موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الحقوق والحريات

العقائد التراثية ومواقع العمل السياسي
د.حسن حنفي



اذا رصدنا مشاكل عصرنا وتحدياته الرئيسية لوجدناها الآتي:
1- تحرير الأرض من الاستعمار والغزو:
ما زالت قضيتنا الرئيسية هي احتلال الأرض. فما زالت بقع من أراضي العرب والمسلمين محتلة، من بقايا الاستعمار القديم (سبتة ومليلة مثلاً)، ودول أخرى من الغزو الصهيوني الجديد (فلسطين وسوريا ولبنان). وما زال قائد المعركة، معركة التحرير، هي الأنظمة السياسية، والجيوش النظامية أو فصائل المقاومة دون إشراك الشعوب التي ما زالت بكمّها وكيفها خارج الميدان. هنا تستطيع العقائد التراثية المساهمة في معركة تحرير الأرض. وذلك أن "الله" وهو القيمة الأولى في نَسَقِ العقائد التراثي هو (إله السموات والأرض)، (ربُّ السمواتِ والأرضِ)، (وهوَ الّذي في السمآءِ إله وفي الأرضِ إلهٌ ) (الزخرف: 84). وبالتالي فإن إيمان الجماهير بالله هو في الوقت نفسه إيمان بالأرض، وموتها في سبيل الله هو استشهادها في سبيل الأرض. وبالتالي يمكن الوقوف أمام العقيدة الصهيونية التي ربَطَت بين الله والشعب والأرض والمدينة والمعبد والهيكل بصهيونية مضادّة ومن نفس النوع لتحرير الأرض، فحرب العقائد لا تقلُّ أهمية عن قعقعة السلاح.
وبعد التحرير يأتي التعمير. فصورة الأرض في القرآن ليست الأرض الخَرَابُ الصحراء الصفراء بل هي الأرض العَمَارُ المسكونة، الأرض المزروعة الخضراء التي ينزل عليها الماء فتهتزُّ فتُنبِت من كل زوج بهيج. فلا الفيضان يُغرقها ولا القَحطُ يميتها. الأرض سوداء، والنيل يجري، ودجلة والفرات يسيلان، والعمل ناقص، والفلاح إمّا يكتظُّ به وادي النيل أو يشحُّ في أرض الجزيرة وما بين النهرين. فيضان في بنغلاديش وقحط في تشاد وكأننا لم نعد قادرين على السيطرة على موارد الطبيعة، وكأنّ الله لم يسخّر لنا قوانينها. ومن ضمن العقائد التراثية الأرض لمَن يفلحها، والأرض البَوارُ لمَن يصلحها "مَن أصلحَ أرضاً فهي له".
2_ الدفاع عن الحريات ضد القهر والتسلّط:
إنّ التحدّي الثاني الذي يواجه أي عمل سياسي هو القهر والتسلّط وكل القوانين الاستثنائية المقيّدة للحريات، وكل السلطات شبه المطلقة التي يتمتع بها الحكام، ملوكاً أو أفراداً أو رؤساء. وقد أوشك أن يصبح عدد السجون مثل عدد المدارس، وخريجو السجون مثل خريجي الجامعات. فقد لا يوجد وطني واحد إلاّ ودخل السجن مرة وحتى ضُرِب المثل "السجن للرجال". هنا تأتي العقائد التراثية كي تساهم في العمل السياسي وتتحدّى القهر والتسلّط والتكبّر وحكم الفرد المطلق. فالله وحده هو "المليك المقتدر" دون سواه. وهذا ما يعبّر عنه أول ركن من أركان الإسلام "الشهادتان": تعني أشهد رؤية أحداث العصر والإعلان عنها، ورفض الصمت والتواطؤ، أي الجهر بالقول والإعلان عن الحق المرئي، وقد يستتبع ذلك الشهادة أي التضحية بالنفس في سبيل شهادة القول، ثمّ يقوم الإنسان بفعلين: فعل النفي في "لا إله" وفعل الإثبات في "إلاّ الله". وبفعل النفي، يحرّر الإنسان شعوره من كل آلهة العصر المزيفة: الجاه، السلطان، والمال، والجنس، وحب الدنيا، حتى يستطيع أن ينتسب إلى المبدأ الواحد، العام الشامل الذي يتساوى أمامه الجميع بالفعل الثاني "إلاّ الله". وتعني الشهادة الثانية الإعلان عن اكتمال النبوة واستقلال الوعي الإنساني عقلاً وإرادة.
