موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

الجهاد في التراث الإسلامي
د. حسن حنفي



1- الجهاد من أركان الإسلام
في هذا الوقت الذي تتم فيه التضحية بشعب فلسطين على مذبحة الكيان الصهيوني وشهادة العرب والمسلمين جميعاً، في الوقت الذي يقف فيه شعب فلسطين بمفرده يدافع عن كيانه ووجوده وأرضه ومستقبله، في الوقت الذي تتصدى فيه المقاومة الفلسطينية للعدوان الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية، نصفها في 1948 ونصفها الآخر عاو 2002 يصدر العرب البيانات ويصوغون المبادرات ويطلقون الشعارات ويعقدون الاجتماعات وتتكرر مأساة حصار بيروت في 1982 في حصار مدن الضفة الغربية. في كلتا الحالتين وقفت الأنظمة العربية تستنكر وتشجب وتدين والدماء تسيل. والجرحى يموتون والشهداء يتساقطون والبيوت تدمر والكل يستنجد بالغير لا بنفسه، والكل يستصرخ الآخرين، الضمير العالمي والأمم المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي بل الكل يتوسل إلى الجلاد كي يرحم الضحية.
وماذا يفعل المفكر العربي إلا أن يستصرخ أيضاً، يشحذ الهمة ويشارك انتفاضة الشارع العربي بالكتابة. ويستنصر تراث الأمة وتاريخها وثقافتها لعله يجد في الجهاد والشهادة ما يقوى به المناضلون في فلسطين، يواسي الجرحى ويعزي بالحياة الأبدية، وبالخلاص القريب، وهو هروب إلى الماضي وعجز عن مواجهة الحاضر فما زال الشهيد هو بارقة الأمل الباقية بالرغم من آلام الفراق وعذاب الضمير وفي هذا الإطار وفي هذا الوضع النفسي تتم كتابة الجهاد في التراث الإسلامي، بيان أنه ركن من أركان الإسلام أولاً، وتحليل معاني الجهاد في القرآن الكريم ثانياً وفي السنة النبوية ثالثاً، وفي التراث الفقهي رابعاً، وعند المصلحين المحدثين تماماً ولعل في ذلك بعض العزاء للنفس والآخرين.
الجهاد ركن من أركان الإسلام وهو عند بعض الفقهاء الركن السادس وعند آخرين الركن الأول لأن الأركان الخمسة الأولى تقوم عليه، فالشهادة فعلان من أفعال الشعور "لا إله" ثم "إلا الله" الأول للرفض والنفي، نفي الآلهة المزيفة للعصر، الثروة والجاه والشهرة والمرأة والترف ومباهج الحياة. والثاني قبول ورضى أن يتساوى جميع البشر أمام إله واحد، لا ظالم ولا مظلوم، لا قوي ولا ضعيف ولا غني ولا فقير بل الكل متساوون بفعل الخلق. وهي شهادة أي رؤية وإعلان بالقول والعمل، بالفكر والوجدان. فالساكت عن الحق شيطان أخرس، (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه). وهي شهادة حق وليست شهادة زور. وهي التزام بقضايا العصر وقبول للتحديات، والعمل في سبيل تقدمه ورفعته.
والصلاة جهاد في الزمان، وحفاظ على الوقت وقيام وقعود بالبدن وحياة الفضيلة، وحب الخير للناس، وعمل فردي وجماعي، وتضامن اجتماعي، فالصلاة أحد أنواع الجهاد، جهاد النفس ومقاومة الكسل والدعة والخمول، والحرص على الوعي اليقظ. واستبعاد الوعي الخامل.
والزكاة جهاد بالمال، وتزكية وتطهير للنفس بالبذل والعطاء، وحق الآخر في مال النفس، ورفض الاكتناز، والعمل على سيولة رأس المال حتى لا يدور في حفنة من الأشخاص. وهو استثمار جماعي لقضاء حاجات الآخرين وإيجاد فرصة عمل للعاطلين ( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم).
والصيام جهاد للنفس، وتقوية للإرادة، وسيطرة على الرغبات والإنفعالات والأهواء. هو إحساس بفقر الفقراء، وجوع الجوعى، وحاجة المحتاجين (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً). الصيام صلة بالله كما أن الجهاد عَوْدٌ إليه.
والحج جهاد سنوي للعمل الجماعي، والتذكير بمصالح الأمة. والاجتماع العلني لكل الناس في مساواة تامة امام الحق ولإعلان البراءة من البطالة، وتحديد من هم أعداء الأمة ومن هم أصدقاؤها؟ أين معاركها وما امكانياتها؟ إلى أي مدى وصل إحساس المسلمين بالأمانة والخلافة في الأرض وتعميرها؟ الحج سفر وجهد ومشقة، وسعي وطواف كما أن الجهاد سفر للأعداء ومقاومة للعدوان، وسعي وطواف في ساحة القتال.
لذلك لا يساوي أي ركن من أركان الإسلام حتى لو كان الحج ركن الجهاد (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله).
فالجهاد هو كل شيء في الإسلام له أشكال عديدة يقوم على شحذ الطاقة، وبذل الوسع، وإفراغ الجهد. وهو المعنى الاشتقاقي للفظ "جهد" قبل أن يتحول إلى جاهد "جاهد" أي "قاوم" و "اجتهد" أي بذل الجهد في الفهم والمعرفة. فالاجتهاد مصدر رابع للتشريع بعد القران والسنة والاجماع
ونظراً لأهمية "الجهاد في سبيل الله" في حياة المسلمين المعاصرين بعد أن أطبق عليهم الاستعمار وأثناء ضعف دولة الخلافة ثم هزيمتها في الحرب العالمية الأولى قبل القضاء عليها كلياً في 1926 بعد الثورة الكمالية في تركيا في 1923 بدأ المصلحون يؤكدون دور الجهاد في سبيل الله ضد محاولات العصور المتأخرة في النيل من أهميته واستبعاده. فقد انتهى عصر الفتوحات، ولم يبقَ إلا جهاد النفس كما يفعل الصوفية. وتم الترويج للحديث الذى يشكك فى رواية معظم المصلحين. "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". وكتب كل من أبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب رسالة في "الجهاد فى سبيل الله" لتصحيح الصورة، ورد الاعتبار للجهاد ضد الاستعمار والاحتلال والصهيونية باعتبارها استعمارا استيطانياً.
ويرتبط بمفهوم الجهاد مفهوم الشهادة، ومفهوم الحياة، فالجهاد بداية والشهادة نهاية. والشهادة تبدأ بالوعي بالعصر وبالزمن أي الوعي بالحق. فالله يشهد وهو خير الشاهدين، والإنسان يشهد، والحواس تشهد. الشهادة تعنى النطق بالحق، المعاصرة والإعلان دون الكتمان، الشهادة على النفس دون شهادة الزور. والشهادة تدوين للتاريخ، وسجل للحوادث، والشهيد والشاهد من نفس الفعل. الشهيد، يشهد بالفعل، والشاهد يشهد بالقول. وكلاهما إعلان. الشهيد إعلان عملي والشاهد إعلان نظري. والشهداء مع النبيين والصديقين (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين). فالأنبياء والشهداء يعرفون الحق النظري والعملي (وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بالحق وهم لا يظلمون). وكما أن الأنبياء والصالحين في فوز ونجاة كذلك الشهداء (والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم). والحي هو الذي يقاتل في سبيل الله، ويشتري حياة الآخرة بحياة الدنيا (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة). والشهيد حي لا يموت، آثر الحياة الأبدية على الحياة الظاهرة (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون). إنما هو ألم الفراق بالرغم من الفرح بالشهادة، وحزن الدم بالرغم من فرح العرس. (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون- فرحين بما آتاهم الله من فضله). وآخرون أحياء في الظاهر، موتى في الباطن لأنهم رضوا بالحياة الدنيا ومتاع الغرور. استسلموا لقوى الطغيان بالرغم من الاستنصار في الله وفى الدين وفي الوطن وفى الأخوة وفى العروبة، وآثروا الحكم على الشرف، والسلطة على الكرامة، والدنيا على الآخرة. هم (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون).
وإذا كان الجهاد لا يكون فوق الطاقة لعدم جواز تكليف ما لا يطاق فإنه لايكون أيضاً أقل مما يستطيعه الإنسان، يؤثر عليه الآباء الأبناء والإخوان والأزواج وا لعشيرة والأموال والتجارة والمساكن؟ (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم والأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا). الجهاد لا يكون إلا في سبيل الله وابتغاء مرضاته. هو الجهاد الخالص الذي لا يهدف إلى شهرة إعلامية "إني شهيد يا رفاق".
وقد ورد لفظ، (جهد)، ومشتقاته في القرآن الكريم في صيغ اسمية. ويدل ذلك على أن الجهاد فعل أكثر منه شيئاً. وهو أولاً فعل أمر للرسول وللمؤمنين (يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم). والكفار هم قتلة الأنبياء الذين يعصون الحق ويتنكرون له مثل الصهاينة المعاصرين. والمنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس بقلوبهم مثل الأمريكيين الذين يؤيدون الفلسطينيين باللسان ويدعمون الكيان الصهيوني بالأعمال. والكفار لا أمان لهم حتى ولو عرضوه، (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيرا). والأغلب هو أمر الجماعة بالجهاد أمراً مباشرا.
2- الجهاد في القرآن الكريم
والجهاد لفظاً هو بذل الوسع والجهد واستنفاد الطاقة من أجل تحقيق غاية بصرف النظر عن طبيعة هذه الغاية للحق أم للباطل. فقد يجاهد الآباء الأبناء دفعاً لهم نحو الشرك (وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما....). وهي الحالة الوحيدة التي يجوز للأبناء فيها عصيان الآباء. والجهاد جزء من طبيعة الإنسان. والجهاد جهاد للنفس شحذاً لطاقاتها، أو تقوية لإرادتها، وإحياء لمقاصدها. والجهاد للذات قبل الموضوع، للنفس قبل العالم (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه. إن الله لغني عن العالمين). وهو ما لاحظه الشاعر الفيلسوف محمد إقبال، بأن الذات تتخلق بالمقاصد، وتحيى بالآمال، وتشعر بالجمال، وتدرك الحقائق وتتحد بحركة الكون والتاريخ. لذلك لا يكون الجهاد إلا قدر السعة والطاقة لعدم جواز تكليف ما لا يطاق. (والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم).
