موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الحقوق والحريات

الحرية بين الجمود والتغريب
. رفيق حبيب
 


أزمة الحرية في مجتمع تقليدي، هي عنوان الكثير من الجدل الدائر في حياتنا الثقافية. والأهم من ذلك، أن الحرب الشرسة التي يشنها وكلاء الغرب في أمتنا، ضد الحركات الإسلامية، يدور جزء أصيل منها حول إشكالية الحرية، باعتبار أن الحل الإسلامي في جميع صوره وتنويعاته، معاد للحرية. لذلك، تكتسب القضية أبعاداً مهمة، وخاصة عندما يصور البعض التغريب بوصفه سبيلاً لممارسة الحرية، والعودة للتراث وإحيائه، بوصفهما عائقاً أمام ممارسة الحرية. وهذا الخطاب، يفجر قضية القهر والحرية، حتى يلصق بالتراث صفة القهر، وينسب الحرية للحضارة الغربية.
والحرية في الحضارة الغربية، لها دلالات مختلفة، عن تلك التي يمكن أن تفرزها في حضارتنا، لأن ممارسة الحرية في الغرب، هي ممارسة للاختيار الفردي في حدود مسموح بها أصلاً. وتلك هي الإشكالية الحقيقية، لأن ممارسة الحرية في الغرب، ليست ممارسة ضد قيم الحضارة الغربية، ولكنها ممارسة في حدود قيم الحضارة الغربية. وبالتالي فأية ممارسات ضد قيم الحضارة الغربية، ليست محلاً لفعل الحرية، بل محلاً للمنع.
لذلك، يختلط مفهوم الحرية، كما ينادي به وكلاء الغرب، في سياقنا. لأنه يبدو بالنسبة لنا وكأنه حرية مطلقة. لأن سلوك الإنسان الغربي، في الكثير من جوانبه، يخترق حدود المقدسات في حضارتنا، مما يجعلنا نظن أن الحرية مطلقة من قيود المقدس. ويتبع ذلك أن ممارسة الحرية حسب المفهوم الغربي، في سياقنا الحضاري، تعد نوعاً من الفوضى، لأنها تتجاوز معظم مقدساتنا، وبالتالي تصبح حرية متعالية على الثوابت. فالدعوة للحرية الغربية لا يتبعها نزع مقدساتنا، وغرس مقدسات الآخرين، لأنه أمر عسير في الواقع. وبالتالي، تصبح تلك الدعوة لممارسة حرية، دون تحديد للثوابت والمقدسات، وهو ما يؤدي للفوضى الشاملة.
من هنا يؤدي التغريب لأزمة حرية، لا لإقرار مبدأ الحرية، أي أنه يؤدي لعكس ما يبغي وما ينادي به. فالحرية الغربية، كأحد أدوات فكر التغريب، تخلق مناخاً من تجاوز المقدسات مما يدفع للمزيد من الاعتراض على تلك الحرية. والدليل على هذا في المجتمع نفسه، فرغم أن وكلاء الغرب يدعون للحرية الغربية، ورغم أن النظام السائد والحاكم مقتبس في معظمه من الغرب، ورغم أن قيم الأمة ومقدساتها متنحية عن السيادة، ومغتصبة منها السلطة، فإن المجتمع لا يستجيب لتلك الدعوة. معنى ذلك، أن الدعوة للحرية الغربية، والتي يفترض فيها أن تقدم (لتحرير) المجتمع، لا تجد استجابة، بل رد فعل معادياً، مما يؤكد أن المجتمع لا يحتاج إلى هذا (التحرير)، بل يصر على الالتزام بقيمه ومقدساته، مؤكداً بذلك أن هذا الالتزام اختيار حر، وليس قهراً كما يظن وكلاء الغرب.
ولكن أزمة الحرية، ليست وليدة التغريب فقط، بل هي وليدة التدهور والانحطاط أيضاً. بل إن التدهور يسبق التغريب في اعتدائه على الحرية. لأن التدهور والانحطاط، يعني فقدان الأمة للقدرة على التطور، وتردي أوضاعها، وسيادة الركود، وتراجع الإبداع، وكلها حالات مفضية لتراجع الفكر، ودور العقل، والعلم، وبالتالي فهي حالة تؤدي إلى الجمود بكل أشكاله. والجمود يعني الالتزام بأوضاع سابقة، رغم تغير الحال. وفي النهاية، فإن الضحية هو فعل الاجتهاد والتجديد. ونستطيع أن نؤكد، أن الأمة العربية والإسلامية، إبان عصر تدهورها، ومنذ القرن السابع عشر أو قبله، قد أغلقت باب الاجتهاد، أي تراجعت عن الاجتهاد والتفكير، تعبيراً عما تمر به من أزمات، وفقدها لآليات التطور، والشلل الذي أصاب أبنيتها.