3_ العدالة الاجتماعية والمساواة في مواجهة سوء توزيع الثروة والفروق الشاسعة بين الأغنياء والفقراء:
وهي القضية الاجتماعية بالأصالة التي اجتمعت عليها كل الأحزاب السياسية والتي من أجلها قامت الثورات العربية الأخيرة والتي لأجلها ستهتزُّ العروش والتيجان. فنحن أمة يُضرب بها المثلُ بأقصى درجات الغنى وبأشد درجات الفقر، بالبطون المنتفخة وبالأفواه الجائعة، بالقصور المزخرفة وبالأكواخ الصفيح، وننتسب إلى أمة واحدة، ونعتنق ديناً واحداً، ونؤمن بإله واحد. هنا تأتي العقائد التراثية لتقوية العمل السياسي وإعطائه شرعية من التاريخ. فالمُلكية لله وحده (وللهِ مُلكَ السمواتِ والأرض) (آل عمران: 189) . والإنسان مُستخلف فيما بين يديه. له حق الانتفاع، وحق التصرّف، وحق الاستثمار، وليس له حق الاكتناز أو الاحتكار أو الاستغلال، ومن حق السلطة الشرعية التدخّل بالتأميم والمصادرة في حالة سوء استعمال الثروة. وكل أدوات الإنتاج التي تمسُّ الصالح العام ملكية جماعية لا يجوز وقوعها بين أيدي الأفراد، "الماء والكلأُ" قديماً والزراعة حديثاً، و"النارُ" قديماً والصناعة حديثاً، والملح قديماً والمعادن حديثاً. "الرّكاز" أي ما في باطن الأرض، مُلكٌ للأمة وليس ملكاً للأفراد. عرف القدماء الذهب والفضة والحديد والنحاس.. إلخ. وعرفنا نحن النفط. والعمل وحده مصدر القيمة بدليل تحريم الرّبا الذي يعني أنّ المال يولّد المال بلا جهد أو عَرَق. فإذا ظهر فرق في الدُّخول بين الأغنياء والفقراء فإن فضول الإغنياء تُردُّ إلى الفقراء، والفضول ما زاد عن القوت. (والّذين في أموالهِم حقٌ معلومٌ* للسآئلِ والمحروم) (المعارج:24_25) ، وفي المال حق غير الزكاة. والمجتمع الواحد الذي فيه إنسان واحد جائع تَبرَأُ ذمّة الله منه. "ليس منّا من باتَ شَبعانَ وجارُهُ طاوٍ". وقد صحنا في حركاتنا الإصلاحية الأخيرة: "عجبتُ لرجلٍ لا يَجدُ قوتَ يومهِ ولا يخرجُ للناس شاهراً سيفه!" أو "عجبتُ لكَ أيُها الفلاّحُ، تشقُ الأرضَ بفأسكَ، ولا تشُقُ قلبَ ظالمكَ!" (الأفغاني) .
4_ الهُويّة ضد التغريب:
وممّا لا شكّ فيه أن قضية الهوية أو الأصالة تكمن وراء كل مشاكلنا الاجتماعية والسياسية لأنها هي المشكلة الحضارية. وما زلنا منذ فجر نهضتنا العربية الحديثة نطرحها، وندعو لها، وننبّه عليها ولَم نحلّها بعد. وربما كانت معظم تياراتنا الفكرية الحديثة أقرب إلى التغريب منها إلى الأصالة. فالإصلاح الديني (الأفغاني) والليبرالية السياسية (الطهطاوي) والعقلانية العلمية (شبلي شميّل) كلّها ترى الغرب نمطاً للتحديث ونموذجاً للتقدم، ترى صورتها في مرآة الآخر، ممّا ولّد الحركة السلفية حتى أصبحت وريثة الإصلاح. وقضينا على الليبرالية بأيدينا باسم الثورات العربية الأخيرة، وانتهى العقل والعلم من حياتنا بذيوع مُسوح الإيمان والخرافة. ولا يمكن أن يوجد عمل سياسي إبداعي دون أصالة وضد التغريب، وما زالت أحزابنا السياسية حتى الآن، خاصة العلمانية منها، تصوغ القضية السياسية على نحو مغترب، وتجد الحلّ عند الآخر وليس بتحليل الأنا. هنا تظهر المواقف التراثية التي تضع التقابل صراحة بين الأنا والآخر، فالقرآن يحرّم موالاة الغير، مصالحتهم أو مسالمتهم أو السلام معهم إذا ما اعتدوا على الديار. كما يحرّم التقليد والتبعية للآخر لأنه محوٌ للمسؤولية الفردية وبالتالي المُساءَلة.
