موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الحقوق والحريات

الاعتراف بالدول والحكومات من منظار الإسلام
عباس علي العميد الزنجاني
 


إنَّ مبدأ التفاهم بين الشعوب ولزوم قبول الصلح، ومبدأ الاعتزال وما ماثله من جهة، ومبدأ عدم الاعتراف إلاّ بالنظام الإسلامي، وعدم الركون إلى الشعوب الكافرة وموالاتهم، ومبادئ أُخرى مماثلة، كلّ ذلك قد زاد من التعقيد في العلاقات الدوليّة، وقضيّة الاعتراف من منظار الإسلام. وكلّ واحد من أصحاب الاختصاص قد اهتمّ في الحقيقة ببعد واحداً أو عدد من الأبعاد وأهمل الأبعاد الأُخرى.
نستهلّ حديثنا عن أهمّ الآراء المطروحة حول موقف الإسلام من الاعتراف بذكر آراء المستشرقين أوّلاً، ثمّ آراء الكتّاب المسلمين، يتلو ذلك آراء الفقهاء.
1- يعتقد المستشرق الإنجليزي المعروف برنارد لويس أنَّ الإسلام لا يعترف إلاّ بالدولة الإسلاميّة، ويستدلّ على ذلك بقوله:
يرى الإسلام نفسه أنَّه وحده هو دين الحقّ، وأنَّه الدين العالمي الخاتم، وقد رسم سياسته على أساس تفوّق المسلمين والدولة الإسلاميّة، وقسّم العالم إلى قسمين أساسيّين هما: دار الإسلام، ودار الحرب، وأنَّ بينهما حرباً دائمة، إلى أن يحكم قبضته على جميع الشعوب في أرجاء العالم.
وأوجب على المسلمين واجباً كفائيّاً أن يحوّلوا الكفّار إلى مسلمين عبر الجهاد أو أن يجعلوهم تحت نفوذ الحكومة الإسلاميّة وسيطرتها، ولم تنقطع حالة الحرب والمنازعة هذه قطّ إلاّ بشكل مؤقّت عن طريق الهدنة المتداولة في عصرنا الحاضر.
وترى الحكومة الإسلاميّة أنَّ جميع الشعوب في العالم إمّا أن تسلم أو تهيّئ نفسها للحرب.
ثمّ يصرّح المستشرق المذكور أنَّ هذا الاعتقاد كان سائداً حتّى وقت اندحار الإمبراطوريّة العثمانيّة عند احتلال فينا عام 1529م. وحينئذٍ طرحت مسألة الاعتراف من قبل الحكومة الإسلاميّة، وبدأت إقامة العلاقات الودّيّة والدبلوماسيّة مع العالم غير الإسلامي. ومنذ ذلك الحين، هيّأ الاندحار الذي مني به المسلمون في مقابل الإمبراطوريّة البيزنطيّة المسيحيّة في القسطنطينيّة سنة 718ه‍ الأرضيّة للتفكير بنقل الإسلام إلى ربوع العالم.
2- يقول الكاتب المسيحي العراقي مجيد خدّوري: إنَّ المسيحيّة والإسلام اللذين يتّسمان معاً بطابع ثيوقراطي إلهي (حكومة القانون الإلهي) يذهبان إلى أنَّ البشريّة أُمَّة واحدة، وعليها أن تطبّق قانوناً واحداً، وينبغي أن تخضع لحكومة واحدة.
ويهدفان إلى انضواء البشريّة كلّها تحت لواء دين واحد. ومن هذا المنطلق فإنَّ القواعد والمقرّرات التي وضعاها للأجانب عبارة عن قواعد ونظم سائدة في حكومة إمبراطوريّة، فلا يعترفان بوضع اجتماعي خاصّ بظروف متكافئة لأيّ طرف (أو أطراف) سواء في زمن الحرب أم في زمن السلم.
ويعقد الإسلام علاقات مع المجتمعات الأُخرى بغية تحقيق أهدافه. ويرمي من وراء ذلك إلى التقدّم وإقامة حكومة عالميّة واحدة.
بيد أنَّه لمّا كان عاجزاً عن إدخال جميع الناس في حظيرته، لذلك ترك غير المسلمين الذين كانوا يعيشون خارج حدوده، وكان عليه أن يتّصل بهم على مرّ التاريخ، تركهم وشأنهم.
ولم ترتكز علاقات الدولة الإسلاميّة بالآخرين على رضا الطرفين، بل كانت ترتكز على تفسيرها السياسي والأخلاقي الذي كان تراه أعلى وأفضل ممّا عند الآخرين. وفي آخر المطاف على العالم كلّه أن يخضع لنظام قانونيّ ودينيّ واحد، ويطبَّق هذا النظام المتفوّق بواسطة سلطة الإمام، ومن هذا المنطلق، لا يعترف الإسلام بأُمّة غير الأُمّة الإسلاميّة.
وعلى الرغم من القواسم المشتركة التي تجمع هاتين النظريّتين في مجال الاستدلال، فإنَّهما يتباينان من حيث إنَّ خدّوري في الوقت الذي ينفي فيه الاعتراف كعمل دائم، فإنَّه يقرّ بالاعتراف المؤقّت والإجباري، إذ إنَّ الإسلام يترك البلدان والشعوب الأُخرى وشأنها على النحو المؤقّت من أجال بلوغ هدفه الأخير، فيبني معها علاقات خلال تلك المدّة تقوم على أساس التفاهم المؤقّت. بينما نجد لويس ينفي كلّ لون من ألوان الاعتراف والعلاقات السلميّة بين دار الإسلام ودار الكفر.
رأي الكتّاب المسلمين
|يرى بعض الكتّاب المسلمين أنَّ مبدأ "الاستيمان" يسمح للدولة الإسلاميّة أن تقيم علاقات سلميّة مع الأقطار الأُخرى، وأن تعترف بها.|
يناقش الأُستاذ أحمد رشيد قضيّة السلم الرومي، والسلم المسيحي، والسلم بالمعنى الوارد في ميثاق الأُمم المتّحدة، وينتقد ذلك. ويرى أنَّ السلم في الإسلام يختلف عن السلم القصير الأجل بمعنى الهدنة، الذي كان يدعمه البابا. ويقول: إذا سلّمنا بأنَّ الإسلام يعيش حرباً دائمة مع الكفّار عادةً، فعلينا الالتفات إلى نقطة مهمّة أيضاً، وهي أنَّ حالة العداء الدائم تتّخذ طابعاً نظريّاً محضاّ مع وجود الأمان الذي يمثّل أحد المبادئ الإسلاميّة.
وفي الإسلام مبدأ يستطيع كلّ مسلم بموجبه أن يؤمن الكافر، سواء كان المسلم ذكراً أم أُنثى، حرّاً أم عبداً، متّقياً أم غير متّقٍ، ولكلّ مسلم ولاية الأمان (الاختيار والقدرة) التي تفرض الحصانة، وتترتّب عليها بعض الآثار.
هذه الحصانة مطلقة. ويمكن الاستناد إليها في مقابل المسلمين كافّة. والأمان موضوع يحمل تعبيراً وتفسيراً واسعين. ومن هذا المنطلق، يعطي بأبسط الوجوه ضمنيّاً (مثلاً يقال للكافر: لا تخف). أو ينشأ من القرائن والأمارات الموجودة.
ويرى البعض الآخر أنَّ المسلمين كانوا يعرفون الحاكم أو الحكّام غير المسلمين، بيد أنَّ هذا لا يعني أنّهم يعترفون بهم، لأنَّ سيادة غير المسلمين ـ في هذه الحالة ـ تتكافأ مع سيادة المسلمين، وهذا ممّا لا يقرّه الإسلام.
في ضوء ذلك، من مستلزمات الاعتراف بالحكومة غير الإسلاميّة، هو أنَّ المسلمين لو كانوا يعيشون في هذه المناطق، فليس لهم حقّ أن يعارضوا الحكومة غير الإسلاميّة أو يحاربوها، بينما كان عليهم فرضاً أن يفعلوا ذلك. وأيضاً لو التجأ المسلم إلى دولة غير إسلاميّة، فعليه أن يحترم حكومة دار الحرب وقوانينها، إلاّ أنَّه مرغم على العمل بدينه.
ويعتقد آخرون أنَّ الإسلام من الوجهة النظريّة يعترف فقط بسلطة سياسيّة، ودولة إسلاميّة يحكمها قانون واحد وهو الشريعة الإسلاميّة. وقد تمّ قبول البلدان غير الإسلاميّة في الساحة الدوليّة وبناء علاقات سياسيّة معها في المعاهدة المعقودة بين فرانسوا الأوّل إمبراطور فرنسا والإمبراطور العثماني الأوّل سليمان عام 1030م. من هذا المنطلق لا يمكن استنباط نظريّة العلاقات الدوليّة من القرآن أو من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وفعله. وما يسمّى بالسياسة والعلاقات الخارجيّة في الإسلام هو وليد الظروف والأوضاع التي مرّت بها الإمبراطوريّات الإسلاميّة في أعصار مختلفة، وحاول الفقهاء والعلماء الإسلاميّون أن يعرضوا آراء جديدة تمشّياً مع تلك الظروف والحقائق السياسيّة، ثم لقيت ترحيباً نسبيّاً من قبل الحكّام والإمبراطوريّات الإسلاميّة، ونزلت إلى ساحة العمل والتطبيق.
بدأ هذا التغيير الملحوظ منذ اندحار الدولة العثمانيّة في احتلال فينا سنة 1529م، وأدّى إلى اعتراف المسلمين بالبلدان غير الإسلاميّة، وإقامة حاكم المسلمين علاقات ودّيّة ودبلوماسيّة معها.
ونفى البعض عمليّة الاعتراف بمعناها الدائم من منظار الإسلام، واعتبرها مغايرة لهدف الإسلام الجوهري، وهو تأسيس الحكومة العالميّة الواحدة.
يقول كاتب آخر: "الإسلام لا ينوي التسلّط السياسي على العالم، ولا يريد أن يسخّر الدنيا كلّها لطاعته"، بل هو على العكس يدين الدمار والشدّة التي لا طائل تحتها. ولمّا كان هدفه إحلال الوئام في ربوع المعمورة وإقرار السلم بين الناس، فإنَّه يجيز اللجوء إلى القوّة لدفع الشرّ ورفع الظلم، وغاية ما يرمي إليه هو إقرار السلم والعدل".
"إنَّ مفهوم الاصطلاحات الدوليّة الجديدة لا ينسجم مع تعاليم الشريعة الإلهيّة تماماً، ولمّا كان النظام الدولي المعاصر قائماً على أساس المفهومين النظريّين: "المساواة والتضاد"، فإنَّ السؤال الآتي يثار، وهو: هل يتيسّر توفير هذه الظروف مع وجود قوانين الإسلام التقليديّة ذات النزعة العالميّة؟
يجيب المسلمون بالإيجاب مستدلّين على ذلك بأنَّ الشريعة الإسلاميّة ينبغي أن تسود ربوع الأرض بكلّ الوسائل المتاحة، ومنها الطرق والأساليب السلميّة بنحو خاصّ؛ لأنّه لا يمكن فرض الدين بالقوّة؛ وينصّ القرآن الكريم على مبدأ وجود الشعوب، ويوصي بالسلم.
ويدلّ خطاب النبيّ وخلفائه إلى السلاطين والرؤساء غير المسلمين، على أنّهم كانوا يتعاملون معهم بالمساواة".
ويقول هذا الكاتب في تسويغ السياسة السلبيّة لبعض القادة المسلمين الثوريّين في العلاقات الخارجيّة: "إذا كان بعض القادة المسلمين من أصحاب الروح الثوريّة لا يلتزمون كثيراً بمراعاة مبادئ السياسة الدوليّة في علاقاتهم مع البلدان الأُخرى، وكان هذا الأمر ذريعة بيد الأجانب لتشويه سمعة المسلمين من خلال وصفهم بالفظاظة والغلظة، فلابدَّ من الالتفات إلى أنَّ هذا الحكم حكم أجنبي سطحي من مخلّفات المستعمرين. وينبغي أن نعطي الحقّ للمسلمين بأن لا يكون تعاملهم ودّيّاً مع الحكومات التي ابتزّتهم ونهبت ثرواتهم سنين مديدة. وهم يدركون مغزى الكلمات المعسولة والمكائد الخفيّة للساسة الغربيّين، ولا تنطلي علهم خدعة المفاوضات الودّيّة، لأنّهم خبروا منظّمة الأُمم المتّحدة، والمفاوضات الثنائيّة، والاعتراف، والعلاقات الودّيّة، وغيرها من هذه المفردات، وعرفوا أنّها مكيدة جديدة لاستغلال المسلمين".
آراء الفقهاء في الاعتراف
لم يتحدّث الفقهاء صراحة عن بحث يحمل عنوان "الاعتراف" بمفهومه القانوني والحقوقي، إلاّ أنّهم لم يألوا جهداً في الحديث عن آثار هذا المبدأ ونتائجه القابلة للبحث والمناقشة.
إنَّ الاعتراف بالحكومات قابل للبحث في حالتي السلم والحرب من أبعاد متنوّعة:
1- في حالة السلم:
أ ـ الاعتراف من أجل إضفاء الشرعيّة على نظام من النظم الحاكمة أو الإقرار بشرعيّته.
ب ـ الاعتراف من أجل إقامة العلاقات السياسيّة والدبلوماسيّة السلميّة واستمرارها.
ج ـ الاعتراف من أجل إقامة العلاقات الاقتصاديّة واستمرارها.
د ـ الاعتراف من أجل إقامة العلاقات الثقافيّة واستمرارها.
وفي الفقرات الثلاث الأخيرة ربّما لم ترد قضيّة إضفاء الشرعيّة على الحكومة أو الإقرار بشرعيّتها، ولكن لمّا كانت هذه العلاقات مفضية إلى عقد معاهدات متنوّعة على سبيل الاحتمال، فإنَّ تخويل الصلاحيّة أو الإذعان بها ملازم لكلّ لون من العلاقات السلميّة، إلاّ أنَّ هذه الصلاحيّة لا تعني إضفاء الشرعيّة أو قبولها.
وعندما يتحدّث الفقهاء عن مسائل من قبيل: "الموادعة"، و"المهادنة"، و"الصلح"، و"المحايدة"، و"الذمّة"، و"الاستيمان" وأمثالها من هذه المسائل، فإنَّ مفهوم ذلك، بالنظر إلى مؤدّي هذه العناوين، هو أنّهم أقرّوا ضمنيّاً بصلاحيّة الأجانب ليكونوا طرفاً في هذه الأُمور.
وبكلمة أُخرى، عندما عقد النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله الأحلاف السياسيّة مع يهود المدينة، وأبرم صلح الحديبيّة مع المشركين، وأقام معاهدات واتّفاقيّات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة أُخرى في مجالات شتّى، فإنَّ هذا يعني أنَّه أيّد صلاحيّة الطرف المقابل لتوقيع هذه المعاهدات، أو لإقامة هذه العلاقات واستمرارها كحدّ أدنى.
2- في حالة الحرب: ولا يمكن طرح حالة الحرب أيضاً بدون نوع من الاعتراف، وقصارى القول إنَّ الاعتراف في هذه الحالة ظريف للغاية، ويعني الإذعان للطرف المقابل، لأنّه لولا هذا الإذعان، فلا يعد للحرب مفهوم معقول.
مضافاً إلى ذلك فإنَّ مباحثات مباشرة وغير مباشرة تجري أثناء الحرب. وقد تعقد اتّفاقيّات ومعاهدات تتضمّن قبولاً لنوع من الصلاحيّة شاء الإنسان أم أبى.
وعندما يطرح الفقهاء شرعيّة المباحثات مع العدو أو جواز توقيع الاتّفاقيّات مع الدولة المتحاربة، فإنَّ هذا يعني أنَّ العدو يتمتّع بمثل هذه الصلاحيّة.
ومن أجل التوفّر على دراسة لمسألة الاعتراف من منظار الفقه السياسي، ينبغي أن تطرح هذه المسألة بالنسبة إلى أنواع العلاقات المختلفة التي تحدّث عنها الفقه؛ وبكلمة بديلة، ينبغي دراسة المسألة بالنظر إلى تقسيم الجغرافية السياسيّة للعالم من منظار الفقه.
----------------------------------
المصدر: القانون الدولي في الإسلام


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الحقوق والحريات