تلك الحالة، التي تعبر عن نفسها في حكم ظالم، أو حاكم ظالم، أو علم في الحواشي والهوامش، أو فكر يتمسك باجتهاد السلف ويعجز عن منافسة تلك الاجتهادات، هي حالة مفضية للجمود بكل ما تعنيه في الحياة، رمزاً وفعلاً. والجمود في ظني، هو تثبيت للمتغير، كما أن التغريب هو تغير للثابت. فالجمود، هو موقف يجعل (المتغير) في حياتنا مقدساً لا يمكن المساس به. كما أن التغريب، هو موقف يجعل (الثابت) في حياتنا متغيراً تنزع منه القداسة، ويستحل تجاوزه وعدم الالتزام به.
وفي الدين، فإن الأصول ثابتة، والفروع متغيرة، والنص ثابت، وتفسيره متغير. ولذلك فإن الفكر الديني، عندما يصل لمرحلة يجعل فيها الفروع أصولاً، والتفسير في قداسة النص، والفقه ثابتاً مثل الشريعة، عندما يصل الفكر إلى هذه المرحلة، يجعل لاجتهادات السلف قداسة، تجبّ أي اجتهادات أخرى، فيصبح الخلف أسيراً للسلف. وكأن نهاية الفكر والاجتهادات والتجديد قد حلت بالأمة. ومن هنا الجمود، الذي يسحب رخصة الحرية، ويقفل على اللاحق أن ينافس السابق، وأن يجد مثله، ويجتهد مثله.
ولان التغريب عكس الجمود ومضاد له تماماً، فحلقة المواجهة بينهما زادت من حدة كليهما، وكانت الضحية هي الحرية الحقيقية، نعني حرية الإنهاض والإبداع والإحياء، وأخيراً التجديد. فالتغريب في صلبه، نقل لنماذج من خارج مقدسات الأمة، وبالتالي لا يتحقق إلا بنزع القداسة عن (المقدس). والجمود في مضمونه توسيع لمجال القداسة، لتشمل المقدس وغير المقدس. فكلاهما حركة مضادة للآخر، وفعل معاد، ومعركة بل حرب في مجال القيم، هي أفتك من الحروب العسكرية، وأشر بلاء من الحروب الأهلية.
لذلك نظن أن الجمود في بدايته أدى إلى صدمة الوافد. فعندما احتكت أمتنا بالحضارة الغربية، حال استسلامها للجمود والتردي، صدمت الأمة بما أنجزه الآخرون، ودرجة تقدمهم وما أبدعوه. والمقارنة بين حال أمة في تدهورها، وأمة في تقدمها، مقارنة صادمة.
وهو ما أفضى إلى الانبهار بالغرب، وأدى إلى هزيمة عقل الأمة، ومن العقول المهزومة، ظهر فريق يحاول أن يتوحد مع المنتصر، ويتبنى حضارة الغرب. ولعل الحرية كانت أحد أهم إشكاليات هذه اللحظة. لأن الشعوب في تدهورها تفتقد الحرية، وفي تقدمها تتميز بالحرية، من حيث إن الجمود معادي لحرية التجديد. والتقدم دافع وناتج عن حرية التجديد.
ولكن، لدى وكلاء الغرب، كانت الصدمة سبباً في ا لالتحاق بالغرب، ونقل قيمه وأفكاره ونماذج حياته. وكانت الدعوة للحرية الغربية، تجد طريقها لدى النخبة المثقفة. مما شكل مناخاً جديداً، يتميز بأمة تتمسك بذاتها، ولكن من خلال الجمود المحافظ على التدهور، ثم سياق محيط بها يفجر قيمها ومقدساتها من أساسها، ويدعوها للحرية المتحررة من مقدساتها. وكانت النتيجة أن الجمود أصبح سلاح الأمة في وجه التغريب، ووسيلتها لحماية مقدساتها. فلم يعد (الجمود) حالة وصلت لها الأمة بسبب تدهورها، بل أضيف له أسباب أخرى تجعله وسيلة للحفاظ على الأمة. وبعد أن كان الجمود حالة نحتاج إلى أن نتجاوزها، أصبح حالة تحمي وجودنا.
والضحية هي احتمالات النهضة، بوصفها فعلاً حراً خلاقاً، ينبع من قيم الأمة ومقدساتها، ويحمل مشعل الاجتهاد والتجديد. ولأن هذا الفعل يحتاج إلى إعادة اكتشاف المقدس، وتأكيد قداسته، ونزع القداسة عن غير المقدس، ولأنه فصل بين قيم الأمة واجتهادات السلف، لذلك كله، كان فعل النهضة وسيظل، مغامرة لها ثمنها للخروج من حالة الجمود، وكسر أطواق التحجر، وفتح نوافذ العقل. وخروج الأمة من جمودها، هي لحظة اضطراب، يعاد فيها توصيف الثابت، وتحديد المتغير، ثم تغيير المتغير، وإبداع الجديد، إفعالاً للثابت وتحقيقاً لهدفه وغايته النهائية.
ولكن فعل النهضة أصبح تحت طوق الحصار، بين فعلي الجمود والتغريب، والمعركة الدائرة بينهما هي من أجل حفاظ الأمة على مقدساتها، حتى بات فعل النهضة متهماً بأنه متحالف مع فعل التغريب، أو أنه يمهد له الطريق. فبسبب الهجمة التغريبية الشرسة، أصبح للجمود حركات، وصار للجمود سلاح، يجعل العنف وسيلة لفرض الجمود المحافظ على مقدسات الأمة، حتى وإن حافظ على قدر من تدهورها، في سبيل عدم التهاون في ميراثها. وفي هذا المناخ، تراجعت احتمالات النهضة عقوداً طويلة، وأصبح فعل النهضة مواجهاً بالجمود والتغريب، وإن كان ضد قيم التغريب، ومع مقدسات الأمة التي تم الحفاظ عليها بالجمود.
والحرية بمعناها الحقيقي، هي درجات على سلم النهضة. فالنهضة، بوصفها تجديداً، هي أعلى درجات الحرية، وقبلها درجات أقل، وقبلها كلها الجمود، وبعدها الفوضى. ونعني بذلك أن ممارسة الحرية، هي مساحة للفرد والجماعة في ضوء ما اتفقت عليه الأمة. وعندما تكون الأمة في طور تراجعها، فإن اتفاقها يميل إلى حصر حرية الفرد والجماعة في نطاق ضيق، ويميل النظام المتفق عليه إلى درجة عالية من الصرامة. وعندما تكون الحرية هي مساحة للفرد والجماعة، بدون أي قيود من اتفاق الأمة، فإن ذلك ليس سوى الفوضى الشاملة. أما فعل النهضة، فهو ممارسة للحرية، في حدود مقدسات الأمة، ولكنه يتجاوز ما اتفقت عليه الأمة من أوضاع ونظم وممارسات حالية. ولذلك فهو قمة ممارسة الحرية، تلك الحرية الخلاقة المبدعة. والممارسة هنا، تعني محاولة صياغة أوضاع جديدة للحياة، وابتكار نظم، ومفاهيم، وأفكار، وقوانين، من شأنها أن تعيد تجديد حيوية الأمة وشبابها، وتضيف لها قوة جديدة، وطاقة متجددة، من خلال إعادة إحياء مقدسات الأمة، في طرق ونظم ووسائل جديدة، تضيف معنىً جديداً لتلك المقدسات، وتعيد وظيفتها الحقيقية، وتبتكر أساليب جديدة لتحقيق قيم الأمة، وأشكالاً جديدة للتعبير عن مبادئ الأمة ومعتقداتها.
لهذا، فالنهضة هي فعل يمارس الحرية، متجاوزاً الراهن من ظروف الأمة، ومحافظاً على مقدساتها، في آنٍ واحد. لذا يمثل فعل الإنهاض، أرقى درجات الحرية، التي تلتزم بما هو محل إجماع الأمة عبر تاريخها، دون أن تلتزم بالوضع الراهن، ودون أن تستسلم للتردي والتدهور.
وتصبح النهضة، هي الحرية المسؤولة، الشجاعة، التي تمارسها طليعة من الأمة، وتدفع ثمن التغيير، فتحقق نهضة الأمة، لأنها حافظت على مقدسات الأمة.
* المصدر : المقدس والحرية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الحقوق والحريات