5_ الوحدة ضد التجزئة:
قضية الوحدة، وحدة قطرية، وحدة وطنية، وحدة عربية أو وحدة إسلامية، هي إحدى قضايانا الرئيسية والتي تدخل ضمن برامج كل الأحزاب السياسية. ولكن ظلّت القضية متعثرة، لا تتجاوز إعلان البيانات التي لا يتجاوز عمرها أياماً ثم تنفَضُّ الوحدة أو تكون وحدة عَلَم ونشيد وزعيم ورئيس، أو تظل أمانيّ وأغاني، وأحلاماً وأهازيج. والواقع نفسه يدعو إلى التجزيء والتشتُّت والتبعثر من جرّاء الخلافات على الحدود، والحروب والحملات الإذاعية، وتضارب المصالح، والصراع على السلطة. في حين أن العقائد التراثية خير ضمان للوحدة على كافة مستوياتها. الوحدة الوطنية في (أشدآءُ على الكُفّارِ رُحمآءُ بينَهُم) (الفتح: 29) أي الانفتاح على الداخل والجبهة الوطنية المتحدة أمام الأعداء في الخارج، (ولَو كنتَ فظاً غليظَ القلبِ لانفضُّوا من حولك) (آل عمران:159) درس آخر في القيادة وتكوين الجبهة، ووحدة على مستوى الأمة (إنَّ هذه أُمّتُكُم أُمةً واحدةً وأنا ربُّكُم فاعبُدونِ) (الأنبياء: 92) . والإسلام أقدر المذاهب والإيديولوجيات على توحيد الشعوب حيث لا عنصرية ولا شعوبية ولا طائفية، وفي الوقت نفسه يعترف بالتقاليد واللغات والأعراف المحلية.
ويمكن تجاوز المعوقات التراثية وإظهار الدوافع في العمل السياسي بالوسائل الآتية:
1_ إيجاد البدائل: ويعني ذلك أننا ونحن في بداية القرن الخامس عشر الهجري تركنا وراءنا ألف عام من المحافظة الدينية (الأشعرية الممزوجة بالتصوّف) وأربعمائة عام من العقلانية العلمية (المعتزلة والفلاسفة). فالمحافظة الدينية أرسخ في وجداننا القومي من الليبرالية. وبالتالي كانت مهمتنا ضغط الألف عام إلى النصف وزيادة الأربعمائة عام إلى الضعف. في هذه اللحظة التاريخية فقط وحتّى يتمّ ذلك يمكن أن ينجح أي عمل سياسي لأن التعدّدية والليبرالية والعقلانية والعلمية قد أصبحت الرافد الأساسي والمكوّن الرئيسي لوعينا القومي. ومن ثمّ يكون الشرط التراثي الأول لأي عمل سياسي هو الانتقال من الأشعرية إلى المعتزلة، ومن إشراقية الفلاسفة إلى عقلانية ابن رشد، ومن الفقه الافتراضي إلى الفقه المصلحي، ومن التصوّف النظري السلبي إلى التصوّف العملي الإيجابي.
2_ اليسار الإسلامي: التيار الذي يمكنه أن يقوم بقراءة سياسية للتراث هو "الإسلام السياسي" أو "اليسار الإسلامي". فهو الذي ينبع من تراث الأمة، ويلتزم بقضايا العصر، وقادر على القيام بهذا التحوّل من المُحافظة التاريخية إلى التقدمية العصرية. فجذوره في التراث، وفروعه في العصر، لا يعادي الحركة الإسلامية بل يفهم متطلباتها، وصديق للحركة العلمانية يفهم منطلقاتها. اليسار الإسلامي يَنقُدُ السلفيّة من موضع الاشتراك في الجذور، ويَنقُذُ العلمانية من موقع الاشتراك في الثمار، ولكنه هو الأقدر على تلبية مطالب الجماهير، وصياغة مشروع قومي يربط الماضي بالحاضر، ويحقق التغيّر الاجتماعي وقمّته في الثورة من خلال التواصل لا من خلال الانقطاع. كما أن اليسار الإسلامي قادر على إقالة الثورة العربية من عَثَراتها، حتى لا تبدأ هذه المرة بالضباط الأحرار بل بالمفكرين الأحرار.
3_ الوحدة الوطنية: واليسار الإسلامي إنما يقوم بهذه المهمة تثوير التراث وممارسة العمل السياسي من الجذور التراثية في إطار الوحدة الوطنية. فاليسار الإسلامي لا يكفّر أحداً. بل إنه يقبل كل التراث القديم بمعوقاته ودوافعه من أجل إعادة النظر فيها، وتصفيته من الأولى، وتحويل الثانية إلى رافد أساسي في وعينا القومي. كما يقبل الحركة العلمانية بكل فصائلها لأنه يفهم منطلقاتها ودوافعها.
----------------------------
المصدر: دراسات فلسفية

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الحقوق والحريات