلى هذا الفرع وأمثاله من الفروع المدونة في مطولات الفقه، حيث كان الماء أغلى وأثمن من الزيت اليوم، أما الآن وبعد أن أجرى العلم الماء من أعماق الأرض إلى كل بيت في
أعالي الجبال فنعرض مثل هذا الفرع، كما تعرض الآثار التاريخية في المتاحف.
الماء المضاف
2- الماء المضاف هو ماء اعتصر من الأجسام، كعصير الليمون والعنب، أو ما كان مطلقاً في الأصل، ثم أضيف إليه ما يخرجه عن طبيعته، مثل ماء الزهر و"الكازوز" وهو طاهر، ولكنه لا يطهر النجاسة الخبيثة
باتفاق المذاهب إلا الحنفية، وقد أجازوا إزالة النجاسة بكل مائع غير الأدهان، إلا المتغير عن طبخ، ووافقهم السيد مرتضى من الأمامية.
واتفقت المذاهب أيضاً على انه لا يجوز الوضوء ولا الغسل بالماء المضاف، ما عدا الحنفية، فقد جاء في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (ص32) طبعة 1354ه‍ وكتاب مجمع الأنهر ص37 طبعة
استابنول: "قال أبو حنيفة بجواز الوضوء بنبيذ التمر في السفر". وجاء في ج1 ص12 من كتاب المغني لابن قدامة:
"مذاهب أبي حنيفة جواز الوضوء بالمضاف" وقال الشيخ الصدوق من الأمامية: "يصح الوضوء والغسل من الجنابة بماء الورد".
واستدل الحنفية على جواز الوضوء بالمضاف بالآية الكريمة: (فَلَمْ تَجْدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (سورة المائدة/6). قالوا: أن معنى الآية إذا لم تجدوا ماء مطلقاً ولا مضافاً، وعليه إذا وجد الماء المضاف لا يجوز
التيمم. وبهذه الآية ذاتها استدل أئمة المذاهب الأخرى على المنع، حيث قالوا: إن لفظ الماء في الآية ينصرف إلى الماء المطلق دون المضاف، وعليه يكون معنى الآية: إذا لم تجدوا ماء مطلقاً فتيمموا، وحينئذٍ يكون
وجود المضاف وعدمه سواء. وهذا هو الحق، لأنك إذا طلبت ماء من صاحب مقهى أو غيره لا يأتيك بالعصير أو الكازوز، ومن المعلوم أن موضوعات الأحكام الشرعية منزلة على إفهام العرف.
واختلاف أئمة الفقه في تفسير لفظ الماء في الآية يدلنا على انه كاختلاف الأدباء في معنى بيت من الشعر، وعلماء اللغة في تفسير كلمة لغوية. إنه اختلاف في الفهم والاجتهاد، لا في الأصول والمصادر.
------------------------------------
المصدر : الفقه على المذاهب الخمسة

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع