من القضايا التشريعية الكبرى التي وقع الخلاف
فيها هي حجية سنّة الصحابي واعتبارها مصدراً للأحكام بعد الكتاب
والسنّة النبوية. ويتركز الخلاف بين مدرسة الشيعة الإمامية وبين
المذاهب الفقهية الإسلامية الأخرى حول:
1 ـ تعريف الصحابي.
2 ـ اعتبار ما صدر عن الصحابي سنة واجبة الاتباع، ومصدر هذا
الوجوب.
ولنعرض موجزاً للآراء ووجهات النظر التي تبناها العلماء على اختلاف
نظرياتهم، عند بيان هذه المسائل وتعريفها كالآتي:
1 ـ تعريف الصحابي: لقد تحدثت معاجم اللغة عن الصحبة والصاحب
فعرّفته ((الصاحب الملازم، إنساناً كان، أو حيواناً، أو مكاناً أو
زماناً، ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن، وهو الأصل والأكثر،
أو بالعناية والهمة .. ، ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت
ملازمته)).
وإذا كان هذا هو تعريف الصحابي في العرف واللغة، فلنقرأ تعريف ابن
حجر للصحابي الذي يعتبر تعريفاً نموذجياً في الاتجاه السني، قال:
((الصحابي مَن لقي النبي (ص) مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل في
مَن لقيه مَن طالت مجالسته له أو قصرت، ومَن روى عنه أو لم يرو
عنه، ومَن غزا معه أو لم يغزُ، ومَن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومَن
لم يره لعارض كالعمى)).
أما الشيعة الإمامية فقد اعترضوا على هذا التعريف وناقشوه محتجين
بالعرف واللغة لمفهوم الصحابي والتجربة التأريخية، فرفضوا أن يسمى
مَن رأى النبي مرة أو زاره أو جلس في مجلسه سائلاً أو عاش في عصره،
وهو بعيد عنه ... أن يسمى صاحباً، ولهذا حصروا تسمية الصحابي بمن
آمن بالنبي (ص) ولازمه (ص) ملازمة ـ كما ينص التعريف اللغوي والفهم
العرفي ـ وسمعه، وأخذ عنه واقتدى به، وشاركه في مسيرته المباركة
مجاهداً وداعياً إلى الله.
وليس هذا حسب، بل تصنف الشيعة الإمامية الصحابة إلى درجات من حيث
العلم والجهاد والتقوى والعدالة، ولا تضعهم في مستوى واحد،
مستشهدين بالواقع التأريخي وطبيعة التكوين البشري والسنة النبوية،
وشهادة القرآن في عشرات الآيات بتفاوت من أسلموا وعاشوا في عصر
النبي في التفاعل معه والاستجابة له، كقوله تعالى: (ومنهم مَن يقول
ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا) التوبة/ 49، (ومن الناس
مَن يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة
انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة) الحج/ 11، (يقولون إن بيوتنا
عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً) الأحزاب/ 13، (ومنهم مَن
يلمزك في الصدقات فإن أُعطوا منها رَضوا وإن لم يُعطَوا منها إذا
هُم يَسخطون) التوبة/ 58.
في حين يصف فريقاً آخر فيقول: (ومن الناس مَن يشري نفسه ابتغاء
مرضاة الله والله رؤوف بالعباد) البقرة/ 207.
كما يخصص فئة من المؤمنين بقوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما
عاهدوا الله عليه فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر وما بدلوا
تبديلاً) الأحزاب/ 23.
فكلّ أولئك كان قد آمن بالنبي، ولقيه، وعاش معه. والقرآن صريح في
الفرز والتصنيف، وسلب صفة العدالة عن البغض ممن يطلق عليهم تعريف
ابن حجر اسم الصحابي.
وفي بيان الرسول (ص) تفسير لدلالة عشرات الآيات الدالة على ذلك،
فقد روي عنه قوله (ص): ((ألا إنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات
الشمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول
كما قال العبد الصالح: وكنتُ عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما
توفيتني كنتَ أنت الرقيب عليهم، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين
على أعقابهم منذ فارقتهم)).
وهذا الإمام علي (ع) يقول لأبي سفيان بعد أحداث السقيفة: ((إنك
والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام
شراً، لا حاجة لنا بنصيحتك)).
