موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الحقوق والحريات

سؤال الحرية في الفكر الإسلامي المعاصر
 محمد محفوظ



تعتبر النزعة إلى الحرية والانعتاق من القيود والأغلال لدى الإنسان، من النزعات الأصيلة والعميقة في وجوده الطويل. إذ لا تخلو مرحلة من مراحل حياته من البوح والتعبير المباشر وغير المباشر عنها، سواء لتحقيق هذه النزعة في الواقع الخارجي، أو للدفاع عنها من مخاطر داخلية أو خارجية تهدد هذه النزعة في وجودها وآفاقها.
لذلك نستطيع القول، أنه كلما تعمق الوعي السليم بمعاني الحرية الانسانية، كلما تقدمنا إلى الأمام في هذا المسار الصعب والتاريخي. لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يدعو الانسان المسلم إلى رفض القوى التي تحول دون رؤية الحق والحقيقة. قال تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) البقرة/ 170.
- معنى الحرية:
الحرية لا تنجز على الصعيد المجتمعي، من خلال تعريفها وضبط مصطلحها ومعناها القاموسي فحسب، بل إنجازها مرهون بتوفر وخلق جملة من الممارسات والجهود المتواصلة، التي تدفع إلى صنع حقائق جديدة، تؤهلها إلى الانخراط الفعلي في العالم، على قاعدة متينة من الإيمان النظري والممارسة العملية بقيمة الحرية. فالحرية ليست مجرد وصف محدد أو معنى سياسي متفق عليه، بل هي الرادة والعزم وتحمل الصعاب وتقديم التضحيات لتعميق شروط ممارسة الحرية في الواقع المجتمعي.
والحرية في الفضاء العربي والاسلامي اليوم، لكي تستعيد دورها وتمارس تأثيرها، هي بحاجة إلى إعادة الحياة وتجديد الحيوية لمنظومة فكرية اسلامية تتفاعل مع الحرية وتثري مضمونها. فلا حرية حقيقية بدون عدالة على مختلف المستويات والصعد، كما أن التسامح وحقوق الانسان والمساواة وتكافؤ الفرص، كلها قيم ملازمة لمفهوم الحرية في المنظور الاسلامي.
فالحرية تستعيد عافيتها في المجال العربي والاسلامي، حينما تكون جزءاً من منظومة فكرية متكاملة، تأخذ على عاتقها تجديد الرؤية إلى الاسلام، ذلك المخزون الحضاري الكبير، وتجدد امكانات الأمة وتعبئ طاقاتها وقدراتها في سبيل إجتراح نهضتها وإنتاج حلول أصيلة لمشاكلها وأزماتها. وبالتالي تخلق هذه المنظومة شروطاً ووقائع، تسمح للفرد والجماعة بممارسة اختياراتهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية.
والحرية لا تعني الانفلات من الضوابط الأخلاقية والانسانية، وإنما تعني امتلاك القدرة على التعرف والاختيار وفقاً لقواعد عقلية أو ضوابط شرعية. فهي تتجه إلى الكمال وليس إلى التخريب، وإلى الانسجام ونواميس الكون والمجتمع وليس للخروج عنهما. (فحرية الانسان كما يراها الاسلام، هي في وعيه بالفطرة التي فطر عليها، وفي تشغيل قواه الفطرية في معرفة الحقيقة في آيات الله تعالى طلباً لمعرفة الله والاسلام له وحده تعالى، ومن المنظور تحرره من تعظيم ما يعظمه البشر بمعرفته كما هو في حقيقته، وتوجهه إلى الله بالمعرفة وبالتعبد له تعالى).
والتاريخ الانساني في مسيرته الطويلة، هو عبارة في أحد وجوهه تاريخ الكفاح الانساني للاعنتاق من كل الموانع والعقبات التي تحول دون الحرية والكرامة. فالحرية ليست ضد الأخلاق، وإنما هي صنوها وهي أس الأخلاق الاجتماعية، وهي مع القوانين والضوابط المنسجمة وفطرة الانسان ووجدانه، وهي شرط تحقيق المجتمع التاريخي ومحرك افعل الحضاري، وهي أساس استقلال المجتمع كونه سيداً على نفسه ومصائره المتعددة.
وحتى التعرف على الدين والدعوة إليه، تعتمد على حرية الاختيار المتجسدة في السبيل الموصل إلى الدين القائم على نفي الإكراه وعلى الاقتناع والدفع بالتي هي أحسن بعيداً عن التشنج والقهر والقسر وكل أشكال الإكراه. قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) المائدة/ 104.
فالحرية تتحرك في مواقع المسؤولية العامة والخاصة، وبالتالي فإن الحرية لا تنسجم مع استخدام القوة في مواقع الحجة والبرهان، ولا تتناغم مع حالات الاستقالة من المسؤولية وشيوع اللامبالاة، وإنما هي تضغط عليه لممارسة مسؤولياته تجاه راهنه ومصيره، تجاه واقعه الخاص وواقعه العام. فالحرية جزء من قانون التكريم الرباني للانسان.
وبداية الحرية في المنظور الاسلامي، هي نفس الانسان، فينبغي لها أن تتحرر من كل القيود والأغلال والأهواء والنوازع التي تحول دون حريته وانعتاقه الحقيقي. فالحرية قبل أن تكون سلوكاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً، هي قدرة نفسية تتخلص من كل الأغلال والقيود، ومن النزعات المخالفة لقيمة الحرية. ولا شك أن التكوين النفسي السليم، هو من الشروط الأساسية لممارسة الحرية في مجالات السياسة والثقافة والفكر والاجتماع.
وإن أشكال الحرية وأنساقها الخارجية، لا تمارس دورها الحقيقي إلا بقبول نفسي دائم بمقتضيات الحرية السياسية والفكرية والاجتماعية. والنزعة المادية التي رافقت نشوء الحريات في المحيط الأوروبي والغربي عموماً، لا تعني بأي شكل من الأشكال الإنزواء عن قيمة الحرية أو التعاطي معها وفق نموذجها الأوروبي فقط. وإنما نحن بحاجة إلى دراسة عميقة لمسار الحريات في الفضاء المعرفي الغربي، واستيعاب عناصر تكوين هذه القيمة.
وبموازاة هذه الدراسة نحن بحاجة أيضاً إلى استنطاق النصوص الاسلامية الخالدة، وإزالة سوء الفهم والالتباس الذي حصل من جراء تجارب تاريخية انتسبت زوراً وبهتاناً للاسلام، وإبراز قيمة الحرية في التجربة الاسلامية، وموقعها في خريطة الأحكام الاسلامية.
فالحرية ليست مرتبطة فقط بالنظريات التي تفصل بين الأرض والسماء، وإنما لها موقعها المميز في منظومة الاسلام القائمة على الالتحام بين الأرض والسماء. فـ(وفق التصور الاسلامي فإن حرية الانسان هي ثمرة عبودية وحيدة يرتبط بموجبها الانسان بالله المصدر الأول للكون والحياة. ولما كان الانسان موضوعاً خصباً لأشكال لا تنتهي من (العبوديات) المختلفة، تعرض وما زال يتعرض لها منذ أقدم العصور البشرية حتى عصرنا وسوف يستمر هذا التعرض ما دامت الحياة قائمة، ولما كانت مقاومة الانسان لكل شكل من أشكال العبودية (في دوائرها الكونية الطبيعية أو الاجتماعية) سوف تفضي إلى عبودية جديدة، فقط ربط الاسلام (والاسلام بهذا اللحاظ يشمل سائر ديانات التوحيد) سعي الانسان لامتلاك الحرية بعقيدة التوحيد وبالدعوة إلى عبادة الله والعبودية له بما يعني نفي كل أشكال العبوديات الأخرى. من هنا تصبح عبادة الله هي الوجه الآخر لحرية الانسان، بل هي الحرية نفسها ولا شيء سواها، لأنها تحرر الانسان من كل عبودية نسبية، ولا تضع في طريق حرية الانسان حدوداً، بل تجعل من المطلق ـ الله ـ هدفاً لحرية الانسان. وفق هذا التصور لمفهوم الحرية، وهو تصور يدخل في نسيج العقيدة الاسلامية نفسها، ليس بوسع الاسلام أن يقدم تصوره للمجتمع والمجتمع السياسي بما يتنافى مع عقيدته نفسها، إذ لابد للمجتمع الاسلامي أن يجسد في آن واحد: عبودية الله وحرية الانسان).
واقامة العدالة المطلوبة اسلامياً على مختلف الصعد والمستويات، لا يمكن تحقيقها وتجذير آلياتها في الواقع المجتمعي بدون الحرية. فهي بوابة العدالة الاجتماعية والثقافية والسياسية، كما أنها هي التي تعطي للجميع الفرصة، كل من موقعه وخندقه في اجتراح وتكريس مسار العدالة في الواقع الخارجي. فالعدل الاجتماعي لا يتحقق بدون حرية سياسية، والحرية السياسية لا تصمد بدون حرية الفكر والتعبير والتنظيم. كما أن العدل الاقتصادي لا يأخذ مساره الصحيح بدون تكافؤ الفرص والمساواة في القانون والعطاء، وكلها ثمرات الحرية والديمقراطية.
فالاستبداد يدمر المدن والأمن، وينهي التعايش والمساواة، والحرية تنطوي على قيم الخير والعدل والمساواة والأمن والعلم والمدنية. فلا حضارة بلا حرية، فالحرية شرط الحضارة، وذلك لأن الحرية توفر الأمن والكفالة المعيشية والاقتصادية، وكلاهما من شروط الإبداع والانطلاق في رحاب البناء والعمران. وذلك لأنه لا إبداع مع الخوف، ولا بحث علمي جاد بلا كفالة. وعلى ذلك فالحرية هي الاستعداد الدائم لممارسة الاختيار وفق إرادة حرة غير خاضعة للأهواء والضغوط الخارجية. كما أن الاستبداد هو الداء الذي ينخر في جسم الحضارات فيعطبها وينهي مسار تطورها وصعودها.
وفي المنظور الاسلامي يكون مبدأ الحرية، هو المبدأ المحوري الذي يؤسس لكل السلطات في المجتمع المسلم. إذ أن القدرة على الاختيار هي التي تحدد طبيعة السلطة ووظائفها المتعددة في الأمة والمجتمع. وإن تغييب الحرية والديمقراطية عن الأمة والمجتمع، بدعوى عدم النضج السياسي والاقتصادي، هي من الأقنعة التي تستخدمها المشروعات الاستبدادية، لكي تغطي استبداديتها وديكتاتوريتها. فالنضج السياسي والاقتصادي لا يتأتى إلا بالحرية. فحضور الحرية وممارستها من قبل المجتمع، هو الكفيل بتطوير مستوى النضج والإدراك والوعي.
والحرية العامة هي عبارة عن عملية تاريخية متدرجة، تتجه إلى تنمية قوى المجتمع الذاتية، لكي تتوازن قوة المجتمع مع قوة الدولة، ومن خلال هذا التوازن والضوابط الأخلاقية والدستورية والسياسية، التي توجدها الحرية، يتم ضبط السلطة ومنعها من التغول والاستبداد وممارسة القمع. ومن خلال المشاركة السياسية، وانتشار وتكريس ثقافة الحرية، وتحسن نوعية الممارسة السياسية، تتطور العملية الديمقراطية في المجتمع، ويتم الالتزام المجتمعي بكل مقتضياتها ومتطلباتها.
وإن التأمل في جملة النصوص الاسلامية، التي تتحدث عن الحرية والشورى وتحث عليهما، يفضي بنا إلى القول أن الحرية جزء أصيل في التصور الاسلامي، ولا يمكننا أن نتصور مجتمعاً مسلماً فاقداً هذا الجزء.. فلقد جاء في قول للإمام علي (ع): (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للانصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند الاعطاء وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم).
فالمجتمع المسلم (يقوم على الشورى والتكافل والتضامن، وتتعزز هذه الرؤية بالعودة إلى تجليات هذا التصور في سيرة الرسول (ص) عندما أقام دعائم الدولة والمجتمع الاسلاميين في المدينة من خلال حرصه على تعزيز مبدأ الشورى والعمل بموجبه في الشؤون العامة. وقد أورد المؤرخون (كتاب السيرة) عدداً كبيراً من الوقائع التي أخذ فيها الرسول (ص) بمبدأ الشورى، وخصوصاً في الشؤون العسكرية كما في شؤون اقتصادية واجتماعية أخرى).
لهذا فإن الحرية تعني أيضاً الكف عن الاعتداء، وعدم تجاوز حقوق غيرك أو اغتصابها. وبهذا فإن الحرية ووعيها السليم يؤدي إلى انطلاقة الانسان وسعيه لنيل حقوقه، ولكن هذا السعي لا يؤدي إلى غصب حقوق الآخرين أو التعدي على مكتسباتهم. فالحرية دعوة إلى نيل الحقوق بالسعي والكفاح المتواصل، وفي ذات الوقت مسؤولية الذات تجاه مكاسب الآخرين وحقوقهم.. وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين). فالاستفادة (من الطيبات ينبغي أن تكون في حدود الحقوق الواجبة، فهناك حقوق للجسد يجب الوقوف عندها وعدم تجاوزها في الاستفادة من الطيبات، مثلاً الإسراف في الأكل نوع من الاعتداء على حق الجسد في أن يبقى سالماً. كما أن هناك حقوقاً للناس، تجب رعايتها عندما يستفيد المرء من الطيبات، من هنا أكد القرآن على الحقوق في سياق حديثه عن الطيبات وقال: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين). والاستفادة من الطيبات. كل الطيبات يجب ألا يتحدد إلا بحدود الشريعة التي جاءت لمصلحة الانسان كفرد وكمجتمع، وهذا هو التقوى).
فمنطق الحرية قائم على رفض الابتزاز والاعتداء والالتواء ومحاربة الآخرين في أرزاقهم ومكتسباتهم وحقوقهم. وفي ذات الوقت مسؤولية الانسان تجاه واقعه، وضرورة إصلاح نفسه، والسعي والمشاركة في إصلاح الوضع والشأن العام. وحينما تتكامل دائرة المسؤولية تصان الحريات، وتتطور آليات فعلها في المحيط الاجتماعي.
- الحرية والحوار:
لا نعدو الصواب حين القول بأن السبب الرئيسي في بوار العديد من مشروعات التنمية. وانهيار عالم السياسة الحضارية، يرجع بالدرجة الأولى إلى غياب الحرية وخضوع الوجودات العربية والاسلامية إلى حكم استبدادي- قمعي وتبعيات متعاظمة في الاقتصاد والثقافة. فالاستعباد والخضوع الأعمى لقوى السيطرة، هو الذي يحول دون الحيوية والفاعلية والانطلاق في رحاب مشروعات التنمية الشاملة.
لذلك فإن تثبيت قواعد الحرية في المحيط المجتمع، لا يتأتى إلا بتأسيس علاقات ووقائع تكسر حواجز الإثرة ونوازع الأنا الضيقة وممارسات الشطب والإلغاء والنفي والتكفير والتشريد، وتؤسس لحسن الاستماع وقبول الآخر، واحترام وجوده وفكره وقناعاته. قال تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب).. وقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).. فالكلمة السواء لا تنجز إلا بعقل حواري يثري مضمون الحرية على المستوى الانساني والحضاري. فلا حرية حقيقية بلا حوار بين الأفكار والثقافات والوجودات السياسية والثقافية والحضارية. وذلك لأن سبيل تعميم قيم الحرية هو الحوار، وبدونه تبقى الحرية شعاراً يرفع، دون أن تكون وقائع الراهن تجسيداً لها ولمثلها العليا.
وتجربة الحوار بين الأفكار والوجودات، هي التي تثري سؤال الحرية في الفكر والواقع وهي التي تعطي لمضمون الحرية أبعاداً تاريخية وآفاقاً مستقبلية مشرعة لإبداعات الانسان ومبادراته في سبيل تجذير مفهوم وتجربة الحرية في الواقع الاسلامي المعاصر. فالحوار ليس من أجل الغاء الخصم أو ثنيه عن أفكاره وقناعاته، وإنما من أجل الحرية وأفقها الانساني والحضاري. والحرية لا تعني بأي شكل من الأشكال تجميد الاختلافات الفكرية والسياسية، وإنما تنظيمها وجعلها تسير في اتجاه توافقي- بناء. ويخطئ مَن يتعامل مع الحرية باعتبارها وسيلة تجميد الخلافات الفكرية والسياسية.
والمحيط الذي يحارب الحوار، هو محيط مستبد وقمعي، حتى لو رفع راية الحرية. لأنه لا يمكننا أن نتصور حرية بلا حوار. فهو قرين الحرية، ووسيلتها في تعميم القيم ونشر القناعات والمبادئ. و(عملية الحوار تتنافر بطبيعتها مع الإجابات الجامدة، والمسلمات المتحجرة، والأنساق المطلقة، وهيراركية العارفين، وكهنوت الآباء المقدسين، فإن هذه العملية تنفي نقائضها التي تكبح حركتها، وتقاوم ما يحد من قدرتها بما تؤسسه من وعي ضدي، يرفض صفات الاطلاق والتسليم والتقليد، الخنوع والإذعان، وكل ألوان التسلط والارهاب).
وفي المقابل نستطيع القول أنه (بقدر غياب الحرية في المجتمع يغيب الحوار، وتسود لغة الصوت الواحد التي هي المقدمة الطبيعية للغة الارهاب. وإذا كان الارهاب الغاء لوجود الآخر، ونفياً لحضور العقل، أو فعل اختيار المعرفة، فإنه يبدأ من حيث ينقطع الحوار، ومن حيث تشيع مخدرات التسليم والتصديق، ومسكنات الاذعان والاستسلام، ومبررات بطريركية الكر أو مطريكية الثقافة).
- الحرية وحق الاختلاف:
لا يمكن مقاربة مفهوم الحرية في الفكر الاسلامي المعاصر، بمعزل عن مفهوم الاختلاف، وحق الانسان الطبيعي في هذا الاختلاف. وأساس حق الاختلاف في المنظور الاسلامي، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل حقائق التشريع ومقاصده البعيدة، وإنما هم يجتهدون ويستفرغون جهدهم في سبيل الادراك والفهم، وعلى قاعدة الاجتهاد بضوابطه الشرعية والعلمية، يتأسس الاختلاف في فهم الأحكام والحقائق الشرعية، ويبقى هذا الحق مكفولاً للجميع.
(فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الانساني وهو الوجه الآخر والنتيجة الحتمية لواقع التعدد. أعني أن التعدد لابد من أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه. فالاختلاف من هذه الزاوية، قبل أن يكون حقاً، هو أمر واقع ومظهر طبيعي من ظاهر الحياة البشرية والاجتماع البشري وكما تتجلى هذه الظاهرة الطبيعية بين الأفراد تتجلى بين الجماعات أيضاً. لذلك فلا مجال لإنكار ظاهرة الاختلاف بما هي وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للانسان أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة).
وإجماع الأمة تاريخياً حول قضايا فكرية أو سياسية وما شابه ذلك، ليس وليد الرأي الواحد، وإنما تحقق الإجماع عن طريق الاختلاف الفكري والثقافي، الذي أثرى الواقع، وجعل الآراء المتعددة تتفاعل مع بعضها وتتراكم حتى وصلت الأمة إلى مستوى الإجماع. وسيادة الرأي الواحد، يؤدي إلى التخشب واليباس، وإلى توقف العقل عن التفكير في القضايا الجادة، وضمور حالات التجديد، والاستسلام لقوالب ونماذج ثقافية وفكرية جاهزة.
فالعقل قرين الحرية، فلا عقل فعال بدون حرية، ولا حرية مستديمة بدون عقل يمارس التفكير والسؤال والمساءلة، ويتحرك دائماً نحو تجديد أفق المعارف والتصورات، وحرية تؤسس للشروط اللازمة لممارسة العقل سلطته ووظيفته الجوهرية. ومن خلال الصلة الوثيقة بين العقل والحرية، تتجدد أدوات المعرفة، وتتطور أنماط الانتاج العقلي والمعرفي. ووفق هذا السياق نتمكن من القول، أن الخرافة والتقليد الأعمى للآخرين كلها مضادات للحرية.. بمعنى أن سيادة الخرافة يعني تراجع مستوى الحرية، كما أن شيوع حالات التقليد الأعمى يعني ضمور مجالات الحرية. فلا يمكن أن تلتقي الحرية مع الخرافة، كما أنه لا يمكن أن تنسجم حالات التقليد الأعمى مع متطلبات الحرية.
والاسلام كفل حق الاختلاف، واعتبره من النواميس الطبيعية، وجعل التسامح والعفو سبيل التعاطي والتعامل بين المختلفين. فحق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى أو الفردية الضيقة، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير، وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو. وبهذا لا يخرج الاختلاف عن إطاره المشروع، وفي نفس الوقت يمارس دوره الحضاري في حفز الهمم والبحث عن الحقيقة، والتعاطي مع جميع الآراء والتعبيرات بعقلية حضارية تنشد استيعاب الآراء، وتستفيد منها جميعاً في بناء واقعها ومسارها.
فالاختلاف لا يساوي الرذيلة والإثم والخلل، وإنما هو ناموس كوني وجبلة إنسانية. الخلاف والتشرذم والتفرقة، هي التي تساوي الإثم والخلل. وعلى هذا ينبغي أن نجدد رؤيتنا للاختلاف، ونتعامل معه وفق عقلية جديدة، لا ترى فيه إثماً ومعصية، وإنما قدرة انسانية مفتوحة ومتواصلة لإثراء الواقع والحقيقة. فالاختلاف هو الوجه الآخر لضرورة الاجتهاد وإعمال العقل والفكر، كما أن الخلاف والتشرذم هو الوجه الآخر للخضوع للأهواء والغرائز والنزعات الشيطانية، التي تتمرد على القيم والأخلاق، وتؤسس لصراعات وفتن دائمة، وتدخل الجميع في أتون النزاعات التي لا طائل من ورائها. (ومما لا جدال فيه أن أفضل سبل التعبير السليم عن التعددية في مجتمع ما هو الاعتراف بوجدها، وفتح سبل العمل السياسي المشروع أمامها. وهذا الاعتراف يقتضي قبول التعددية التقليدية والحديثة، والاعتراف بوجود القوى التي تمثلها، وفتح سبل العمل السياسي المشروع أمامها. وهذا الاعتراف يجب أن يتجسد في حق القوى المعبرة عن التعدد في تشكيل الأحزاب والحركات السياسية وجماعات المصالح وقوى الضغط للتعبير عن آرائها والدفاع عن مصالحها بشكل علني وسلمي مشروع يكفله الدستور).
- الحرية والوحدة:
من البديهي القول أن التجارب الوحدوية التي كانت تعتمد على القسر والقوة واقهر في بنائها، تحولت إلى تجارب مولدة للتمايز المقيت والانفجارات السياسية والاجتماعية، وكأن حقبة الوحدة القسرية، هي حقبة تربية الفوارق وتنمية التناقضات وتعميق مناطق التوتر. فالمشروعات التمامية والكليانية، التي تعتمد على القوة والقهر لفرض أجندتها وتطلعاتها، وتنبذ كل أشكال الخصوصية، لا تصل إلى أهدافها، وإنما تزيد الوضع سوءاً وتدمر مستويات التعايش المتوفرة.
والحرية هي التي تسمح لجميع الأطياف والقوى في المجتمع، أن تمارس دورها في إغناء الوحدة الوطنية وتكريس قيم العدالة والتسامح في مسيرتها التصاعدية. ولقد اعلمتنا التجارب أن تأجيل مشروع الحرية لإنجاز الوحدة لا يؤدي إلى نتيجة ايجابية. بل الاستبداد هو الذي يئد مشروع الوحدة، وهو الذي ينهي حلم الوحدة، ويوصل الجميع إلى نتائج كارثية. فلا وحدة بلا حرية، ومشروع الوحدة الحقيقي يبدأ بإشاعة الحرية والسماح للجميع بممارسة حقوقهم وقناعاتهم.
فالعنف لا يصنع وحدة، وإنما يخلق انفجاراً اجتماعياً بأشكال مختلفة ومستويات متعددة. وتسويد قيم الاستعلاء والتمييز والتهميش والجهوية المتطرفة، كلها تزيد من مآزق الدولة والمجتمع، وتدخل الجميع في دوامة العنف والعنف المضاد. والأمن لا يصان بالقمع، والاستقرار لا يتأتى بتنمية المخاوف وتأجيج العواطف السلبية، والوحدة الوطنية لا تبنى بالاستعلاء والتهميش والتمييز. كل هذه الأمور (الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية) سبيلها قيم الحرية والمشاركة والتسامح واحترام حقوق الانسان.
إننا نتطلع إلى الوحدة، ولكن ليست تلك الوحدة التي تسلبنا حريتنا، وإنما نتطلع إلى تلك الوحدة التي تصون الحرية، وإلى تلك الحرية التي تثري الوحدة بمضامين حضارية جديدة. فالطريق السليم لإنجاز مفهوم الوحدة الاجتماعية والوطنية، هو التعامل السليم مع الاختلافات والتنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة الموجودة في المجتمع، تعاملاً لا يكبت ويقمع هذه التنوعات وإنما ينظمها ويحترمها، ولا يتعالى على حقائقها، وإنما يتعاطى معها وفق سياق حضاري قوامه التسامح مع حق التعدد، وتجنب أسباب وموجبات التوترات والاحتقانات، ويفتح للجميع سبل العمل المشروع في مستوياته المتعددة.
وإن تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع، لا يتأتى إلا بممارسة الديمقراطية والحرية. وإن تجاوز عيوب المجتمع ومعوقات التحول الديمقراطي، لا يتأتى أيضاً إلا بممارسة الديمقراطية. وحدها ممارسة الحرية والديمقراطية هي التي تتجاوز عيوب المجتمع، وتعالج معوقات الانطلاقة الديمقراطية.
وإن التحول نحو الحرية والديمقراطية في أي مجتمع، بحاجة إلى وعي عميق بضرورتها وأهمية وجودها في البناء الوطني السياسي والثقافة والحضاري. وأن هذا الوعي بحاجة إلى أن يترجم إلى وقائع قائمة وحقائق مشهودة. وأن تنمية روح المسؤولية والتسامح والحقوق والكرامة، كلها عوامل تساهم في تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع.
ودرونا في هذا الاطار يتجسد في تكثيف الفعل الثقافي والاجتماعي لتحرير دينامية التحول الديمقراطي من كوابحها ومعوقاتها الذاتية والموضوعية، حتى تأخذ الديمقراطية موقعها الأساس في تنظيم الخلافات والصراعات وضبطها، وحتى تتجه كل الجهود والطاقات نحو البناء والسلم والاندماج الاجتماعي والوطنين وتعميق موجبات العدل والمساواة والحرية.
ولقد أظهرت الأزمات المتلاحقة التي يعاني منها المجال العربي والاسلامي، أن علة العلل وجذور العديد من الأزمات والمشاكل يكمن في غياب الحرية، وسيادة حالة الاستبداد والتفرد، وضمور حالات المشاركة الشعبية فيما يرتبط براهن الأمة ومستقبلها. ولا شك أن هذا الغياب بأبعاده المختلفة وأشكاله المتعددة، هو وراء فشل برامج التنمية واستحكام شبكة التبعية والذيلية على المستويين السياسي والاقتصادي.
فالأفكار التي تنمو في الخفاء والظلام، بعيداً عن العلم وأهله ستكون خطرة وهدامة. أما الأفكار التي تنمو في جو الحرية وفي العلن وتناقش ويتم الحوار حولها، فإن ولادتها الاجتماعية ستكون يسيرة، وستكون هذه الأفكار في مسار البناء لا الهدم.
إن الفكر الاسلامي المعاصر اليوم، بحاجة أن يقتحم فضاء الحرية، ويكشف المضمون الثري لهذا الفضاء في قيم الاسلام وأحكامه ومثله. إذ أن هذا الاقتحام سيقدم للفكر الانساني أبعاداً ومضامين جديدة، ويزيد من امكانية المسلمين للتفاعل مع العصر وقضاياه الكبرى، ويساهم في خلق شروط الحرية الفعلية والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الانسان.

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الحقوق والحريات