موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الحقوق والحريات

رأي الطهطاوي في الحرية الشخصية
 سمير أبو حمدان



وإذا كانت فكرة المساواة، أو (التسوية) كما يعبر عنها الطهطاوي في كتاباته، قد شغلته كثيراً وحَبَّر لها العديد من الصفحات، فإن حرية الأشخاص، أو الحرية الفردية، هي المبدأ الآخر الذي شكّل، بالنسبة له، سبيلاً إلى تقدم المجتمعات وتحضّرها. أما الكتاب الذي نقع فيه على تفصيلٍ وافٍ حول قضية الحرية الشخصية ( = الفردية) فهو (المرشد الأمين للبنات والبنين).
ن الحرية عند رفاعة الطهطاوي، شأنها شأن المساواة، حق طبيعي لكل مواطن، وهو لا يُوهَب ولا يُعطى. إما إذا كان ثمة تقييد لبعض الحريات في الأنظمة الدستورية، فلا يمكن أن نعتبره قاعدة متبعة وثابتة، وإنما هو استثناء يجب التخلص منه. فالمرء يجب أن يتمتع بحريته تامةً، وعلى القانون أن يحدد الحالات، وهي حالات استثنائية، التي يمكن أن تصبح فيها مقيدة. وعلى هذا الأساس أصبح كل شيء مباحاً طالما أن القوانين لم تمنعه. ووفقاً لرأي الطهطاوي وعلى لغته، فان الحرية هي (رخصة العمل المباح من دون مانع غير مباح ولا معارض محظور). ويضيف: (كل عضو من أعضاء جمعية المملكة يرخّص له أن يتمتع بجميع مباحات المملكة. فالتضييق عليه فيما يجوز عليه فعله بدون وجه مرعيّ يعد حرماناً له من حقه. فَمَن مَنَعه من ذلك بدون وجه سَلَبَ منه حق تمتعه المباح، وبهذا كان متعدياً على حقوقه ومخالفاً لأحكام وطنه).
في كلام الطهطاوي نجد نوعاً من الربط بين كرامة الأفراد كرامة الوطن نفسه. فمن الطبيعي أن يكون المواطن متمتعاً بحقه في الحرية، ومن غير الطبيعي ألا يكون متمتعاً بهذا الحق. ففي الدساتير الحديثة ثمة نصوص قانونية تحدد الحالات والأوضاع التي تصبح فيها حرية الأفراد مقيدة. وأي تقييد لحرية الأفراد ـ خارج هذه الحالات ـ يعتبر انتهاكاً لحقهم في الحرية، وبل يعتبر انتهاكاً لقوانين الوطن وأحكامه. وعلى هذا الأساس فان ما يميز الدولة الحديثة هو احترامها حريات الأفراد وصون هذه الحريات. وقد لاحظ الطهطاوي أن هذا الصَون للحريات في البلدان المتمدنة، وخاصة في فرنسا التي قضى سنوات بين ربوعها، قد أفضى إلى نتيجة لا شيء يوازي أهميتها، وهي حب الأفراد لأوطانهم، والتعلق بها، والاستماتة في سبيلها في حال تعرضها للخطر. فالفرد الذي يشعر بأن ثمة سلطةً تحمي حقه في الحرية، إنما هو فرد مطمئن إلى راهنه ومستقبله. ومما يذكر أن حالة الاطمئنان والاستقرار أدت إلى مزيد من البذل والعطاء لدى هؤلاء الأفراد، الأمر الذي أدى، بدوره، إلى مزيد من التطور والتقدم في هذه البلدان.
لقد كانت الحرية بأشكالها المختلفة، الفردية والسياسية والدينية وحرية التعبير والتملك، مداراً أساسياً في مؤلفات الطهطاوي كافة من (تخليص الابريز) إلى (المرشد الأمين) إلى (مناهج الألباب). وكان أن أُعجب، وهو يقوم بترجمة بنود الدستور الفرنسي، بتلك القوانين التي محضت الفرنسيين الحريات التامة والناجزة. فبالنسبة للحرية الدينية يستشهد رفاعة بنص من الدستور الفرنسي يقول: (كل انسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يجب لا يشاركه أحد في ذلك (بل يُعان على ذلك) ويُمنع مَن يتعرض له في عبادته). وقد كانت هذه السياسة التي اتبعتها الدول المتمدنة (نافعة) لأهل البلاد والغرباء، (فلذلك كثر أهل هذه البلاد وعمرت بكثير من الغرباء) كما يقول الطهطاوي. فمن أولى موجبات العمران أن يتمتع المواطنون بحرية مطلقة في اختيار عقيدتهم الدينية. ليس هذا وحسب بل وأن يُقدَّم لهم العون على ايجاد المناخ الملائم لممارسة شعائرهم الدينية وطقوسهم.
لكن الحرية الدينية تفقد مبرر وجودها عندما يتعرض المواطن (لأصل الدين) حسب تعبير رفاعة. وفي هذا يقول: (الحرية الدينية هي حرية العقيدة والرأي والمذهب، بشرط أن لا يخرج عن أصل الدين، كآراء الأشاعرة والماتريدية في العقائد وآراء أرباب المذاهب المجتهدين في الفروع).
ومن أشكال الحرية التي أخذت بلب الطهطاوي وأعجب بها بما لا يُحَد حرية الرأي والتعبير. فلا يأملنّ أحدٌ بتقدم فكري وأدبي وعلمي بغير حرية الرأي. فالطاقات والمواهب والخامات الفكرية والأدبية والعلمية تتفتح في ظل هذا الشكل من الحرية.
وحرية الرأي والتعبير، وخاصة في الكازيطات والجورنالات والورقات (أي في الصحف والمجلات) تنطوي على أهمية بالغة لجهة تثقيف الرأي العام وتوعيته وترشيده. فهي تعرض، أي الكازيطات وغيرها، عدداً من (المسائل العلمية الجديدة التحقيق)، وتفتح أعين المواطنين على (تنبيهات مفيدة) و(نصائح نافعة). والأهم من ذلك أن حرية الرأي الممارَسة في الصحف تنطوي على وظيفة أخرى وهي رفع الضيم والظلم عن أولئك الذين ليس لديهم وسيلة للتعبير عن معاناتهم غير المنابر الإعلامية، فـ(إذا كان الانسان مظلوماً من إنسانٍ ما) كتب مظلمته في هذه الورقات (الجرائد) فيطلع عليها الخاص والعام، وتصل إلى محل الحكم (أي أصحاب الشأن) ويُحكم فيها بحسب القوانين المقررة).
وتحدث الطهطاوي عن شكل آخر من أشكال الحرية، وهو حرية التملك، حيث أن ما يمتلكه شخص ما يجب أن يكون محرّماً على شخص آخر، وأن يكون محميّاً من قبل السلطة. حتى أن السلطة نفسها ليس لها الحق في أن تتصرف بأملاك المواطنين إلا بناءً على (ضوابط قانونية). إذ أن ثمة حالات بعينها يجوز أن تُقدِم السلطةُ فيها على مصادرة عقارٍ لمواطنٍ فيما إذا كانت مثل هذه المصادرة تنطوي على (نفعٍ عام). ولكن مقابل ذلك على السلطة أن تدفع لصاحبه ثمنه كاملاً غير منقوص. يقول الطهطاوي: (للدولة دون غيرها أن تكرِه إنساناً على شراء عقاره لسبب (عام النفع) بشرط أن تدفع ثمن المثل قبل الاستيلاء).
وينطوي كلام رفاعة هنا على أهمية بالغة إذ أنه قيل في وقتٍ كان الشرق العربي- الاسلامي يشهد نكسةً كبيرة على صعيد مصادرة ممتلكات البعض من قبل السلطة الحاكمة بدون وجه حق. وبغياب أي قانون يحمي ممتلكات الأفراد والجماعات كان الولاة العثمانيون يصادرون ممتلكات خصومهم السياسيين لأجل كسر شوكتهم. أما الأملاك التي كانت تصادَر بهدف النفع العام فلم تكن تُدفع أثمانها.
ويُطلق رفاعة على (حق التملك) مصطلح (الحرية السياسية)، إذ أن السياسة، هنا، تعني الممارسة والسلوك والتصرف. فالحرية السياسية، على رأي الطهطاوي، هي (تأمين -حماية- الدولة لكل أحد من أهاليها على أملاكه الشرعية المرعية، وإجراء حريته الطبيعية بدون أن تتعدى عليه في شيء منها، فبهذا يُباح لكل فرد أن يتصرف (أي أن يسوس) فيما يملكه جميع التصرفات الشرعية، فكأن الحكومة بهذا قد ضمنت للانسان أن يسعد فيها ما دام مجتنباً لاضرار إخوانه).
* * *
يتهيأ لنا مما تقدّم أن رفاعة رافع الطهطاوي كان أول مَن رفع لواء التحديث في الشرق العربي- الاسلامي عامة وفي مصر على وجه الخصوص. وقد كان التحديث على النمط الأوروبي هو شغله الشاغل منذ كتابه (تخليص الابريز) 1834م، وحتى (مناهج الألباب) 1870م. ولعل أهمية ما قاله وما كتبه أنه أتى في زمنٍ لم تكن مصر أو أي بلدٍ عربي آخر قد سمع حديثاً عن الحريات الديمقراطية والحقوق المدنية، انطلاقاً من المبادئ التي نصت عليها الدساتير الأوروبية، وبخاصة الدستور الفرنسي العام 1830م. وعلى أساسٍ من هذا فإننا نسمح لأنفسنا بأن نعتبر رفاعة الطهطاوي الأب الشرعي للفكر التحديثي في مصر سواء على الصعيد السياسي، أو الاجتماعي أم على الصعيد العلمي.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الحقوق والحريات