من ذلك كله خلصت الدراسة التحليلية للمجتمع النبوي في مدرسة الشيعة
الإمامية إلى أن ليس كل مَن أعلن إسلامه، ولقي الرسول (ص) يتصف
بالعلم والعدالة، فأفراد ذلك المجتمع كغيرهم من أفراد المسلمين
يخضعون للجرح والتعديل، فمنهم العدول الأجلاء العلماء، ومنهم مَن
أخبر الرسول (ص) عنه في حديثه الآنف الذكر، ومنهم مَن يحتاج إلى
مَن يبين له أحكام الشريعة، ويفسر له محتواها.
ويتطابق مع فهم الشيعة الإمامية للصحابي وعدالته ما أورده ابن حجر
العسقلاني الشافعي عن المازري من تعريف للصحابي في شرح البرهان،
والذي نصه: ((لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كلّ مَن رآه النبي (ص)
يوماً ما، أو زاره لُماماً، أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب، وإنما
نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه
أولئك هم المفلحون)).
وأسّست الشيعة الإمامية على ذلك أن ليس كل مَن يوصف بأنه صحابي
بمقتضى التعريف الذي وضعه ابن حجر يمكن الاعتماد على روايته والأخذ
عنه، فضلاً عن اعتبار سنته ـ من فتوى وعمل ـ مصدراً للاستنباط
والفتوى كما تذهب بعض المذاهب الفقهية الأخرى. قال ابن القيم
الجوزية في اعلام الموقعين: أصول الأحكام عند الإمام أحمد خمسة:
((الأول: النص، والثاني: فتوى الصحابة، فعمل الصحابي على خلاف عموم
القرآن دليل على التخصيص، وقول الصحابي بمنزلة عمله ... )). وقال
أبو حنيفة: ((فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله أخذت بقول
أصحابه، آخذ بقول مَن شئت وأدع مَن شئت ... )).
ويستفاد من الاستدلال على وجوب الأخذ بسنة الصحابي أنه يعتمد بشكل
أساسي على حديث: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) وهذا
الحديث قد ضعّفه علماء الرجال فقد قال فيه ابن القيم: ((موضوع))،
وضعّفه الذهبي وقال في راوي الحديث جعفر بن عبدالواحد الهاشمي ـ
بعد أن نقل آراء العلماء في ضعفه وكذبه ـ : ((ومن بلاياه حديث
أصحابي كالنجوم)). وقال ابن تيمية: ((حديث أصحابي كالنجوم. ضعّفه
أئمة الحديث، فلا حجة فيه)).
وكما اعتُمد على حديث أصحابي كالنجوم في اعتبار ما صدر عن الصحابي
سنة يجب الأخذ بها، اعتمد كذلك على حديث: ((عليكم بسنتي، وسنة
الخلفاء الراشدين، المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ)).
ولنقرأ سند هذا الحديث ونحقق في أحوال رواته، فهم كالآتي: ((حدثنا
علي بن حجر، حدثنا بقية بن الوليد عن بُجير بن سعد عن خالد بن
معدان عن عبدالرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن ساربة، قال:
وعظنا رسول الله (ص) يوماً ... )) ثم ذكر النص الآنف الذكر،
وبدراسة سند الحديث يتضح لنا أن بقية ابن الوليد غير موثق ومتهم
عند علماء الرجال. نذكر من تلك الشهادات قول ابن عيينة: ((لا
تسمعوا من بقية ما كان في سنّة ... )).
أما يحيى بن معين فقد قال في بُقية بن الوليد: ((إذا حدّث عن
الثقات مثل صفوان بن عمرو وغيره، فأما إذا حدث عن أولئك المجهولين،
فلا، وإذا كنّى ولم يسمِّ اسم الرجل، فليس يساوي شيئاً ... )).
وقال أبو مسهر: ((بقية أحاديثُهُ ليست نقية، فكن منها على تقية)).
وقال ابن حجر عنه: ((وقال البيهقي في الخلافيات: أجمعوا على أن
بقية ليس بحجة)).
وأما عبدالرحمن بن عمرو السلمي فنقل ابن حجر فيه: ((زعم القطان
الفاسي أنه لا يصح لجهالة حاله)).
وهكذا يسقط هذا الحديث بسقوط سنده.
وفي دراستها لرواية الصحابي وفقهه ترى المدرسة الإمامية أن الصحابي
راوٍ تخضع روايته للتحقيق العلمي، وأن لا إلزام بعمله وفتواه غلا
بقدر ما يسندها الدليل من الكتاب أو السنة النبوية.
* المصدر : التشيع (نشأته , معالمه)