موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
علم الحديث

د. محمود إسماعيل
تطور العلوم النقلية إبّان عصر الازدهار

في القرن الأول، جرى تأسيس البناء النظري لمذهب أهل السنة المحافظ الذي عوّل على الحديث في دعم هذا البناء. فضلاً عن الحاجة الماسة له في التشريع باعتباره مصدره الثاني. كذلك ظهرت مصنفات أهل السنة في الحديث على يد علماء ستة، اعتبروا ((الستة الصحاح)) هم البخاري (ت 256هـ ) ومسلم (ت 261هـ ) وأبو داود (ت 279هـ ) والنسائي (ت 303هـ ) والترمذي (ت 229هـ ) وابن ماجه (ت 273هـ ).
ومن الملاحظ أن معظم هؤلاء كانوا من سكان بلاد ما وراء النهر التي شهدت نُظَماً سنية متعصبة، كالسامانيين والغزنويين. ويعد الإمام البخاري رائد هؤلاء المحدثين الذين تأثروا بمنهجه ونسجوا على منواله. وتلاه الإمام مسلم في شهرته وكان له رحلة ـ كسابقه ـ إلى الحجاز والعراق والشام ومصر من أجل جمع الأحاديث النبوية وتبويبها في ((صحيحهما))، ونعلم أنهما اضطهدا في العصر السابق لعدم قولهما ((بخلق القرآن))، ولمعا في عصر الإقطاعية بحيث أصبحا أنموذجيين لمحدثي السنة. وفي ذلك دلالة على تأثير المعطيات السوسيو ـ سياسية.
اشتهر البخاري ومسلم ومَن تلاهما من بقية ((الستة الصحاح)) بكثرة الأحاديث، وأضافت الأجيال التالية من هذه المدرسة السنية الكثير من الأحاديث الأخرى التي لم ترد عند الستة الصحاح. وفي ذلك دلالة على تفشي ظاهرة الوضع والانتحال لتبرير نظرية أهل السنة التي بناها أبو الحسن الأشعري من ناحية، والتقاعس عن توظيف منهج ((الجرح والتعديل)) لنقد الأحاديث المضافة من ناحية أخرى. ونلاحظ أن معظم تلك الأحاديث الموضوعة اكتست طابعاً سياسياً مذهبياً، قوامه النيل من الشيعة ـ على نحو خاص ـ الذين تعاظم مذهبهم ونجحوا في تأسيس دولتين عظميين، هما الدولة البويهية والدولة الفاطمية.
اتسمت مناهج محدثي السنة عموماً بالنصية، خصوصاً محدثي المذهبين المالكي والحنبلي. فغلب عليها الاهتمام ((بالأسانيد)) على حساب ((المتن)). إذ اشتهر المحدث ابن يونس الصفدي (ت 347هـ ) بالحفظ والسماع أكثر من اعتماده على الرحلة والتحقق من صحة ما رواه السلف.
بديهي أن يروج هذا المنهج عند محدثي السنة في الغرب الإسلامي الذي غلب عليه مذهب مالك. مثال ذلك نجده عند القاضي عياض في المغرب مؤلف كتاب ((الإلماع في أصول علم الحديث ومبادئه))، الذي حذا فيه حذو المشارقة واكتفى بشرح مصنفاتهم. وفي الأندلس صنف أحمد بن حزم المنتجيلي (ت 350هـ ) مصنفات في الحديث ((على غرار المشارقة)) أيضاً. لقد كان هؤلاء وغيرهم مجرد ناقلين ومقلدين، وحسبنا أن أحداً منهم لم يقم برحلات علمية لجمع الأحاديث.
هذا في الوقت الذي عول فيه محدثو الرأي من المعتزلة والشيعة على الرحلة والجمع والنقد، فكان منهجهم ـ بشهادة باحث ثقة ـ ((منهجاً متيناً دقيقاً)). ولعل ذلك كان من أسباب اضطهادهم ـ خلال قرن الإقطاعية ـ ورميهم بتهم المروق والزندقة، وإثارة العوام وتأليبهم عليهم. نتيجة لذلك، لم نقف على أثر لمصنفات محدثي الرأي في تلك الفترة. بل إن بعضهم ـ خوفاً وتقية ـ اضطر لمجاراة محدثي السنة في مناهجهم، الأمر الذي عرضهم لانتقاد شيوخ مذاهبهم، حيث وصفوهم بالكذب والافتراء.
لقد تعرض محدثو المعارضة للاضطهاد، فضربوا بالسياط، وصودرت ممتلكاتهم وعاشوا في خصاصة ومسغبة، بينما تعاظم نفوذ محدثي السنة وسمت مكانتهم الاجتماعية والأدبية وأنعم عليهم النظام الحاكم بالأموال والضياع.
هذا عن علم الحديث خلال قرن ((الإقطاعية))، أما عن تطور هذا العلم خلال قرن ((الصحوة)) التالي، فكان تطوراً ملموساً. من القرائن الدالة على ذلك ظهور ((علم أصول الحديث)) وعلوم أخرى مساندة، لم توجد سلفاً، أسهم محدثو الرأي فيها بالنصيب الأوفر، وجاراهم بعض محدثي الأثر في ذلك تمشياً مع التحولات السياسية والاجتماعية خلال هذا القرن.
فالقاضي عياض المحدث المالكي ـ بعد تطور المالكية وفتحها باب الرأي والقياس ـ ألّف في ((أصول علم الحديث))، والحاكم النيسابوري (ت 405هـ ) الشيعي أسس علم ((مصطلح الحديث))، فضلاً عن ((علم الناسخ والمنسوخ من الأحاديث)). كما صنفت كتب في نقد الرواة، من أشهرها كتاب ((رواية الآباء عن الأبناء))، وآخر في ((رواية الصحابة عن التابعين))، وثالث في ((تقسيم الرواة إلى أنواع))، وكلها من تصنيف أبي بكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ ). وألّف الكرابيسي (ت 387هـ ) المحدث كتاباً في ((أسماء الرواة وألقابهم)) يعد من أهم الكتب التي أُلّفت في هذا الموضوع.
لم تكن تلك الطفرة في تأصيل علم الحديث، إلا نتاجاً لمعطيات ((عصر الصحوة البورجوازية الثانية)). من تأثيرات تلك المعطيات أيضاً، ما جرى من تجديد مناهج محدثي السنة بالعودة إلى ((الجُرح والتعديل)) والميل إلى الرأي والقياس، فلم يجدوا غضاضة في نقد ومراجعة مجاميع ((الستة الصحاح)) وتبيان ما انطوت عليه من تناقضات ووضع. كما ألفوا مصنفات جديدة، وجمعوا أحاديث أغفلها السلف أثبتوها في كتب تعرف باسم ((المستدركات))، من أشرها ما صنفه أبو الحسن الدارقطني (ت 385هـ ) من السنة، والحاكم النيسابوري من الشيعة، اللذان أثبتا بالبرهان ما فات الجامعين الأول من أحاديث صحيحة.
هذا فضلاً عن جهود محمودة بذلها محدثو ((عصر الصحوة)) في تصحيح ما لحق الأحاديث التي جمعها السلف من أخطاء التصحيف، فألف الدارقطني والخطيب البغدادي كُتُباً تعالج ((تصحيفات الحديث)) عولوا فيها على منهج ((الجرح والتعديل)). ناهيك بترسيخ منهج جديد في دراسة الحديث، هو منهج ((الاستنباط)) بغية الكشف عما لحق بالأحاديث من تحريف وتزوير، وأفادوا في ذلك من دراية دقيقة بمعرفة الرواة. وأخيراً صنفوا كتباً في ((أصول نقد الحديث)) تكامل بناؤها خلال القرن الخامس الهجري.
لم تقتصر تلك الطفرة العلمية في ازدهار علم الحديث على قلب العالم الإسلامي، بل سرت مع رياح ((الصحوة البورجوازية)) في سائر الأرجاء بفضل تعاظم التبادل التجاري وتزايد الرحلة في طلب العلم وتقاطر وتضاعف الحجيج نتيجة تعبيد الطرق وتأمينها من قبل النظم الحاكمة ((المتبرجزة)).
ففي الأندلس ـ على سبيل المثال ـ غلب الرأي على المدرسة المالكية في الحديث، وتماهى الأثر والنقل إلى حد بعيد. مصداق ذلك أن ابن القوطية (ت 366هـ ) المحدث ابتكر مذهباً يختلف عما كان سائداً عند محدثي العصر السابق أساسه ((العناية بالمعنى قبل اللفظ))، كما كان ابن فطيس المحدث (ت 401هـ ) حافظاً للحديث معللاً له. أما رزين بن معاوية العبدري (ت 524هـ ) فقد كتب في نقد ((الستة الصحاح)) كتاباً عنوانه ((تجريد الصحاح الستة))، وكتب ابن عبدالبر كتابه ((التمهيد لما في الموطأ من المعارف والأسانيد))، جمع فيه بين الفقه والحديث، وأصبح من أهم مصادر التشريع في أندلس ((عصر الصحوة)). وقد أفضى التراكم المعرفي في ميدان علم الحديث إلى ظهور ((معاجم)) عن المحدثين وأحاديثهم، من أشهر مَن كتب في هذا الباب ابن الدباغ القرطبي (ت 393هـ ).
برغم تطور منهجية محدثي السنة صوب الرأي والقياس، فقد نقدهم محدثو الشيعة والمعتزلة الذين فتحوا الباب على مصراعيه في هذا الصدد. ويخيل إلينا أن هذا النقد ليس معرفياً صرفاً، وإنما حفزته عوامل سوسيو ـ سياسية. فقد انبرى محدثو السنة بالمثل لانتقاد خصومهم من الشيعة والمعتزلة متهمين إياهم بالتأثر بالغنوصية وعلم اليونان وحكم الفرس والهنود بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ولعل هذا الصراع السياسي كان من أسباب تعويل سائر الاتجاهات على النهل من تلك المصادر وانتحال الأحاديث لتبرير مواقفها السياسية.
ما يعنينا هو أن المنهج المنحاز للرأي والقياس، أصبح في ((عصر الصحوة)) قاسماً مشتركاً بين سائر مدارس الحديث، وإن تفاوتت في الدرجة. الدليل على ذلك ما روي عن أحاديث أجمع عليها سائر المحدثين حول العقل وتمجيده، بعد أن كان قد تماهى وأوشك أن يختفي خلال القرن السابق. وفي ذلك دلالة لا يرقى إليها لاشك حول تأثير الواقع السوسيو ـ سياسي في المعرفة، حتى لو كانت ذات طابع ديني مقدس.
* سوسيولوجيا الفكر الاسلامي
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة علم الحديث