موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

لماذا الاهتمام بدفن الاموات؟
ابو سماحة أحمد



يروي لنا القران قصة ابني ادم, وكيف لجأ أحدهما الى قتل الاخر, والطريقة التي تعامل بها القاتل مع جثة اخيه, اذ وقف حائراً لا يدري كيف يتصرف مع هذه الجثة الملقاة على الارض, ولم يجد أية وسيلة تنقذه من هذا الموقف الحرج, واستغرق في التفكير لمدة معينة, حتى ادركته رحمة الله الذي بعث غراباً علمه كيف يواري جثمان أخيه في التراب, لا شك ان القاتل خطرت على باله الكثير والكثير من التساؤلات قبل ان يلاحظ الغراب, هذه التساؤلات التي كان مصدرها الوقوف أمام جثة هامدة غادرتها الحياة وهي ملقاة على الارض بدون أية حركة, لقد أفزع هذه المنظر ابن ادم فراح يفكر بعد ان عاد له وعيه اثر الجريمة التي ارتكبها في فعل شيء ما لهذه الجثة ودون تركها كما هي لعوامل الاهمال والصدفة, فكانت النتيجة ان يتعلم الانسان عن طريق الدفن كيفية التعامل مع جثة الميت, والقران يلخص لنا بصدق في جملة من الايات ما حدث فعلاً, وكيف بدأت عملية الدفن لدى ابني ادم. اذ يقول الله تعالى: "واتل عليهم نبأ ابني أدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين, لأن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين, إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاؤا الظالمين".
ومن خلال هذه الايات القرآنية نكتشف حقيقتين هامتين: الحقيقة الأولى وهي اعتقاد ابني ادم بالاخرة, أي الحياة الثانية, والتي يكون فيها مصير الاثمين النار ومصير الطيبين الجنة, وهذا من خلال الانذار والتحذير الذي وجهه المقتول الى القاتل قبل ارتكاب هذا الاخير لجريمته قائلاً: "إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاؤا الظالمين".
والحقيقة الثانية, وهي أن القاتل على الرغم من الفعل الاجرامي الذي أقدم عليه لم يشأ ترك جثة اخيه في العراء, وبدأ يفكر بالطريقة التي تمنكه من تجاوز هذا الموقف, فكان الغراب بمثابة المنقذ للقاتل من الحيرة التي وقع فيها, وأنه لولا قناعة القاتل بقداسة هذه الجثة, وبعثها في الاخرة لما أولاها أي اهتمام يذكر ولتركها لا سيما وأن الشجاعة التي دفعته ليركتب الجريمة, بامكانها ان تدفعه لأكثر من ذلك, ولكن لولا العقيدة الراسخة لديه بحياة ما بعد الموت, لما بقي مرتبطاً بمكان الحادثة ولغادره بسرعة, فهناك شيء ما جعله يلزم مكانه ويفكر بعد أن عاد اليه وعيه في التصرف بطريقة لائقة على الاقل مع جثة اخيه, وما يؤكد عودة الوعي للقاتل هو الندم الذي انتابه بعد ان ادرك بأنه قتل أخاه فعلاً, وهذا الندم في حد ذاته ناتج عن تكوين ديني أخلاقي تلقاه القاتل في أحضان أسرته, وكما نعرف فان كل الديانات تربط مصير الانسان في حياة ما بعد الموت بالفعل الاخلاقي فاذا ارتكب الانسان عملاً خيراً فمصيره الجنة, وان ارتكب عملاً شريراً فمصيره الجحيم.
وإذا كان القران يشير في روايته لأول جنازة وأول دفن لدى بني أدم, فان معطيات علم الاثار, بدورها تكشف لنا بأن الاهتمام بجنازة الانسان ودفنه لا يعود الى عصور حديثة, أي مع ظهور الحضارات الانسانية والديانيات السماوية, بل يعود الى عشرات الالاف من السنين, أي الى عصر إنسان لياندرتال الذي اختفى نهائياً من الوجود حوالي ثلاثين الف سنة قبل الميلاد, وإن أقدم قبر اكتشف حتى الان يعود الى حوالي تسعين ألف سنة بموقع سخول بفلسطين حيث تم العثور فيه على هيكل عظمي لشاب تحيطه قرون الأيل التي وضعت عند قدميه, بطريقة تبدو مقصودة الغرض. ولقد أجمع مؤرخو الديانات وعلماء الاثار وغيرهم بأن أقدم عقيدة في الاخرة تعود الى أقدم اهتمام بجنازة المتوفي, والتي تعود الى حوالي 90.000 سنة كما سبق وأشرنا اليه, وما يدعم أكثر عقيدة حياة ما بعد الموت هو أقدمية الاثاث الجنائزية وانتشاره الواسع, ولكن الخطأ الوحيد الذي وقع فيه هؤلاء هو أنهم لم يدركوا حقيقة وجود الاثاث الجنائزي كرمز فقط, وليس كأدوات يعاد استعمالها ثانية في الحياة الاخرى.
إذن فالاهتمام بجثمان المتوفي دليل على الاعتقاد بالبعث في حياة ثانية, وهذا ما يؤكد علم الاسكاتولوجيا الذي يدرس الرمزية الجنائزية. ولولا هذه العقيدة لكان مصير الجثث الانسانية كمصير جثث الحيوانات, وبمعنى اخر نقول ان من بين ما يميز الانسان عن الحيوان, هو كون الانسان يهتم بجثة أمواته وهذا عكس الحيوان, وقد يتساءل البعض ويقول إن هناك مجتمعات بشرية لا تهتم بدفن جثة الميت, وترمي بها في العراء لتفترسها الحيوانات؟
صحيح ان هناك الكثير من المجتمعات البشرية, لا تعتمتد على الدفن في تعاملها مع جثث الموتى, ولكن هذا لا يعني غياب رمزية جنائزية ولو بشكل بسيط جداً يعكس بساطة العقائد البدائية لهذه المجتمعات.
فالمجتمعات التي تعتمد على الحرق الجزئي أو الكلي لجثة المتوفي كما هو عند الهندوس لا تقوم بهذا العمل بدون مراعاة طقوس وشعائر دينية محددة, فهذه الطقوس لديها ارتباط مباشر بعقيدة الحياة ما بعد الموت. اما المجتمعات التي تترك جثث الموتى في العراء لتأكلها الحيوانات, فهي لا تلجأ الى هذه العادة, بهدف تحقير او اهمال للرمزية الجنائزية, بل إن أي ترك لجثة المتوفي يعقبه اهتمام معين بهذه الجثة, وهذا ما يؤكد أيضاً تواجد علاقة هامة بين الرمزية الجنائزية وبين الاعتقاد بعث جديد في حياة أخرى. فالجثة تغطى بالورق والاغصان عند قبيلة تساداي التي اكتشفت في سنة 1967 بغابات الفليبين, والتي تعود نمط حياتها الى العصور الحجرية البدائية.
وعند الماساي بإفريقيا فإن الجثة توضع فوق الارض على بعد مئات الأمتار من الكوخ, ويتم وضعها على الجانب الايسر مع تغطيتها بأغصان خضراء. وتردد حولها الصلاة التالية: "إلهي الأب مات, أتوسل إليك امنح الصحة, امنح الخيرات, امنح الابناء".
ولدى بعض القبائل في بورنيو بأندنوسيا فان جثة المتوفي تترك في المكان نفسه بحيث تغطى بالاوراق.
زيادة على هذا فان ترك الجثة في العراء ليست قاعدة عامة, بل تقتصر على فئات دون أخرى, وأحياناً يميز فيها بين الرجال والنساء, ضف الى هذا أن هذا النوع من الدفن يكون في حالات أخرى كعقاب للمجرمين, وهذا قبل أن ينالهم العقاب في العالم الاخر, ويمكننا إعطاء أمثلة عن مجتمعات مارست هذا النوع من الجنازات انطلاقاً من الاعتقادات التي أشرنا اليها, فلدى الصينيين البوذيين الأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم الثلاث سنوات هم وحدهم الذين تترك جثثهم في الخلاء, وعند قبائل النيلوتيك بإفريقيا فالنساء يحرمن من الدفن الذي يستفيد منه الرجال, إذ تلقى جثثهن للضباع, وفي الشرق من بحيرة فكتوريا فإن الجثة سواء كانت لرجل أو امرأة فانها تترك للضباع, ما عدا جثة الزعيم التي تحظى بالدفن, وفي أماكن أخرى كما هو عند الأشانتي بإفريقيا فإن العقوبة التي يتلقاها المجرم هو حرمانه من الدفن. ولدى الساموياد بأقصى شمال اسيا فالمتوفي يوضع في مكان خال ويحاط بأحجار على شكل دائرة.
ومن هنا يمكن أن نقول بان ترك الجثة في العراء, لدى بعض المجتمعات لا يعني انعدام الدفن لديها. بل إن الدفن يخضع لاعتبارات معينة, وهو نوع من الامتياز لفئات دون أخرى وهذا لربما انطلاقاً من عقائد هذه المجتمعات حول مصير الناس بعد الموت, وقد يكون للزعيم مكانة أكثر من أفراد القبيلة حتى في العالم الاخر, وهذا ما اعتقدت به الكثير من المجتمعات وما وجد أيضاً لدى مجتمعات متحضرة مثل المصريين قديماً, وفي هذه الحالة فإن الدفن هو بمثابة تكريم وتبجيل أو تقديس لجثة الزعيم, الذي سيتبوأ نفس المكانة في العالم الاخر, ونجد هذا الاعتقاد لدى الكثير من المجتمعات التي ترى بإنه لا اختلاف في وضعية الأفراد سواء في العالم الأرضي أو العالم السماوي.
زيادة على هذا فإن ترك الجثة في العراء لا يكون ناتجاً عن إهمال أو احتقار, بل العكس, فالجثة تغطى وتقرأ حولها الدعوات, وتوضع رموز أيضاً كرمز الدائرة مثلاً, ولو تساءلنا عن الهدف من تغطية الجثة, أو وضعها على جانبها الايسر أو الايمن أو إحاطتها بدائرة من الاحجار, فإننا لا نجد أية إجابة أو فر ضية, سوى فرضية الايمان بانبعاث هؤلاء الموتى في عالم اخر.

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي