موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

الشيخ محمد مهدي شمس الدين
مرونة الشريعة الإسلامية النص نسبيته أو إطلاقيته، حركيته أو جموده



لقد قيل : إن مشروعية التشريع في منطقة الفراغ تجعل الشريعة الإسلامية مرنة على التكيف مع الحاجات المتجددة للمجتمع ومع التغيرات الطارئة عليه.
أقول: هذا الكلام يعبّر عن فكرة سائدة حكمت تفكير الإسلاميين وبعض الفقهاء في العصر الأخير. وهي فكرة دفاعية تبريرية، نشأت من رغبة في التوفيق بين الشريعة الإسلامية وواقع الحياة والمجتمع في صيغتهما
الغربية التي طبعت حياة المسلمين ومجتمعاتهم بطابعها.
أمّا خطأ الأساس، فهو من جهة أن الشريعة لم توضع "لتكيّف" نفسها مع نسق حياة منطقة تقودها أفكار ومفاهيم وخيارات وضرورات ناشئة من ثقافات أخرى ومن شرائع أخرى ـ كما هو الشأن في أوضاع المسلمين
بالنسبة إلى نمط الحياة الغربي ـ، فيطلب من الشريعة الإسلامية أن تكيف نفسها وفق هذا النمط وأفكار ومفاهيمه وخياراته وضروراته، ليبقى المسلمون مسلمين وليصوغوا في الوقت نفسه حياتهم وفق نمط الحياة
الغربي. بل وضعت الشريعة لتصوغ في حياة المجتمع وفق مفاهيمها وأفكارها، ولتكيّف حياة المجتمع والإنسان هذه المفاهيم، فيتحقق من ذلك "التطابق" بين الأفكار والمفاهيم في العقيدة والتشريع، وبين السلوك
والممارسة في الحياة الاجتماعية وعلاقات الإنسان بالمجتمع والطبيعة والعالم، فتكون الشريعة قد أدّت مهمتها في "صنع نمط" حياة الإنسان والمجتمع.
وأما خطأ الحل المفترض، فهو ارتكازه على فكرة "منطقة الفراغ التشريعي"، مع حصر سلطة التشريع الاجتهادي في الفقيه المتولي للحكم بناء على ولاية الفقيه العامة.
والخطأ في هذا الحل المفترض من وجوه:
الأول: فكرة "منطقة الفراغ التشريعي" من أساسها، فقد عرفت أن هذه الفكرة ليست صحيحة بالمعنى الذي يبدو أنه يراد منها. وأما بمعنى المبدأ الأصولي ـ الفقهي الذي ينطبق على أساسه "الحكم الثانوي" على موارد
"الحكم الأولي"، فهي مبدأ أساس في الشريعة وفي النظر الاجتهادي وفي الاستنباط، ولا تنحصر في دائرة ما يسمى منطقة الفراغ التشريعي.
الثاني: حصر سلطة التشريع الاجتهادي في الفقيه بما هو ولي الأمر وحاكم سياسي. مع أن هذه الأحكام "الولايتية" ليست أحكاماً شرعية بالمعنى المعهود للحكم الشرعي، بل هي إجراءات إدارية وتنظيمية وإرشادية
في الغالب تقتضيها ضرورات الإنسان والمجتمع وحاجاتهما.
الثالث: بناء المسألة كلها على مبنى "ولاية الفقيه العامة"، وعلى أساس "تشكل" الإسلام في دولة وفي نظام سياسي وصيغة حكم، مع أن الشريعة إذا كانت مرنة ـ وهي كذلك ـ فإذا مرونتها لازمة لها ذاتية فيها، وليست
رهناً برأي فقهي معين دون غيره. ومبنى ولاية الفقيه العامة لا يبني عليه كثير من الفقهاء، فهل تفقد الشريعة مرونتها عند من لا يذهب إلى ثبوت الولاية العامة للفقيه.
الصحيح في قضية مرونة الشريعة
الحق أن الشريعة الإسلامية مرنة، وفي النصوص الأسس ما يصرح بذلك، من قبيل قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
وما روي من قول النبي (ص): "بعثت بالحنيفية السمحة"، و"إن هذا الدين يسر ما غالبه أحد إلاّ وغلبه".
وهذه المرونة تتجلى في أن الشريعة تقبل ما لا يتنافى مع مبادئها وثوابتها في العقيدة، من دون اعتبار لمصدره، وفي أنها تحفز على الحركة الإيجابية في العالم وفي الطبيعة، وعلى تقدم الإنسان والمجتمع، ولا تحول
دون أية خطوة باتجاه التقدم الحضاري في جميع المجالات ما دامت لا تتنافى مع المفاهيم والقيم الأسس في العقيدة والشريعة.
وهذه المرونة ناشئة من أصل التشريع، حيث أن الأحكام الشرعية تتناسب مع اختيارات كثيرة للفرد والمجتمع في صيغ الحياة، ولا تقيد حركة الإنسان وحريته.
وفي أصل التشريع المبدأ القاضي بمراعاة حركة الحياة وتغيرها وما يطرأ من حالات مختلفة على الإنسان والمجتمع. ومراعاة ذلك تظهر في ملاحظة الفقيه "للعناوين الثانوية"، التي تؤثر على الأحكام الأولية،
فتغيرها إلى أحكام أخرى تتناسب مع "العناوين الثانوية" الطارئة على علاقة المسلم بالأشياء، وعلاقات المجتمع الداخلية والخارجية، وعلى الضرورات التنظيمية في المجالات كافة: سياسية واقتصادية وزراعية
وصناعية وبيئية، وغيرها. ومن أهم مجالات أعمال هذا المبدأ ما سمي ب‍: "مناطق الفراغ التشريعي" التي تناولها هذا البحث.
ومن أهم ما يتصل بما نحن فيه مسألة نطرحها أمام الفقهاء للبحث والتدبر، ولعلها من أهم ما ينبغي أن يبحث في الأصول، وهي: أن النظرة الفقهية السائدة إلى النصوص الشرعية في العبادات وغيرها، هي أن هذه
النصوص مطلقة وعامة في الزمان والمكان والأحوال. ولا يرفع اليد عن إطلاق النص إلا بمقيد أو مخصص لفظي أو لبّي، أو بأن يتضمن قرينة داخلية على ذلك.
هذا مع أننا أن نصوص الشريعة في السنة تشريعات لحياة متحركة متغيرة كثيرة التقلبات، وليست صيغاً جامدة ثابتة على هيئة واحدة. والقسم الوحيد الثابت في الشريعة هو قسم العبادات، فإننا نعلم أن العبادات ثابتة
لا تتغير فيها ولا تبديل، ولا مجال فيها للاجتهاد من حيث شروطها ومواقيتها وكيفيتها وإعدادها. وما فيها من خلافات بين الفقهاء لا يتعدى تفصيلات بعض الشروط والهيئات والأجزاء.
وأما المعاملات ـ بالمعنى الأوسع ـ فإنها ـ كما ذكرنا ـ تشريعات لحالات متقلبة متغيرة لا تستقر على هيئة واحدة، وخاصة ما يتعلق من ذلك بالنواحي التنظيمية للمجتمع، وكافة أنشطته السياسية والاقتصادية
والزراعية والصناعية والسكانية: المدنية الحضرية والريفية، وما يتصل بالثروات العامة والمرافق العامة.
وقد درج الأصوليون والفقهاء على اعتبار أن الوضع الأصلي للنص هو الوضع الذي وصل إلينا، إن كان عاماً أو مطلقاً فهو كذلك أبداً وإن كان خاصاً أو تعبداً فهو كذلك أبداً، ولا يرفع اليد عن إطلاقه أو عمومه أو
خصوصه إلا بدليل مخصص أو مقيد أو ملغ للخصوصية يسمح بالتعميم والإطلاق.
فهل جميع نصوص السنة ـ في غير العبادات ـ تعبّر عن تشريعات ثابتة في عمومها أو إطلاقها أو خصوصها أو تقييدها، بحيث لا يمكن تكييفها بتخصيصها أو تقييدها بالحالات الطارئة على المجتمع والأمة، لا
بالعناوين الثانوية، بل باعتبار أصل التشريع، من قبيل الأمثلة التي ذكرت عن النبي (ص) في بيع الثمرة قبل نضجها، وفضل الماء والكلأ، وأكل لحوم الحمر الأهلية، بحيث لا يجوز للفقه أن ينظر إلى النص
التشريعي على ضوء أوضاع الواقع المعيش وضروراته التي تجري عليها حياة الناس وعلاقاتهم في المجتمع، بل يجب عليه أن يمجد على فهم النص كما هو من غير اعتبار لواقع الحياة من حوله؟
أو أن الأمر على خلاف ذلك، وأن في الشريعة ـ في غير العبادات التي لا ريب في ثباتها ـ نصوصاً تشريعية ثابتة ومطلقة في الزمان والمكان والأحوال، لا مجال لتأويلها أو إعادة تفسيرها أو إدخال أي تغيير بالتعميم
أو التخصيص على مدلولها، وفيها كذلك نصوص تعبر عن تشريعات اقتضتها ظروف الزمان أو المكان أو الأحوال، فهي نسبية بنسبية ظروفها وأحوالها ومكانها وزمانها، من قبيل التي مر ذكرها، فقد يسأل سائل عن
حالة تخصه أو تخص منطقة جغرافية يسكنها أو تخص ظرفاً خاصاً يمر فيه أو حالاً خاصة يمر بها السائل فيجيبه النبي (ص) أو الإمام (ع) "أو الصحابي" بجواب يتعلق بحالته وظرفه وخصوصية زمانه ومكانه،
فيكون ما أجابه به "حكمه الخاص" وحكم الحالات المشابهة والمماثلة لحالته، فيكون النص في حقيقة الحال نسبياً وليس مطلقاً لجميع الأحوال والأزمان والأقوام والأشخاص؟.
وفي هذه الحالة على الفقهاء ـ في عملية الاجتهاد والاستنباط ـ ألاّ ينظروا إلى النص على أنه تشريع مطلق على كل حال، عليهم أن يفسحوا مجالاً للنظر في كونه تشريعاً "نسبياً" لحال دون حال وظروف دون آخر،
وأن يبذلوا جهودهم في اكتشاف حقيقة الحال من هذه الجهة، وألاّ يكتفوا بكون النص وصل إلينا مطلقاً ومجرداً من الخصوصيات، في الحكم بإطلاقه في الزمان والمكان والأحوال والأقوام، وشريعة للأمة كلها في
جميع أزمانها وأحوالها وظروفها وتقلباتها، فيجمدوا عليه كذلك في مقام الاستنباط.
---------------------------------
المصدر : الاجتهاد والحياة

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع