موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الحقوق والحريات

الإسلام والرق
 


وهنا يثار موضوع الرق، وكيف أباحه الإسلام؟
ونقول: أن الإسلام لم يجئ بشرع الاسترقاق، بل جاء بشريعة الحرية، ورد الأرقاء إلى ساحتها التي فطرهم الله عليها، كما يقول الفاروق عمر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
|والقارئ للقرآن الكريم لا يجد فيه آية واحدة تبيح الاسترقاق والاستعباد، وإنما يجد الآيات المتعددة تنادي بتحرير الأرقاء وتحض على إعتاقهم، وتجعل هذا التحرير من أعظم القرب والطاعات الدينية| ثم تجعله كفارة تستر ما يقع فيه المسلم من بعض المخالفات الدينية. بل أنه يوجبه على الدولة الإسلامية، ويجعله عملاً من أعمالها، ومصرفاً من مصارف أموالها، ونفصل هذا الأجمال بعض التفصيل، فنقول:
أولاً ـ أن أسرى يخير القرآن فيهما بين أمرين لا ثالث لهما: المن عليهم بنعمة الحرية من غير مقابل، أو المن عليهم بها في مقابل فداء مالي أو شخصي، وهو ما يسمى الآن (تبادل الأسرى)1. يقول الله تعالى: (...فَإِمَّا مَنَّاً بَعدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضعَ الحَربُ أَوْزَارهَا) (سورة محمد/ 4).
كذلك إذا رجعنا إلى السنة النبوية وجدنا أن أقوال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأفعاله تنطق بأنه ما جاء مسترقاً بل محرراً.
يحث على العتق ويحض عليه، فيقول: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار".
ويقول: "أيما رجل مسلم أعتق رجلاً مسلماً فأن الله عزّ وجل جاعل وفاء كل أعظم من عظامه عظماً من عظام محرره..."
وإذا كان الصحابة قد استرقوا في حروبهم فإنما كان ضرورة حربية لا محيص عنها، ومعاملة بالمثل حيث كان أعداؤهم يسترقون أسرى المسلمين، وتسهيلاً لاستخلاص هؤلاء الأسرى المسلمين من يد أعدائهم عن طريق التبادل.
وقد شرع الله سبحانه أحكامه التي تحقق المصالح الأصلية، وأباح الخروج عنها في أحوال الضرورة التي تقدر بقدرها ولا تعدوها. والله سبحانه وتعالى يقول: (وَقَدْ فَصلَ لَكُم مَّا حَرَّم عَليكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُررتُمْ إِليهِ) (سورة الأنعام/119).
ثم أن الله سبحانه وتعالى يشير إلى قاعدة المعاملة بالمثل في قوله تعالى: (فَمنِ اعَتدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمثلِ مَا اعَتدَى عَليكَمْ) وفي قوله تعالى: (الشَّهرُ الحَرَامُ بِالشَّهرِ الحرَامِ، وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) فمن انتهك حرمة من الحرمات، ولم يكن هناك مفر من مقابلته بمثل عمله، كانت المصلحة في معاملته بالمثل، وفي حدود الضرورة، حتى يرتدع، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وأن أنت أكرمت اللئيم تمردا. والوقوف عند المثالية أحياناً أمام من لا يؤمنون ولا يتعاملون بها يضر ولا ينفع.
وبهذا ضيق الإسلام موارد الرق وأسبابه، التي وجدها قبله وكانت متعددة2 ووقف بها وحصرها عند المعاملة بالمثل، وبقدر الضرورة من غير تجاوز ولا اعتداء.
ثانياً ـ لم يكتف الإسلام بذلك، بل وضع خطة حكيمة لإنهاء الرق وقد كان أساساً لنظام الحياة الاقتصادية والاجتماعية ـ تدريجياً من غير رجة اقتصادية أو اجتماعية.
فجعل عتق الرقبة كفارة للحنث في اليمين، يقول الله تعالى: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ...) (سورة المائدة/89).
كما جعله كفارة في الظهار، وهو تحريم الرجل زوجته على نفسه، ثم رغبته في العودة إليها.
يقول تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً...) (سورة المجادلة/ 3-4).
ثم جعله الله كفارة للقتل خطأ. يقول سبحانه: (وَمَا كَانَ لمُؤمنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ وَدِيةٌ مُّسلَّمَةٌ إِلى أهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُّؤمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسلَّمةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنَ ...) (سورة النساء/ 92).
وكفارة للإفطار المتعمد في نهار رمضان، فقد روي أبو هريرة أن رجلاً أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: هلكت يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: فهل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا..."3.
ويلاحظ أن العتق هو الواجب الأول في بعض هذه الكفارات قبل الصيام وهو من أسمى العبادات، وقبل الإطعام للفقراء، وما أشد حاجتهم إليه، وكأن رد الحرية إلى الرفيق وفيها حياته الحقيقية أولى وأهم.
ثم جعله كفارة لضرب العبد أو لطمه. يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته عتقه"4.
ثم جعل تحرير العبيد مصرفاً من مصارف الزكاة في قوله تعالى: (إِنَّما الصَّدقَاتُ للفُقَراءِ وَالمَسَاكينِ وَالعَاملِينَ عَليْها وَالمُؤلفةِ قُلوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالغَارِمينَ وَفِي سَبيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبيلِ فَرِيضةً مِّن اللهِ وَاللهُ عَليمٌ حَكيمٌ) (سورة التوبة/60).
ثم دعا إلى تحرير الرقاب، قربة وطاعة لله: (فلاَ اقْتَحمَ العَقَبةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبةَ فَكُّ رَقبَةٍ أَو إِطعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغبةٍ يَتيماً ذَا مَقْرَبةٍ أَوْ مِسْكيناً ذَا مَتْربةٍ) (سورة البلد/ 11-16).
فأن أبدى الرقيق رغبة في الحرية في مقابل مالى ، كان على مالكه الاستجابة لرغبته في الخروج إلى ساحة الحرية، وهو ما يسمى "المكاتبة" مع التخفيف عنه في هذا المال الذي يدفعه ومعاونته مالياً في أدائه. وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَالَّذينَ يَبتغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمتُمْ فِيهمْ خَيْراً وَأَتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذي أَتاكُمْ) (سورة النور/ 33) ثم أن القرابة القريبة تتنافى مع الاسترقاق، ولهذا إذا ملك الشخص قريبه المحرم صار هذا القريب حراً. يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ومن ملك ذا رحم محرم فهو حر".
وكذلك علاقة زوجية، فإذا ملك الزوج زوجته صارت حرة، وإذا ملكت الزوجة زوجها صار حراً. ثم إذا استولد المالك أمته، أي كان له منها ولد، كانت في سبيلها إلى الحرية، فأن شاء حررها، وإلا حرم عليه التصرف في ملكيتها حتى يموت فتكون حرة، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "أيما امرأة ولدت من سيدها فأنها حرة إذا مات".
وإذا عتق نصيبه في عبد، عتق العبد، وكان على المالك تخليصه من ماله، فأن لم يكن له مال سعى العتيق في أداء المال إلى الشريك الآخر دون إرهاق، يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من أعتق شقصاً5 له في عبد فخلاصه في ماله أن كان له مال، فأن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" كذلك إذا أوصى المالك بعتق عبده لم يجز له الرجوع في الوصية وكان هذا العبد حراً بعد الوفاة، ولو تجاوزت قيمته ثلث التركة الذي تنفذ فيه الوصايا.
بل أن المالك إذا جرى على لسانه هازلاً إعتاق عبده، أصبح العبد حراً، فأن الحرية لا تتوقف على القصد والنية.
وهكذا تتعدد أسباب التحرير بصورة واضحة، وتترتب على بعض الأعمال والتصرفات المتكررة، وتكون مع ذلك في مسئولية الدولة الإسلامية والأفراد المسلمين، بحيث لو سارت الأمور سيراً طبيعياً ما بقي رقيق، وهو ما خطط الإسلام له، وتشوَّفَ إليه كما يقول الفقهاء.
فإذا جاء العالم اليوم بعد صحوة الرق6، كان مستضيئاً بنور الإسلام ومقتبساً من روحه.
ومع هذا حرص الإسلام على معاملة الرقيق معاملة إنسانية أخوية كريمة، إلى أن يجعل الله له مخرجاً إلى الحرية.
يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إخوانكم خولكم، قد ملككم الله إياهم، ولو شاء لملككم إياهم، فأطعموهم مما تطعمون، وأكسوهم مما تكسون".
ويقول: "الله، الله، فيما ملكت أيمانكم" ويقول: "ما خففت عن خادمك من عمله كان لك أجراً في موازينك".
ويقول: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق" "هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوة تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فأن كلفتموهم فأعينوهم عليه".
وكان من وصاياه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد حضرته الوفاة ـ الوصية بالأرقاء قارناً لها بالمحافظة على الصلاة. يقول أنس: كانت عامة وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين حضرته الوفاة، وهو يغرغر بنفسه: الصلاة وما ملكت أيمانكم7.
وفوق هذا كان من الأدب القرآني والأدب النبوي تسمية العبد فتى والأمة فتاة، ابتعاداً عن معنى الاستعباد. يقول الله سبحانه: (وَمَن لّضم يَستطيعْ مِنكُم طَولاً أَن يَنكحَ المُحصنَاتِ المُؤمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانكُم مِّن فَتَياتِكم المُؤمِناتِ) (سورة النساء/ 25) ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تقل عبدي وأمتي، ولكن قل فتاي وفتاتي".
وكان من نتيجة معاملة المسلمين للأرقاء هذه المعاملة، اندماج الأرقاء في الأسر الإسلامية اخوة متحابين، حتى كأنهم بعض أفرادها.
يقول جوستاف لوبون:ـ "أن الذي أراه صادقاً هو أن الرق عند المسلمين خير منه عند غيرهم، وأن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، وأن الأرقاء في الشرق يكونون جزءاً من الأسرة... وأن الموالي الذين يرغبون في التحرر ينالونه بإبداء رغبتهم.. ومع هذا لا يلجأون إلى استعمال هذا الحق"8.
-----------------------------------
هوامش
1 وهذا النوع من الفداء هو الأولى، لأن فيه إطلاق الحرية للمسلمين غير المسلمين، ودين الحرية يحرص على الحرية بالنسبة لغير اتباعه كما يحرص عليها في اتباعه، لأن الحرية ـ عنده ـ كالماء والغذاء والهواء حقوق طبيعية لكل إنسان (وأنظر التمهيد لكتاب السير الكبير ط جامعة القاهرة للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ص74).
2 ومن ذلك أن المدين إذا عجز عن سداد الدين يصبح رقيقاً لصاحبه، بينما يشرع القرآن في ذلك إمهاله والتخفيف عنه "وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم أن كنتم تعلمون".
3 نيل الأوطار للشوكاني ج‍4 ص293.
4 رواه مسلم.
5 الشقص: الجزء والنصيب.
6 تنص المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان على أنه "لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها".
7 أنظر نيل الإوطار ج‍7 ص3.
8 حضارة العرب ص459-460.
----------------------------------------------------
المصدر: عالم الفكر ـ المجلد الأول ـ العدد الرابع مارس 1971

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الحقوق والحريات