يبدأ الجهاد بالتقوى أي بالإيمان الصادق وإخلاص النية. وهو الطريق إلى الله، (اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا فى سبيله). والجهاد بالنفس وبالمال، بالشهادة بالعطاء (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله). وهو حكم عام لا استثناء فيه لوجاهة اجتماعية، ( وإذا أُنزِلت سورةٌ أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطولِ منهم). الجهاد في سبيل الله هو الجهاد الخالص الذي ينطلق من الإيمان العميق بالقضية، (وجاهدوا في الله حقّ جهاده).
والجهاد ليس فقط فعل أمر، مباشر للفرد والجماعة، للرسول وللمؤمنين لتحقيق ما يستحيل تحقيقه بل هو حقيقة تاريخية، وممارسة جماعية، قام بها السابقون. لذلك يأتي الفعل في صيغة الماضي أيضًا أكثر من صيغة الأمر تدعيماً للأمر الحاضر بفعل التاريخ وشهادة المجاهدين السابقين. فالجهاد تجربة ومحك واختيار للفوز والفلاح، ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)، (أم حسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم). الجهاد ابتلاء (ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم).
ويتطلب الجهاد الإيمان بالقضية، فالجهاد عمل، والعمل جوهر الإيمان، ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم). وهو إيمان يقيني بلا ريب أو شك، يتحول تلقائيا إلى فعل جهادي، (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم).
وقد يتطلب الجهاد الهجرة في سبيل الله، فأرض الله واسعة، ولا تضيق على المؤمنين بما رحبت. لذلك ارتبط الجهاد بالهجرة في عديد من الآيات ا لقرآنية، (والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله). فالأمة واحدة، والعدوان عليها واحد، والعرب الأفغان يجاهدون في أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وكوسوفو ولبنان وفلسطين وفى أي أرض إسلامية يقع عليها العدوان. فالإسلام أممي لا يعترف بحدود الدولة الوطنية أو ا لقومية، رابطة الأخوة الإسلامية. ووحدة العقيدة دليل على وحدة الأمة.
ويتطلب الجهاد الجمع بين الإيمان والهجرة، فالايمان بداية، والهجرة طريق، والجهاد نهاية، (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض). وهو عمل جماعي لإيواء المجاهدين ونصرتهم والجهاد معهم بالنفس والمال (والذين آمنوا من بعدُ وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم). وهم أعظم درجة عند الله.
والإيمان والهجرة والجهاد، كل ذلك يتطلب الصبر والتخطيط على الأمد الطويل. وقد يفتن الإنسان في جهاده ويضعف استجداء للحق ثم يندم فإن الله غفور رحيم. (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا، إن ربك من بعدها لغفور رحيم).
والجهاد فقط ليس أمراً من الله للرسول وللمؤمنين، وليس فقط حقيقة تاريخية وممارسات في الماضي بل هو أيضا فعل مستمر في الحاضر، يضم الإيمان والجهاد، (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله). الجهاد حركة مستمرة من أول الخلق حتى نهايته، من البداية إلى النهاية، من الخلق إلى البعث.
والجهاد لا يقتضي القسم بجهد الإيمان بل يتطلب فعل الإيمان وليس قوله، الجهاد بالفعل وليس بالوعد، في الحاضر وليس في المستقبل. في هذه الحالة يكون الإيمان "جهداً" لا جهاداً، أي مجرد إعلان نوايا وليس تحقيق أفعال، (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم). يكون الجهاد مجرد وعد بالإيمان دون تحقيقه، (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنون بها). والقسم عن غير علم جهل مثل القسم على عدم البعث بعد الموت (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت). والقسم دليل على سوء النية لأن الإيمان لا يحتاج إلى قسم بل إلى فعل (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن). القسم كلام بلا فعل، وعد بلا تحقق، إعلان بلا التزام، (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم).
ونقيض الجهاد الاستئذان والقعود والتخلف والنكوص، (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا) فالاستئذان بعدم الجهاد تناقض بين الإيمان والجهاد. فالجهاد من متطلبات الإيمان، والإيمان بلا جهاد كالإيمان بلا عمل، والقول بلا فعل والنية بلا تحقق وهي سمة المنافقين والتخلف ليس فرحاً بل هو حزن ونكوص (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا)، فالرسول قدوة، والقدوة يؤتمّ بها.
والجهاد لا يقتضي خوف اللائمين وحسد الحاسدين وشماتة الشامتين (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم). الجهاد صدق النية وإخلاص القصد، والتوجه إلى الله، غاية الغايات، وقصد المقاصد.
لذلك لا يستوي القاعدون مع المجاهدين، (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) الخائفين على عرض الدنيا، (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)، (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيماً).
صحيح أن مداد العلماء مثل دماء الشهداء ولكن تظل لدماء الشهيد الأولوية المطلقة على مداد العلماء. الدماء تروي الأرض والمداد يجف على الأوراق. والدماء دورة الحياة الأبدية في حين تبلى الأوراق.
3- معاني الجهاد في السنة النبوية:
قد أفرد البخاري في الجزء الرابع من صحيحه باباً في "فضل الجهاد والسير". ويبدؤه بالآية الكريمة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به). ويتداخل الباب مع الدعوة إلى الإسلام شرقاً وغرباً لكسرى وقيصر، ودخول الإسلام بالبيعة على الإسلام والجهاد.
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما حيينا أبدا
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة
فالجهاد ليس فقط عقيدة بل شريعة، وليس فقط امراً واجباً بل سيرة متحققة فى التاريخ، الجهاد والمجاهدون، النظر والعمل، الأمر والتحقق.
قد تشير بعض الأحاديث إلى أن أفضل الأعمال الصلاة علي ميقاتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد فى سبيل الله. وهذا لا يعني تأخير الجهاد إلى الدرجة الثالثة، فالكل جهاد، الصلاة في وقتها وبر الوالدين جهاد بالوقت وجهاد بالعمل والنفس. وكذلك إذا روي "أفضل الجهاد حج مبرور، فالحج جهاد بالوقت والجهد والمشقة".
وقد يكون الحج جهادا لما بينهما من قرينة الجهد والنصب "نعم الجهاد الحج" خاصة للنساء، مع ذلك تخرج النساء مع الرجال للقتال، لري العطشى ومداواة الجرحى كما كانت تفعل نساء الرسول وأمهات المؤمنين، ويحملن القتلى إلى دورهم. كما أن المجاهد مثل الصائم، جهاد النفس وجهاد العدو. ومع ذلك فقد آثر بعض الصحابة الغزو على الصوم (من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان دخل الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها) فالجهاد بالأعمال، أعمال الصلاة والصوم.
ويروي في نفس الوقت أنه لا يوجد عمل يعدل الجهاد ( لغزوة فى سبيل الله أو روحة خيرمن الدنيا وما فيها).
ويتمنى الشهيد أن يعود إلى الدنيا حتى يقاتل ويستشهد مرة أخرى، "ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وان له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى"، "والجهاد فى المكان دون الهجرة. الجهاد فى الأرض في الوقت، "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد نية وإذا استنفرتم فانفروا". والدنيا رباط وجهاد. والأمة في رباط إلى يوم القيامة، "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا، وما عليها. والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها"، الجهاد تثبت بالأرض ودرء للعدوان، والدفاع عن الحرمات.
والصبر عند القتال، (إذا لقيتم فاصبروا). والصمود وقت الزحف. والنفس الطويل ينتصر على النفس القصير. والزمان والتاريخ مع المجاهدين. كانت حروب "إسرائيل" باستمرار خاطفة. والآن انتفاضة الاستقلال تطول وتصبر وتصمد فى حرب المخيمات ونضال المجاهدين. ولايعنى وجود ضعاف فى الأمة نكوصا عن القتال. فالقتال دفاعاً عن الحرمات (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) القتال دفاع عن النفس ضد العدوان وحماية للضعفاء الذين لا يستطيعون القتال، كالأطفال والنساء والشيوخ والمرضى.
والقتال من أجل الحق وليس من أجل العدوان والغنيمة والسلب والنهب "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". ويعني ذلك الانتصار للحق ومواجهة الظلم دفاعا عن الحرية والمساواة ضد الاستعلاء والاستكبار. الجهاد لدرء العدوان. والقتال مفروض على المسلمين، "يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية. فإذا لقيتموهم فاصبروا". لذلك كتب القتال على المسلمين وهو كره لهم لما فيه من نصب. الجهاد للدفاع وليس للعدوان، لدرء المخاطر وليس لتهديد أحد.
والنصر بالرعب، "نصرت بالرعب". فلا يوجد عدو لا يقهر. والرعب فى قلب العدو رعب الظلم والعدوان على الأبرياء. لذلك يفر العدو عند اللقاء أو يرفض النزال لأنه يعلم أنه مغتصب لأرض.
والحرب خدعة، الحرب فن الانتصار. ويتحقق النصر بعدة طرق وليس بالمواجهة المباشرة فقط، وفن خداع العدو من الفنون العسكرية.
ويحرم قتل النساء والصبيان في الحرب أو حرق الدور والنخيل في حين أنه يجوز قتل العدو المحارب، فللحرب آدابها. وللقتال قواعده. ولا يكون القتال إلا مع المقاتلين الغادرين حتى يتكافأ الخصمان.
وكان المسلمون يقرأون في الحرب (سيهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر). فالشعر والقرآن تقوية للروح المعنوية، ويمثلان الوجدان العربي قبل الإسلام وبعده.
ولا يجوز ربط الأسير أو تجويع الأبرياء أو ترك المرضى يموتون والجرحى ينزفون "فكوا العاني، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض". فللحرب آدابها ولا نزال إلا بين المقاتلين.
ويقاتل عن أهل الذمة ويدافع عنهم. ولا يجوز استرقاقهم ويوفي لهم. فللكنائس والمعابد حرماتها ومن احتمى بكنيسة أو معبد فله الحماية.
والجهاد بالنفس وبالمال. الجهاد بالمال تجهيز المجاهدين والعناية بأسر الشهداء، "من جهز غازياً فى سبيل الله فقد غزا". ومن احتبس فرساً فى سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله فى ميزانه يوم القيامة. وفرس اليوم هو الطائرة والدبابة والمصفحة والصاروخ والمدفع والبارجة، البذل فيها والعطاء لها موزون لصاحبه يوم القيامة.
ويطلب الولد للجهاد كما طلب داود. وللطليعة الفضل فى الجهاد، فالسابقون السابقون. وكان الرسول يتعوذ من الجبن والكسل والعجز والضعف.
والمجاهد فى سبيل الله يركب البحر كما تركب الملوك على الأسرة. وأول جيش من الأمة يغزو البحر فله أجر السبق، "أول جيش من أمتى يغزون البحر قد أوجبوا". و"أول جيش للأمة يغزو الروم فله السبق أيضاً"، "أول جيش من أمتى يغزو مدينة قيصرمغفور لهم".
والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة. والخيل الآن هي المصفحة والدبابة والطائرة والصاروخ. كانت الخيل هي السلاح الرئيسي عند القدماء. لذلك كثرت الأحاديث فيه. والآن تنوع السلاح في البر والبحر والجو بل وفي الفضاء.
واليهود ضمن أعداء الأمة، وهم اليهود الذين يخونون ا لعهد، وينقضون ا لوعد، ويضمرون العدوان. هم أشبه بصهاينة اليوم. وهم في عداء للمسلمين، والمسلمون في قتال معهم إلى يوم القيامة، "تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر يقول يا عبدالله هذا يهودي ورائي فاقتله". ولا تقوم الساعة قبل أن يحدث ذلك، فينتصر المسلمون على اليهود. وعلى المسلمين إجلاء اليهود عن اراضي العرب درءاً للعدوان والغدر ومنعاً لوجود بؤرة استيطانية تتوسع فيما بعد حتى تشمل أراضي العرب. ويظل اليهود كارهين للعرب، فقد تحولت النبوة منهم إليهم (أي إلى العرب)، وغضب الله عليهم وحكم عليهم بالتيه، فإما أن يسلموا واما أن يغادروا، "انطلقوا إلى يهود.. اسلموا تسلموا، واعلموا أن الأرض لله ورسوله، واني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن يجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله". وكان الرسول يكبِّر في حروبه مع اليهود "الله أكبر، خربت خيبر"، وقد حاول اليهود سمّ الرسول: فإن كان كاذباً يستريحون وان كان نبياً فلن يضره السم.
ويعدد النبي ست مراحل مستقبلية حتى يوم الساعة. الأولى موته حتى فتح بيت المقدس. فبيت المقدس فتح للمسلمين. والثانية والثالثة موتتان ويصبح المسلمون كالغنم وربما هما الغزوتان غزوة الصليبيين والاستعمار الحديث من الغرب والتتار والمغول من الشرق. والرابعة وفرة المال حتى ليعطى الرجل مائة دينار ويظل ساخطاً وربما هي فترة النفط وثروة النفط وعوائد النفط. والخامسة فتنة لا تترك بيتاً للعرب إلا دخلته. وهو حال العرب الآن من التفكيك والضعف والحروب الأهلية فى لبنان والجزائر أو الحروب بين العرب والمسلمين مثل حربي الخليج الأولى والثانية. والسادسة هـدنة بين العرب وبني الأصفر الذين يغدرون بالعرب، ويأتونهم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا. وهو حال العرب الذين صالحوا "إسرائيل"، وعقدوا معاهدات "سلام" معها، وغدرها بالعرب في فلسطين بعد أسلو ومدريد، وحصار المدن والمخيمات بمئات من الدبابات والمصفحات، والقضاء على السلطة الوطنية المنتخبة. ومن أعداء الأمة قوم ينتعلون نعال الشعر، عراض الوجوه، صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، وهم أقرب إلىالآريين والى الغربيين الرومان أو الشرقيين التتار والمغول. "إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً ينتعلون نعال الشعر.. وأن تقاتلوا قوماً عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة".وأحيانا يعينون بالترك.
لقد نشأ الإسلام وسط الإمبراطوريتين القديمتين، الروم غرباً وا لفرس شرقاً. وورثهما المسلمون، فلا قيصر غرباً ولا كسرى شرقاًَ.. فالإسلام هو القوة البازغة في نظام العالم القديم "هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله". وهو كذلك أيضا في نظام العالم الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية في الشرق وبداية التفسخ في المجتمع الرأسمالي الغربي ومعارضة الشعوب للعولمة ورموزها مثل منظمة التجارة العالمية، ومجموعة الثمانية، واتفاقية "الجات"، والمجمع الصناعي العسكري، والشركات المتعددة الجنسيات، واقتصاد السوق.
وللمجاهد الشهيد الجنة إن لم يرجع سليما مع أجر أو غنيمة. الجهاد بمقاييس الدنيا أخذ وعطاء، فوز وتضحية، غنم وغرم، وبمقاييس الآخرة غنم وفوز. وللمجاهدين فى الجنة درجات تبلغ المائة، ما بين درجة وأخرى كما ما بين السماء والأرض. أوسطها الفردوس، وأعلاها فوق ا لعرش، ومنه تتفجر الأنهار. دار الشهداء أحسن الدور. ويأتي الشهيد يوم القيامة اللون لون الدم، والرائحة ريح المسك. والشهادة تغفر الذنوب. والتضحية بالنفس تجب كل شيء، "ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار" فتمسه و"الجنة تحت ظلال السيوف". وظل الملائكة على الشهيد "ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها تباركه وتحييه وتسعده".
4- معاني الجهاد عند الفقهاء
ويعتبر ابن المبارك أنما الجهاد تطبيق لمبدأ وحدة القول والعمل، "يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون". فالجهاد عمل لتحقيق القول، والقول إعلان عن الإيمان فى الشهادة، "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم". والجنة في مقابل الشهادة: (إنما الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).
والشهادة تعبير عن صدق الإيمان، (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا). وهي استباق للخير، (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض). وهي النفير للحق والقيام دفاعاً عنه، (انفروا خفافاً وثقالاً)، (والسابقون السابقون). والشهادة منافسة وتسابق وتسارع لنيل الخير. ومن يقاتل مع النبي فهو رباني مثله، (وكأي من نبي قاتل معه رَبَّيُّون كثيرٌ).
والشهيد مثل القائم الصائم الخاشع الراكع الساجد. فالشهادة عبادة، وركن من أركان الإسلام. المجاهد فى سبيل الله كالصائم القائم بآيات الليل وآناء النهار. فالشهادة ركن من أركان الإسلام تعادل كل ركن وتفضلها جميعاً. (رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه). المجاهد للعدو في ساحة الوغى مثل المجاهد نفسه بالصلاة والصيام والزكاة، "يوشك أن يأتي على الناس زمان خير الناس فيه منزلا، رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة استوى على فرسه ثم طلب الموت مظانة، ورجل في غنيمة في شعب من هذه الشعاب، كسقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويعتزل الناس إلا من خير حتى يأتيه الموت).
ولا يوجد فضل يعادل الشهادة، (والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم). فالتضحية بالنفس أغلى من التضحية بالوقت والشبع والمال والجهد. هي التضحية الشاملة، "لكل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمه الجهاد في سبيل الله" فهي رهبانية الخارج وليست رهبانية الداخل، في العالم وليست مع النفس، و"سياحة الأمة الجهاد فى سبيل الله ". فالجهاد سعي فى الأرض، وانتشار فى العالم.
والشهداء أمناء الله، قتلوا أو ماتوا على فراشهم، سقطوا فى المعركة أم قضى نحبهم من جراحهم. فالشهادة نية وفعل، قصد وتحقيق.
والأمة فى رباط إلى يوم القيامة "إن الله بعثني بالسيف بين يدى الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالفني، ومن تشبه بقوم فهو منهم". فالأمة حاملة للرسالة، والرسالة أمانة فى الأرض. والتدافع قانون تاريخي. ومن ثم تظل الأمة إلى يوم الدين حاملة لهذه الأمانة.
والشهداء على ثلاث درجات. الأول الشهيد الممتحن وهو المؤمن المجاهد بنفسه وماله وفي خيمة الله تحت عرشه، ولا يفضله إلا النبي، والثاني الشهيد الذى كفّر عن ذنوبه بشهادته، فالسيف ممحاة للخطايا. والثالث الشهيد المنافق وهو أقل الدرجات لأن السيف لا يمحو النفاق. فالشهادة صدق فى البداية وصدق فى النهاية.
وأول من يحبهم الله "رجل كان في فئة أو سرية فانكشف أصحابه فنصب نفسه ونحره حتى قتل" فهو شهيد مرتين مرة لأنه ضحى بنفسه ومرة لأنه أحيا الآخرين. الشهيد من سد الثغرة وحمى الرفاق، وضحى بالنفس فى سبيل المجاهدين. "وأفضل الشهداء عند الله الذين يلقون في الصف فلا يلتفتون وجوههم حتى يقتلوا"،، أي المجاهد الذي يخلص فى القتال، ويواجه العدو دون تردد، الإقدام دون الإحجام واليقين فى المواجهة، والتركيز على العدو.
وأفضل جهاد "من عقر جواده وأهريق دمه" أي من فقد سلاحه وداهمه العدو. فالجهاد قوة إرادة أكثر من كثرة السلاح، ويقاتل الفلسطينيون بسلاح أقل وإرادة أشد عدوا بسلاح أكثر وارادة أضعف. "يوم في سبيل الله خير من القيام فيما سواه". فالزمان تاريخ، وا لعمر خلود المجاهد مصب التاريخ ومحرك الزمان ومغير الأحوال، ومبدل الأمم والشعوب.
والشهداء أربعة، مؤمن لاقى العدو حتى قتل، ومؤمن أقل إيمانا أتاه سهم فقتل. ومؤمن خلط عمل صالحاً بعمل طالح ومسرف على نفسه قاتل فقتل، والكل شهيد ولكن على درجات متفاوتة. أفضلها الإيمان والفعل وأقلها الفعل حتى وان ضعف الإيمان والشهادة عمل صالح لا يختلط بعمل أقل صلاحاً. الجهاد قصد وغاية الاستشهاد نية وفتح وليس مجرد إسراف في القتل، قتل النفس أو قتل الآخر.
وخيرالناس منزلاً من امتطى فرسه فى سبيل الله فجاهد حتى قتل ثم أمرؤ اعتزل يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، يعتزل شؤون الناس، فالجهاد في العالم له الأولوية على الجهاد فى النفس. "الجهاد لمن جاهد نفسه بنفسه".
والجهاد في بقاع الأرض بالشام والعراق واليمن. وخير الجهاد فى الشام فإنه جهاد الأنبياء، "إنكم ستجندون أجنادا، جنداً بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن وعليك بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه ويستقِ بغدره فإن الله عز وجل تكفل لي بالشام وأهلها". وفلسطين جزء من الشام والمدخل إليه. فالجهاد فى فلسطين لإزاحة الاحتلال الصهيوني والحصار على شعب العراق مثل الجهاد فى الشام. وفي اليمن خير وبركة، فالحكمة يمانية. الشام أرض الأنبياء، والمدخل الشرقي لمصر وأمنها القومي، وقد زرعت "إسرائبل" بالشام لفصل المشرق العربي عن المغرب العربي وتهديد مصر.
والغزو في البر والبحر. بل إن القتال في البحر خير من القتال فى البر. وشهيد البحر له أجران مثل شهيد البر. ومن ثم كان الدفاع عن البحر الأحمر كأمن قومي عربي جهادا في سبيل الله. والدفاع عن سواحل الشام والخليج ضد القواعد الأجنبية جهادا فى سبيل الله. "من لم يدرك معي فليفز في البحر فإن قتال يوم في البحر خير من قتال يومين في البر. وان أجر الشهيد فى البحركأجر شهيدين في البر وإن خيارالشهداء عند الله عز وجل أصحاب الأكف، قوم تكفأ عليهم مراكبهم في البحر" لذلك عبر المسلمون أفريقيا إلى الأندلس ركوباً للبحر وفتحوا جزر البحر الأبيض المتوسط قبرص وكريت ومالطة عبر البحر. وانطلقت دولة الخلافة إلى أوروبا الشرقية عبر مضيقي الدردنيل والبوسفور. وانطلق المسلمون شرقاً عبر خليج فارس وبحر العرب حتى ماليزيا وإندونيسيا والفليبين ومن يركب الناقة قادر على أن يركب الفلك وامتداد الصحراء في الأفق مثل امتداد المحيطات، ولا نهاية اليابس لا تختلف عن لا نهائية الماء، ومن فاته الغزو في البر مع الرسول فإنه في البحر مع الأمة.
والغزو في البر والبحر لا تراجح فيه، ولا انحسار للفتوحات فالأرض التي يبلغها الإسلام تظل كذلك إلى يوم الدين، "إنكم ستجندون أجناداً، وتكون لكم ذمة وخراج، ، يكون لكم على سيف البحر مدائن وقصور. فمن أدرك ذلك فاستطاع أن يحس نفسه في مدينة من تلك المدائن أو قصر من تلك القصور حتى يموت فليفعل".
والشهيد أول من يدخل الجنة قبل العبد المملوك والعفيف المتعفف. فهو أول المستحقين. والاستحقاق بالحياة له الأولوية على الاستحقاق بالفعل. والكل يسبق الجزء. فالشهيد في أعلى عليين. "ومن رمى بسهم فبلغه فله درجة في الجنة". الشهادة نضال في الأرض وفوز في السماء، تحقيق قصد في الأرض ونيل فوز في السماء.
وثلاثة عيون لا تحرقها النار أبداً العين الباكية من خشية الله، والعين الساهرة مع كتاب الله، والعين الحارسة للمجاهد فى سبيل الله.
وأجرالمجاهد على الله قد يسلب منه الحق في الأرض وقد يناله بعض السوء من طغيان الحكام. ومع ذلك هو في زمرة الأنبياء والرسل، "إنه سيكون في أمتي قوم يسد بهم الثغور، تؤخذ منهم الحقوق، ولا يعطون حقوقهم، أولئك مني وأنا منهم، أولئك مني وأنا منهم.
وأفضل الشهداء تدركهم الشهادة وهم في رباط مثل شهداء المقاومة الفلسطينية، يبعث الله عز وجل يوم القيامة أقواماً يمرون على الصراط كهيئة الريح ليس عليهم حساب ولا عذاب.. أقوام يدركهم موتهم في الرباط".
والشهادة عمل مستمر حتى يوم القيامة، عمل يولد أعمالاً صالحة. الشهادة حياة مستمرة في الأرض وفي السماء، وفي الأوطان وفي الجنان، "كل ميت يختم على عمله إلا الذي يموت في سبيل الله فإنه يجري عليه أجر عمله حتى يبعث".
5- عاني الجهاد عند بعض المصلحين
وتبدأ معاني الجهاد عند المصلحين من القرآن والسنة والفقه بالإضافة إلى ظروف العصر وتحدياته والقدرة على الخروج من المنهج النصي إلى المنهج الاجتماعى. فالجهاد ليس فقط أمراً شرعياً بل هو أيضأ حركة اجتماعية، تبدأ من الفرد وتمتد إلى الجماعة، ثم تتحول إلى حركة تاريخية.
فأقرب الكتابات الإصلاحية إلى الكتاب والسنة والفقه القديم هو رسالة "الجهاد فى سبيل الله للإمام الشهيد حسن البنا إذ يبين أولا أن الجهاد ركن من أركان الإسلام، وفريضة على كل مسلم ومسلمة. ثم يذكرنا- ثانيا بعض آيات الجهاد فى الكتاب ليس عن طريق تحليل الألفاظ، لفظ "الجهاد" بل عن طريق معانيه مثل القتال والغزو والاستعداد والتخلف عن القتال والجهاد بالنفس والمال ثم الفوز فى الآخرة، فالجهاد فرض، (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)، ومع ذلك فعسى أن نكره شيئاً وهو خير لنا. وعسى أن نحب شيئا وهو شر لنا. فالقتال في الظاهر ألم وفراق وجهد ومشقة واستشهاد، وهو في الباطن فرح ونعيم وسعادة وفوز أبدي. ويظن القاعدون والمخلفون والمنافقون أن التخلف عن الجهاد منجاة من الموت، والموت حكم عام على البشر جميعاً، القاعدين والمجاهدين، "يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزًى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة فى قلوبهم والله يحيى ويميت". فالمجاهد هو الذي اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، وقاتل فى سبيل الله فيؤتيه أجرا عظيماً. الجهاد أمر شرعي بالاستعداد لملاقاة العدو، إرهاب عدو الله. وهو أمر بتحريض النبي المؤمنين على القتال، والقلة الصابرة تغلب الكثرة الباغية. وقتال البغاة جزء من عذاب الله لهم بأيدي المؤمنين. والجهاد استنفار لبذل المال والنفس، "انفروا خفافاً وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون". اما المخلفون فإنهم يخشون القتال لما به من نصيب وجهد ومشقة في الحر. والقاعد أول مرة لن يجاهد ثاني مرة. فالجهاد طواعية لا جبراً، وحرية لا قسراً، يرتعشون من سورة القتال بعد نزولها.
ويقاتل المسلم استعداداً لردع العدوان وحماية للأمة لأن الإسلام رسالة هداية وعدل. فإذا ما طلب العدو السلم استجيب له، (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله) والقصد من الجهاد إعلاء كلمة الله وليس الجاه وحب الظهور والطمع في الغنيمة والغلبة، (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
وبالرغم من القتال إلا أن الرحمة واردة في الجهاد. إذ يحرم الاعتداء، (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) والعدل عام ينطبق على الناس جميعاً أقرباء وأباعد، (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى)، فالغزو باسم الله دون غل أو غدر أو تمثيل أو قتل للأطفال والنساء والشيوخ، "اغزوا باسم الله في سبيل الله فاقتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا". ولا يتطلب القتال تشويه الوجه والتمثيل بالجثة، "إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه". وإن من الجهاد أيضا قول الحق في وجه إمام جائر، "إن من اعظم الجهاد كلمه حق عند سلطان جائر". فالجهاد ضد الطغيان في الداخل الخارج.
ويبين المودودى في رسالته "الجهاد في سبيل الله" خط ترجمة الغربيين لها بلفظ holly war أي الحرب المقدسة أسوة بما كانت تقوم به الكنيسة في الغرب. وذلك مثل خطأ الغرب في اعتبار الإسلام نحلة religion والأمة دولة وطنية nation وحقيقة الجهاد من طبيعة الإسلام باعتباره فكرة انقلابية ومنهجاً انقلابياً، تعيد بناء المجتمع بأسره على أساس من الحرية والمساواة تحت شعار"لا إله إلا الله" وهذا يتطلب الجهاد. وهو يعادل لفظة struggle بالإنجليزية. وهو جهاد فى سبيل الله، وابتغاء وجه الله ضد الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت، (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت). الجهاد في سبيل الله جهاد في سبيل الحرية والمساواة ضد العدو والإفساد في الأرض، (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). ودعوة الإسلام الانقلابية تقتضي ألا تكون العبودية إلا لله، (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله). فالإسلام دعوة إلى انقلاب عالمي شامل وتطبيق للحاكمية، (إن الحكم إلا لله)، ضد الملوك والطغاة. (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون). الجهاد إذن هو الوسيلة لتحقيق الحاكمية، وتحويل العقيدة إلى شريعة، نظام العدل في مواجهة نظام الظلم.
ولا تجوز قسمة الجهاد إلى هجومي offensive ودفاعي defensive فالدفاع اعتذار، إنما الإسلام بطبيعته حركة تحرر في التاريخ يقلب نظم البغي والطغيان. فالإسلام والجور نقيضان. والحرية والقهر لا يلتقيان. ولا خوف على حقوق أهل الذمة في الإسلام فقد جمعته المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات مع المسلمين. إنما يناهض الجهاد قوى الطغيان. وهما بلغة العصر الاستعمار والاستغلال.
ويأخذ سيد قطب في رسالته، (الجهاد في سبيل الله) نفس الاتجاه التحرري معتمداً على الكتابات السلفية لابن القيم وتقسيم المجتمعات غير الإسلامية إلى أهل صلح وهدنة وأهل حرب وأهل ذمة. لا يقاتل أهل العهد إلا بعد خرقهم له وإعلامهم بذلك. وأهل الذمة جزء من الأمة. أما أهل الحرب فهم الذين يقاتلون الذين نزلت فيهم سورة "براءة" وهذا يدل على أن الإسلام يتسم بالواقعية الجدية، والواقعية الحركية، والحركة الدائبة، والضبط ا لتشريعي لعلاقة المجتمعات بعضها بالبعض. الجهاد ضد الاستكبار في الأرض والقوى السياسية التي تقوم عليه. ولا فرق بين دفاع وهجوم كما هو الحال عند المودودي. والإسلام إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من عبودية العباد إلى عبودية الله (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)، وهو ليس الحكم الثيوقراطي المعروف في الغرب بل حكم الشريعة. القتال إذن لدرء العدوان والدفاع عن الحرية، (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله). فالقتال للبغاة، (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم). والجهاد ضد البغاة ومن يساعدونهم، (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة). لقد أخطأ المستشرقون عندما تصوروا أن الإسلام انتشر بالسيف للإكراه على العقيدة مع أن تحرر البشر حركة طبيعية لا تحتاج إلى سيف. السيف للبغي والظلم والعدوان وهو مضاد لطبيعة البشر.
----------------------------
المصدر :الجهاد في التراث الاسلامي

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي