والكلام هنا ذو شقين أحدهما في جواز العمل به. والآخر في وجوبه:
أولاً ـ جواز العمل به: ذهب الأكثرون إلى جواز التعبد به عقلاً.
والأقلون منعوا منه عقلاً.
واختلف المجوزون في وقوع التعبد به فمنهم من قال وقع التعبد به،
ومنهم من قال لم يقع. وقد اتفق الذين قالوا بوقوع التعبد به على أن
الدليل السمعي دل عليه واختلفوا في الدليل العقلي.
أما الذين قالوا لم يقع التعبد به فقد افترقوا إلى ثلاث فرق قالت
إحداها إنه لم يوجد ما يدل على كونه حجة فوجب القطع بأنه ليس بحجة.
أما الثانية فقالت: إنه جاء في الأدلة السمعية ما يدل على أنه ليس
بحجة.
وقالت الثالثة: إن الدليل العقلي قائم على امتناع العمل به.
وقد اتفق الكل على جواز العمل بخبر الواحد في الأمور الدنيوية
والمعاملات كالفتوى والشهادة.
أدلة كل منهم:
استدل الذين قالوا بجواز التعبد به عقلاً بأنهم لو فرضوا ورود
الشارع بالتعبد بالعمل بخبر الواحد إذا غلب على الظن صدقه لم يلزم
عنه لذاته محال في العقل ولا معنى للجائز العقلي سوى ذلك وغاية ما
يقدر في
اتباعه احتمال كونه كاذباً أو مخطئاً وذلك لا يمنع من التعبد به
بدليل اتفاقهم على التعبد بالعمل بقول المفتي والعمل بقول
الشاهدين، مع احتمال الكذب والخطأ على المفتي والشاهد فيما أخبرا
به.
واعترض على ذلك بأنه لو سلم ورود الشرع بالتعبد بالعمل بخبر الواحد
لم يلزم عنه لذاته محال لكنه محال عقلاً باعتبار أمر خارج عن ذاته
وذلك لأن التكاليف مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد.
فلو تعبد بخبر الواحد وأخبر بخبر رسول الله بسفك دم واستحلال بضع
مع احتمال كونه كاذباً فلا يكون العمل به مصلحة بل محض مفسدة.
أما ما ذكر من التعبد بقول الشاهدين فهناك فرق بين الشهادة والخبر.
1 ـ فالشهادة تقبل فيما يجوز فيه الصلح وفيما يتعلق بالدنيا وليس
كذلك في الخبر.
2 ـ أخبار الآحاد تقبل في إثبات شرع، والشهادة بأن زيداً قتل أو
سرق لا يثبت بها شرع.
3 ـ إن الحكم عند الشهادة إنما يثبت بدليل قاطع وهو الإجماع،
والشهادة شرط لا مثبت بخلاف خبر الواحد فإنه عندكم دليل مثبت للحكم
الشرعي.
وأجيب عن الاعتراض الأول بأنه مبني على وجوب رعاية المصالح في
أحكام الشرع وأفعاله وهو غير مسلم.
وأجيب عن الثاني بأن ما ذكروه منتقض بورود التعبد بقبول شهادة
الشهود وقول المفتي وما ذكروه من فروق فباطل.
وأجيب على الفرق الأول بأن الشهادة مقبولة فيما لا يجوز فيه الصلح
كالفروج وإراقة الدماء ويلزمهم جواز التعبد بخبر الواحد في أحكام
البياعات وغير ذلك.
وأما أمور الدنيا فهي كأمور الدين فيما نحن بسبيله لأن الوجوب
والقبح يدخل كل واحد منهما فيها، والعبادات الشرعية إنما وجبت
وقبحت بكونها مصالح فيما يتعلق بالدنيا من القتل وغيره.
فإذا جاز أن يجب علينا ما ذكرناه من أمور الدنيا بحسب الظن جاز ذلك
في الشرعيات.
وقد قبلت الشهادة في أمور شرعية كرؤية الهلال والحد وهو أمر شرعي
قبلوا فيه شهادة الاثنين.
وأجيب عن الثاني بأنه لا فرق بينهما لأنه علم عند الشهادة أن قتل
المشهود عليه شرع والدليل على ذلك ما دل على وجوب العمل بالشهادات.
وعند خبر الواحد علم أن العمل به شرع والدليل على ذلك ما دل على
وجوب العمل بخبر الواحد. فلا فرق بينهما إلا أن الحكم يثبت بالخبر
في الجملة وبالشهادة يثبت على عين، وهذا غير قادح في تعلق الحكم
الشرعي بالظن، على أن الغرض بإثبات الحكم في الجملة بخبر الواحد
تعلقه على الأعيان. فإذا جاز إثباته في الأعيان بخبر مظنون جاز
إثباته في الجملة، لأن الغرض بالجملة الأعيان.
وأجيب على الفرق الثالث بأنه لا فرق بين الخبر والشهادة من حيث أنه
لا بد عند الشهادة من دليل يوجب العمل بها كما في العمل بخبر
الواحد لا بد من دليل يدل على وجوب العمل به.
واستدل الذين منعوا جواز التعبد به عقلاً بدليلين:
أحدهما: أن خبر الواحد يحتمل الكذب فالعمل به عمل بالجهل وهو قبيح
عقلاً، والعقل لا يجيز العمل بالقبيح.
الثاني: أن امتثال أمر الشرع والدخول فيه يجب أن يكون بطريق علمي
ليكون المكلف فيه على يقين وأمان من الخطأ فيه.
وأجيب على ذلك بأن ما ورد في الشرع من التعبدات الظنية ينقض قولهم
وذلك كالحكم بالشهادة والعمل بقول المفتي وهو واحد والاجتهاد في
القبلة إذا اشتبهت جهتها في وقت الصلاة ونحوها من الأمارات الشرعية
فإن جميعها إنما يفيد الظن وقد وقع التعبد به فما المانع من التعبد
بخبر الواحد.
ثانياً ـ وجوب العمل به:
اختلف الذين قالوا بالجواز في وجوب العمل به، فذهب الجمهور إلى
وجوبه ولكنهم اختلفوا في دليل الوجوب.
أدلة كل منهم:
استدل القائلون بوجوبه عقلاً بعدة أدلة:
1 ـ أنه لو اقتصر العمل على الأدلة القطعية من كتاب أو سنة متواترة
لتعطلت الأحكام لندرة القواطع وقلة مدارات اليقين، كما لو وقعت
واقعة ولم يجد المفتي سوى خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت
الواقعة عن حكم
الشارع، وهذا ممتنع لأنه على خلاف مقتضى الشرع ومقصوده. إذ مقتضى
الشرع ومقصود الشارع تعميم الوقائع بالأحكام ليكون ناموسه قائماً
ظاهراً في كليها وجزئيها وإنما يتحقق ذلك بالعمل بأخبار الآحاد
لأنها
وردت في كثير من الجزئيات.
ويرى الغزالي أن هذا الاستدلال ضعيف لأن المفتي إذا فقد الأدلة
القاطعة يرجع إلى البراءة الأصلية الاستصحاب كما لو فقد خبر الواحد
أيضاً.
2 ـ بعث الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً (ص) إلى الناس كافة قال
تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً).
ويحتاج ذلك إلى إنفاذ الرسل لأنه عليه الصلاة والسلام لا يقدر على
مشافهة الجميع ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر لكل أحد.
وقد ضعف الغزالي هذا الاستدلال أيضاً وقال فليقتصر الرسول (ع) على
من يقدر على تبليغه، ومن لم يبلغه الشرع كالذي يعيش في البلاد
النائية والجزائر المنقطعة فلا يكلف به، فليس تكليف الجميع واجباً
إلا إذا
تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ولا يخلى واقعة عن حكم الله تعالى
ولا شخصاً عن التكليف فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة في
حقه.
3 ـ إذا غلب على الظن صدق الراوي فيه ترجح وجود أمر الله تعالى
وأمر الرسول (ع)، فيكون في العمل به دفع ضرر مظنون وذلك لأنه إذا
ورد بإيجاب شيء أو حظره حصل لنا الظن بأنا معاقبون على ترك
الواجب وفعل المحظور فالعقاب عليهما ضرر مظنون، وفي العمل به دفع
هذا الضرر المظنون وهو واجب عقلاً.
وأجيب على ذلك بأنه مع احتمال الكذب فربما يكون عملنا على خلاف
الواجب، ثم ما المانع من القول بأنه لا يجب العمل بقوله ولا يجب
تركه، بل هو جائز الترك. والقول بأن مخالفة أمر الرسول موجب
لاستحقاق
العقاب مسلم به فيما علم فيه أمر الرسول أما فيما لم يعلم فيه فهو
محل الخلاف.
أما من منع وجوب العمل به عقلاً فاستدلوا بأمرين:
الأول: فيه إلزام القائلين بوجوب العمل بخبر الواحد وهو انه لو كان
حجة في العمليات لكان حجة أيضاً في الاعتقاديات قياساً لها على
العمليات وليس كذلك باتفاق.
وأجيب على ذلك بأن العلة التي اقتضت وجوب العمل بخبر الواحد في
العمليات ليست موجودة في الاعتقاديات لأن المطلوب في العمليات هو
العمل ويكفي في ذلك الظن، والمقصود في الاعتقاديات الاعتقاد
المطابق
للواقع على سبيل الوجوب فلا يكفي في ذلك الظن. فإن قيل إن العلة في
وجوب العمل هي منع الضرر مطلقاً سواء كان مظنوناً أو مقطوعاً به
وهذا القدر المشترك موجود في العمليات والاعتقاديات.
أجيب على ذلك بأنه غير مسلم لأن الضرر الذي ينشأ عن الخطأ في
النبوات والاعتقادات هو الكفر بخلاف العمليات التي هي الفروع فإن
المجتهد إذا أخطأ فيها لا إثم عليه بل يكون مأجوراً مرة.
بالإضافة إلى ذلك تعذر القطع في كل مسألة فرعية، فكان من الضروري
أن يعمل فيها بالظن حتى لا تتعطل أحكام الوقائع المتجددة على
الدوام بخلاف أتباع الأنبياء والاعتقاد لأنها نصبت أدلتها في الأرض
والسماوات والأنفس والآفاق.. قال تعالى: (إن في خلق السماوات
والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب).
الدليل الثاني:
أن الله سبحانه وتعالى أناط أحكامه بمصالح العباد تفضلاً منه
وإحساناً فكان لا بد من معرفة تلك المصالح بالقاطع ولا يكفي في ذلك
الظن لأن الظن لا يغني من العلم شيئاً، وقد يجعل الظن الحاصل من
خبر الواحد ما
ليس بمصلحة مصلحة لأنه يخطئ ويصيب فلا يعول عليه.
وأجيب على ذلك بأن هذا منقوض بالفتوى والأمور الدنيوية فإن الدليل
جار فيها مع أن قول الواحد مقبول فيهما باتفاق.
واستدل من منعه شرعاً بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم).
أي لا تتبع ما لا علم لك به وخبر الواحد لا يوجب العلم فلا يجوز
اتباعه والعمل به بظاهر هذا النص.
وقد أنكروا قول من قال إن العلم ذكر نكرة في موضع النفي (ما ليس لك
به علم) فيقتضي انتفاء العلم أصلاً، ولكن خبر الواحد يوجب نوع علم
وهو علم غالب الظن الذي سماه الله تعالى علماً في قوله سبحانه: (فن
علمتموهن مؤمنات) فلا يتناوله النهي، لأنه لو سلم إفادته الظن فإن
الظن محرم الاتباع بقوله تعالى: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا
الظن وإن الظن لا يني من الحق شيئاً).
وقد ردت هذه الأدلة بعدة أمور:
أولاً: أن الحكم في الدين بمجرد الظن واتباع الظواهر جائز بإجماع
العلماء فيكون المتبع هو الإجماع وهو قاطع.
ونجد له صوراً كثيرة كالعمل بالفتوى والعمل بالشهادة، والاجتهاد في
طلب القبلة وقيم المتلفات وأروش الجنايات والقصد والحجامة وسائر
المعالجات فهي بناء على الظن، وكذلك كون هذه الذبيحة ذبيحة مسلم
مظنون
لا معلوم، والحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون وينبني على
هذا الظن أحكام كثيرة مثل التوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرها
وقال (ص): ((نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر)) وذلك تصريح
بأن الظن معتبر.
ثانياً: أنه مؤول بما المطلوب فيه اليقين، فهذه النصوص وإن كانت
ظاهرة في العموم لكنها مخصصة بما يطلب فيه اليقين من أصول الدين
كوحدانية الله تعالى وتنزيهه عما لا يليق به، أما الفروع فقد ثبت
العمل فيها
بالظن.
أما الذين قالوا بوجوب العمل بخبر الواحد فقد استدلوا بالكتاب
والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة
ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
قالوا إن الله سبحانه وتعالى تعبدنا بقبول خبر كل طائفة خرجت
للتفقه ثم أنذرت قومها وهذا صفة خبر الواحد. يبين ذلك أنه سبحانه
أوجب على كل طائفة خرجت من فرقة الإنذار وهو الإخبار المخوف عند
الرجوع
إليهم.
وإنما أوجب الإنذار طلباً للحذر لقوله تعالى: (لعلهم يحذرون).
وكلمة لعل للترجي والترجي من الله تعالى محال فيحمل على الطلب
اللازم وهو من الله تعالى أمر فيقتضي وجوب الحذر.
والثلاثة فرقة والطائفة منها إما واحد أو إثنان.
فإذا روى الراوي ما يقتضي المنع من فعل وجب تركه لوجوب الحذر على
السامع وإذا أوجب العمل بخبر الواحد أو الإثنين هنا وجب العمل به
مطلقاً.
قيل لو سلم وجوب الحذر عند الإنذار فإنه لا يسلم أن الإنذار هو
الإخبار فإن الإنذار من جنس التخويف فتحمل الآية على التخويف
الحاصل من الفتوى، بل هذا أولى لأنه أوجب التفقه لأجل الإنذار
والتفقه إنما يحتاج
إليه في الفتوى لا في الرواية.
أجيب على ذلك أن حمله على الفتوى متعذر لوجهين:
الأول: أنه لو حمل على الفتوى لاختص لفظ القوم بغير المجتهد لأن
المجتهد لا يجوز له العمل بفتوى المجتهد والتقييد غير جائز لأن
الآية مطلقة في وجوب إنذار القوم سواء كانوا مجتهدين أو لم يكونوا
كذلك، أما إذا
حمل على رواية الخبر فإنه كما يروي لغير المجتهد يروي للمجتهد.
الثاني: أن من شرب النبيذ فروى إنسان له خبراً يدل على أن شاربه في
النار فقد أخبره بخبر مخوف ولا معنى للإنذار إلا ذلك فصح وقوع اسم
الإنذار على الرواية.
وأنكروا على من قال إن الطائفة اسم للجماعة بدليل لحوق هاء التأنيث
بها فلا يصح حملها على الواحد والإثنين لأن المتقدمين اختلفوا في
تفسيرها فقيل هي اسم لعشرة وقيل لثلاثة وقيل لإثنين وقيل لواحد.
ولو حمل على أكثر ما قيل وهو العشرة لا ينتفي توهم الكذب عن خبرهم
ولا يخرج خبرهم عن الآحاد إلى التواتر.
قيل لو كان المراد بالآية خبر الواحد لما دلت على وجوب العمل به من
وجهين أحدهما أنه لا يمتنع أن يجب الإنذار على من خرج للتفقه ولا
يجب على المنذر القبول، كما يجب على الشاهد أن يشهد ولا يجب على
الحاكم أن يحكم بشهادته ويجب على كل واحد من المتواترين أن يخبره
ولا يجب على السامع أن يقول على خبره وحده فيما طريقه العلم.
ويجب على من خوف بالقتل إن لم يدفع ماله أن يدفعه ويقبح من المخوف
أخذه.
ورد ذلك بأنه لم يستدل على وجوب المصير إلى الإنذار بوجوب الإنذار
وإنما الاستدلال بقوله عز وجل: (لعلهم يحذرون).
وذلك إما أن يكون تعبداً بالحذر أو إباحة له وأي الأمرين كان، فقد
بطل مذهبهم إذ أن الحذر لا يكون إلا بالرجوع إلى موجب الخبر.
والوجه الآخر: يجوز أن يكون قد أوجب على من نفر الإنذار لكي يحذر
من سمعه إذا انضاف إلى المنذر غيره حتى يتواتر إنذارهم واخبارهم.
ورد ذلك لأن ما ذكروه يعني أن الحذر يكون عند تواتر الخبر لا عند
إنذار من نفر منهم للتفقه والآية تقتضي أن يحذروا عند إنذاره
ولأجله.
كما لو قال انسان لغيره جالس الصالحين لعلك تصلح.
أفاد ذلك كون مجالستهم سبباً لصلاحه لا غير، لأنه ما علق صلاحه غلا
به فكذلك قوله: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) أي
يحذروا عند إنذاره.
أما السنة:
فقد روي عن الرسول (ص) أنه قال: نصر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها
وأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من
هو أفقه منه.
في هذا الحديث ندب رسول الله (ص) إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها
كما سمعت والامرؤ واحد وهذا يدل على أن الرسول (ع) لا يأمر أن يؤدي
عنه إلا ما تقوم به الحجة فهو يخبر بالفقه والفقه في الدين حجة.
وقد صح عن رسول الله (ص) قبوله خبر الواحد فقد قبل خبر سلمان في
الهدية والصدقة فقد روي أن سلمان عندما سمع بمقدم النبي (ع) إلى
المدينة أتاه بطبق فيه رطب ووضعه بين يديه فقال: ما هذا؟ فقال:
صدقة،
فقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل. ثم أتاه من الغد بطبق فيه رطب، فقال:
ما هذا يا سلمان؟ فقال: هدية، فجعل يأكل ويقول لأصحابه كلوا.
وقد اشتهر واتفاض بطريق التواتر عن النبي (ص) أنه بعث الأفراد وهم
أحاد إلى الآفاق لتبليغ الرسالة وتعليم الأحكام وقبض الصدقات وحل
العهود وتقريرها فبعث أبا بكر والياً على الحج في سنة تسع أقام
للناس
مناسكهم وأخبرهم عن رسول الله ما لهم وما عليهم.
وبعث علي بن أبي طالب في تلك السنة فقرأ عليهم يوم النحر آيات من
سورة براءة، وولي عمر على الصدقات.
وقد ثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا بالآحاد وحاجوا بها في
وقائع كثيرة من غير نكير فكان ذلك إجماعاً على قبولها وصحة
الاحتجاج بها.
فمن ذلك ما تواتر من احتجاج أبي بكر يوم السقيفة على الأنصار بقوله
(ع): ((الأئمة من قريش)). وقد قبلوه من غير إنكار.
وقد يقال أن ما ذكر في إثبات حجية خبر الواحد هي أخبار آحاد وهذا
يتوقف على كونها حجة فيحدث الدور.
فأجيب على ذلك بأن هذه الأخبار وإن كانت أخبار آحاد لكنها متواترة
من جهة المعنى.
وقد يقال من أين إنهم بأجمعهم عملوا بأخبار الآحاد؟
قيل: إنهم كانوا بين عامل بها وساكت عن إنكارها، فدل على رضاهم
بالعمل بها.
ورد ذلك بأنه لعل بعضهم كان ناظراً متوقفاً عن العمل فلا يكونون
مثقفين على ذلك.
أجيب بأنه لو كان كذلك وكان العمل بها منكراً، لكان إنكاره واجباً
فيكونون قد اتفقوا على ترك الواجب لأنهم بأجمعهم قد تركوا إنكاره.
ورد قول من قال إنه لا يوجد دليل يدل على أنهم اقتصروا في عملهم
على خبر الواحد وأنه ربما كانت هناك أدلة أخرى من نصوص متواترة أو
أخبار آحاد اقترن بها قياس أو قرائن أحوال لأن سياق تلك الأخبار
دلت على أنهم عملوا بها وحدها بدليل قول عمر لو لم نسمع بهذا
لقضينا برأينا.
فإن قيل إن ما ذكر من أدلة في قبول خبر الواحد معارض بإنكارهم إياه
في وقائع أخرى، فإن أبا بكر أنكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى
انضم إليه محمد بن مسلمة وأنكر عمر خبر فاطمة بنت قيس في السكنى
وأنكرت السيدة عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه،
ورد علي خبر معقل بن سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وأجيب على
ذلك بأن إنكارهم هذه الأخبار كان لأسباب عارضة من وجود
معارض أو فوات شرط لا لعدم الاحتجاج بها أصلاً، فرد أبي بكر خبر
المغيرة كان للتثبت وعندما انضم إليه خبر محمد بن مسلمة وقبله لم
يخرجه عن كونه خبر آحاد.
أما رد عمر خبر فاطمة بنت قيس فلأنه كان ناسخاً للآية أو مخصصاً
لها وكثير ممن قبلوا خبر الواحد كانوا لا يقبلونه في تخصيص أو نسخ
القرآن على أن قول عمر: ((لا ندع كتاب ربنا)) يقتضي ترك الكتاب
أصلاً
وذلك نسخ.
وقوله: ((لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت)) يفيد انه اعتقد فيها
أنها غير ضابطة لما تسمعه وهذه العلة غير موجودة فيمن يضبط.
وأما رد السيدة عائشة حديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه فلأنه كان
معارضاً لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
وأما رد على حديث معقل بن سنان فلعدم ثقته بالراوي، بدليل قوله: ((لا
ندع كتاب ربنا لقول أعرابي بوال على عقبيه)).
الإجماع:
أجمعت الأمة على قبول خبر الواحد في المعاملات، فإن العقود كلها
بنيت على أخبار الآحاد مع أنه قد يترتب على خبر الواحد في
المعاملات ما هو حق لله تعالى كما في الإخبار بطهارة الماء ونجاسته،
والإخبار بأن
هذه الجارية أو هذا الشيء أهدى إليك وأجمعوا أيضاً على قبول شهادة
من لا يفيد قوله العلم مع أنها قد تكون في إباحة دم واستباحة فرج
وإقامة حد وأجمعوا كذلك على قبول قول المفتي للمستفتي.
المعقول:
قال البزدوي: ((إن الخبر يصير حجة بصفة الصدق، والخبر يحتمل الصدق
والكذب، وبالعدالة بعد أهلية الإخبار يترجح الصدق وبالفسق الكذب
فوجب العمل برجحان الصدق ليصير حجة للعمل. ويعتبر احتمال
السهو والكذب لسقوط علم اليقين وهذا لأن العمل صحيح من غير علم
اليقين ألا ترى أن العمل بالقياس صحيح بغالب الرأي وعمل الحكام
بالبينات صحيح بلا يقين فكذلك هذا الخبر من العدل يفيد علماً بغالب
الرأي
وذلك كاف للعمل.
ومما سبق وبعد استعراض لآراء العلماء في العمل بخبر الواحد ودليل
كل منهم فإني تفق مع الإمام الغزالي في أن الصحيح هو الذي ـ ذهب
إليه الجمهور من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء
والمتكلمين
وهو أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلاً ولا يجب التعبد به
عقلاً وأن التعبد به واقع سمعاً.