موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علم الحديث

د.محمد الكتاني
السنة النبوية بين التوثيق والتأصيل

بما أن السنة هي وصف تلك الحياة النبوية، فقد اعتبرت بالنسبة للقرآن بمثابة الانتقال من النظرية إلى التطبيق.
ولمعنى السنة اصطلاحاً علاقة وثيقة مع معنى السنة لغة. فالسنة لغة هي الطريقة المعبدة، وهي السلوك أو السيرة التي يسيرها المرء، مرضية كانت أو مذمومة. وهذا ما يدل عليه قول الشاعر الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها وأول راض سنة من يسيرها
وفي القرآن ترد السنة بمعنى القانون المطرد من مثل قوله تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً).
واستقر المعنى في المجال الأخلاقي على دلالة السيرة مرضية أو مذمومة. قال صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة ضلال فاتبع عليها كان عليه مثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. ومن سن سنة هدى فاتبع عليها كان له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء".
والرسول نفسه سمى كلامه حديثاً، أو سمى توجيهاته حديثاً، حسب ما نفهم من حديث أبي هريرة حين جاءه يسأله عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث".
لقد اعتبرت السنة النبوية في الثقافة الإسلامية باعتبارين أساسيين على الأقل:
فاعتبرت في عرف علماء الحديث اعتبارا يطابق الحياة النبوية بدقائقها وتفاصيلها وأفعالها وآثارها. فهي مرآة النبوة التي ينعكس فيها كل ما يتطلع المسلم لمعرفته. ومن ثَمَّ عُنوا بها كاملة من غير نظر إلى ما يترتب عليها من أحكام الحلال والحرام والمندوب والمكروه والمباح، كما عني الفقهاء. ومن أجل ذلك عنوا بروايتها كاملة، وعنوا بطرق روايتها وأسانيدها وصفات تلك المرويات نفسها من حيث مراتب الصحة والحسن والقوة والضعف.
واعتبرت في عرف الفقهاء والأصوليين اعتبارا آخر يعني كونها أصلاً من أصول التشريع الإِسلامي، بل عدوها بمثابة الأصل القاضي على القرآن. والمتحكم فيه. فضلاً عن اعتبارها بمثابة البيان الأقوى أو الأوضح أو المفسر للحكم القرآني. واعتبروها لذلك مدار الاستنباط للأحكام ومستند الفقه والتشريع.
ومن المعلوم أن علماء الإِسلام لا يختلفون في ضرورة الأخذ بالسنة النبوية واعتبارها مصدراً من مصادر الإِسلام، ولكنهم يختلفون في كيفيات ومناهج هذا الأخذ، ويختلفون في تقدير السنة عندما ينظر إلى الاختلاف في طرق روايتها، وفي توثيق ما روي منها. فعندئذ يقع الخلاف حولها. ومن المعلوم أيضاً أنه ترتب، بالنسبة للفقهاء والمحدثين، ما ترتب من اتجاهات مختلفة حول علاقة السنة بالقرآن.
ـ فهناك اتجاه اعتبار القرآن والسنة في مرتبة واحدة، فكلاهما في نظر أصحاب هذا الاتجاه وحي من عند الله. إلا أن الفرق بينهما هو أن القرآن موحى بلفظه ومعناه، فهو معجز متعبد بتلاوته. وأن السنة مُوحى بها بالمعنى لا باللفظ. ولذلك لم يتعبد بتلاوتها، ولا تضمنت معنى الإعجاز. وهذا الاتجاه ينظر إلى القرآن والسنة من منظور اعتبارهما أصلاً للإسلام من حيث التشريع والأحكام، ومن ثم لا يقدم أحدهما على الآخر، وإنما يساوي بينهما.
ـ وهناك اتجاه تقديم القرآن على السنة، لأن الكتاب مقطوع به جملة وتفصيلاً لتواتره. والسنة مظنونة، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل. والمقطوع به مقدم على المظنون. ولأن أدلة الحديث نفسه تدل على هذا التقديم. مثل حديث معاذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم حين سأله: بِمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله، فإن لم تجد، قال: فبسنة رسول الله.
ـ وهناك اتجاه ثالث جاء بمثابة رد فعل للاتجاه الثاني، وهذا الاتجاه يقدم السنة على القرآن، ويقول: إن السنة تقضي على الكتاب، وليس الكتاب يقضي على السنة، لأن الأمر في القرآن مثلاً يحتمل معنيين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما، فيرجع حينئذ إلى السنة، لأنها حددت المقصود من ذلك الأمر العام. ولذلك قال أصحاب هذا الاتجاه: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب" قاله الأوزاعي (ـ 157ه‍).
ويظهر أن المحدثين كانوا بهذا الموقف الأخير يحصنون مواقعهم داخل المجتمع الإِسلامي، وداخل الثقافة الإِسلامية، ويضطرون بحكم هذا الاتجاه إلى جعل موضوع علمهم أو اختصاصهم يفوق كل اختصاص علمي آخر داخل المجتمع الإِسلامي أو داخل الثقافة الإِسلامية.
ولا شك في أن الصراع كان قائماً بين المحدثين وبين علماء الكلام، لأن منطق أولئك هو دعم النقل والأخبار، ومنطق هؤلاء هو العقل والتأويل للنصوص إن تعارضت مع العقل. والمحدثون ردوا على علماء الكلام، وخاضوا مشكلات العقيدة بزاد قليل من الفكر. وجل دلائلهم ترديد الأخبار والأحاديث. والمتكلمون شككوا في الأخبار، واستدلوا على ضعفها وانتحالها في حين كان المحدثون يركنون إلى التقليد ويرفضون منطق العقل. فاتسعت الهوة بينهما.
وقبل تحديد مكانة السنة من الكتاب، ومكانتها في التشريع، ودورها في توجيه الفكر الإِسلامي يتعين علينا أن ننظر في أمرين أساسيين يحددان تلك المكانة. أما الأمر الأول فهو توثيق السنة النبوية لبيان مدى صحة ما يستند إليه من نصوصها. الأمر الثاني يتعلق بتلك النصوص نفسها من حيث ورودها بلفظها ومعناها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو ورودها بالمعنى فقط كما ورد الخبر بذلك.
وننظر في الأمر الأول، وهو توثيق السنة النبوية التوثيق العلمي الذي يسمح بالاعتماد عليها باعتبارها أصلاً من الأصول التي نستمد منها العقيدة والشريعة. وأهمية هذه المسألة لا تخفى على أحد، فإن المشككين في قيمة السنة من ناحية التوثيق نظروا إلى القرآن من ناحية توثيقه فوجدوه نصاً مقطوعاً به متواتر القراءة بغير خلاف، فهو مفيد بحد ذاته العلم الذي يتضمنه باعتباره وحياً من الله.. فنحن نقرأه كما نزل، وكما تلاه قبلنا المسلمون جيلاً بعد جيل. إلى منتهاه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على ملك الوحي جبريل. أما الحديث فمنقول إلينا على سبيل الأخبار التي يمكن وصفها بأنها كانت في معظمها من باب خبر الآحاد، فهي لذلك ليست متواترة بالمعنى الدقيق للتواتر. وحيث إنها كذلك فهي تفيد الظن ولا تفيد العلم.
فكيف جمعت السنة ورويت، وثبت ما ثبت منها؟
إن جمع السنة أو الحديث النبوي ـ وإن تأخر زمانه عن الجمع الثالث للقرآن في المصحف الإمام ـ كان في القرن الأول موكولاً في الأعم الأغلب إلى الحفظ في الصدور. مع التقييد لبعض الحديث في صحف وكتب أو كراريس كانت معروفة عند بعض الصحابة، وذلك ما ينبغي أن يغير الصورة التي يتخيلها بعض الدارسين عن تأخر جمع الحديث إلى أوائل القرن الثالث، وأن الحديث كان لا ينقل إلا شفاها وتتحكم فيه الذاكرة وحدها.
لقد شاع لدى الدارسين. أن ابتداء عهد التدوين الرسمي القوي والمكثف للسنة النبوية إنما تحقق في القرن الثالث أو قبله بقليل، على صورة متميزة. ويرجعون في هذا الرأي إلى المصنفات نفسها التي تم إنجازها في جوامع ومسانيد وموطآت. مستندين أيضاً إلى آراء بعض علماء السلف أنفسهم.
إن بعض المسلمين كتبوا القرآن حين سمعوه من الرسول. أسوة بالنبي صلى الله صلى عليه وسلم حين كان يأمر بكتابة الوحي عقب نزوله. وأن من كان منهم يحسن الكتابة ويستعملها في مآربه كان يكتب ما يبلغه أو يتلقاه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم بحيث جمع بعض الصحابة ما جمعوا من الأحاديث في صحيفة أو كراس أو كتاب. وتتضارب الروايات في هذا المجال. بحيث ينبغي أولاً أن نقف على بعضها قبل استنتاج ما يمكن استنتاجه منها:
أولاً: هناك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الكتابة واستعمالها في تدوين الحديث. وهو نفسه موضوع اختلاف.
1) فقد روى الخطيب البغدادي في كتابه (تقييد العلم) بالسند المتصل عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن" وقال الصغاني غير القرآن. ثم اتفقا: "فمن كتب عني غير القرآن فليمحه" وقال: "حدثوا عني، ولا تكذبوا علي. ومن كذب علي ـ قال همام أحسبه قال ـ "معتمداً" فليتبوأ مقعده من النار".
وذكر للحديث طرقاً أخرى تنتهي كلها إلى أبي سعيد الخدري.
وهناك حديث آخر لأبي سعيد الخدري مسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا سعيد الخدري استأذن الرسول في الكتابة لحديثه فلم يأذن له.
وفي نفس الاتجاه يروي الخطيب البغدادي عن أبي هريرة قوله: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نكتب الحديث أو الأحاديث، فقال: ما هذا الذي تكتبونه؟" قلنا: "أحاديث سمعناها منك". قال: "أكتابا غير الكتاب الله تريدون، ما أضَل الأمم من قبلكم إلا ما كتبوا من الكتب مع كتاب الله". قال أبو هريرة. "أفنُحدث عنك يا رسول الله؟ قال: نعم، حدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". وفي روايات أخرى عن أبي هريرة تزيد: قلنا: "فنتحدث عن بني إسرائيل؟" قال: "حدثوا ولا حرج. فإنكم لم تحدثوا عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه" قال أبو هريرة: "فجمعناها في صعيد واحد فألقيناها في النار". هذا لفظ حديث القطيعي، والآخر بمعناه، إلاّ أنه قال فيه: "أكتاب مع كتاب الله؟ أمحضوا كتاب الله وأخلصوه".
ويورد نفس المصدر المذكور الروايات عن إحراق عمر للكتب غير القرآن. وأنه كان ينوي جمع السنة فعدل عن ذلك وعن محو بعض الصحابة لما كتبوه أو كتب عنهم. خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن.
ذكر الخطيب البغدادي أحاديث تبيح الكتابة وتؤكد إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة بكتابة حديثه. منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لبعضهم "استعن على حفظك بيمينك" وذلك عن طريق أبي هريرة بِعدة أسانيد، بل يورد حديثاً يحبذ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم تقييد العلم بالكتاب. أي الكتابة. ويستشهد على وجوب الكتابة للعلم بقوله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله، ذلكم أقسط عند الله، وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا).
فقال معلقاً: "وفي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب أنه قيد العلم دليل على إباحة رسمه في الكتب، لمن خشي على نفسه دخول الوهم في حفظه، وحصول العجز عن إتقانه وضبطه.
ثم ذكر أيضاً حديث أبي هريرة: "ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده فاستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب عنه ما سَمِع، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان يكتب بيده ويعي بقلبه. وأنا كنت أعي بقلبي".
ثم أورد أحاديث أخرى في ضرورة تقييد العلم بالكتاب وان الصحابة كانوا يكتبون.
ثانياً: هناك الوقائع والأخبار المسايرة لكل من الاتجاهين:
1) فقد انتقى المحدث البحاثة الشيخ عبد الحي الكتاني من بين نصوص الأخبار والأحداث التي اطلع عليها في مختلف مصادر السنة النبوية والتاريخ الإسلامي. فأكَّد من خلالها أن التدوين والجمع وقعا في زمنه عليه السلام، من ذلك ما كتبه صلى الله عليه وسلم لأهل الإِسلام في الشرائع والأحكام. ومنها كتابه عن الصدقات وكان عند أبي بكر. ومنها كتابه في نصاب الزكاة وغيرها الذي كان عند عمر. وكتابه إلى أهل اليمن بأنواع الفقه وأبواب مختلفة في الزكاة والديات والأحكام، وذكر الطلاق والعتاق وأحكام الصلاة. وأن كتاب عمرو بن حزم في الفرائض والسنن والصدقات مشهور شهرة تغني عن الإسناد كما قال ابن عبد البر.
ومنها كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأطراف والولاة، فقد كانت من إملائه على كُتَّابه، ومنها طلبه تقييد أسماء من تلفظ بالإِسلام عام الحديبية حيث كان لديه صلى الله عليه وسلم ما يشبه قوائم المسلمين حسب أسبقيتهم إلى الإِسلام والهجرة والنصرة.
---------------------------------------------
المصدر : جدل العقل والنقل في مناهج التفكير الإسلامي

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة علم الحديث