موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

البعثة وحقيقة النبوة
احمد رضا خان صاحب قادري



ان جوهر الإنسان في أول الفطرة خلق ساذجاً خالياً لا خبر معه من عوالم الله والعوالم كثيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه كما قال سبحانه (وَمَا يَعُلَم جُنْودَ رَبِّكَ إلاَّ هُو) وإنما خبره من العوالم بواسطة الإدراك فكل إدراك من الإدراكات إنما خلق ليطلع الإنسان به على عالم من الموجودات وتعني بالعوالم أجناس الموجودات فأول ما يخلق في الإنسان حاسة اللمس فيدرك به الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة وغيرها واللمس قاصر عن إدراك الألوان والأصوات قطعاً بل هي كالمعدومة في حق اللمس ثم يخلق له البصر فيدرك به الألوان والإشكال وهو أوسع عالم المحسوسات ثم ينفتح له السمع فيسمع الأصوات والنغمات ثم يخلق له الذوق كذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات فيخلق فيه التميز وهو قريب من سبع سنين وهو طور أخر من أطوار وجوده فيدرك فيه أموراً زائدة على المحسوسات يوجد منها شئ في عالم الحس ثم يترقى إلى طور أخر فيخلق له العقل فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات وأموراً لا توجد في الأطوار التي قبله ووراء العقل طور أخر ينفتح فيه عين أخرى يُبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأموراً أخرى العقل معزول عنها كعزل قوة الحس عن مدركات التميز وكما أن المتميز لو عرض عليه مدركات العقل لأبى واستبعدها فكذلك بعض العقلاء أبى مدركات النبوة فاستبعدها وذلك عين الجهل إذ لا مستند له إلاّ أنه طور لم يبلغه ولو يوجد في حقه فظن أنه ليس موجوداً في نفسه وإلا كما لو لم يعلم بالتواتر والتسامح الألوان والأشكال وحكيت له ابتداء لم يعلمها ول يقربها وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه بأن إعطاءهم أنموذجاً من خاصة النبوة وهو النوم إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب أما صريحاً أو في كسوة مثال يكشف عنه التعبير وهذا القسم لو لم يجربه الإنسان من نفسه وقيل له أن من الإنسان من يسقط مغشياً عليه كالميت ويزول إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب لا نكرة ولأقام البرهان على استحالته وقال القوى الحاسة أسباب الإدراك فمن لا يدرك مع ركودها فأولى وأحق أن لا يدرك مع زوالها وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة وكما أن العقل طور من أطوار الأدمى يحصل فيه عين يبصر بها أنواع من المعقولات والحواس معزولة عنها فكذلك النبوة عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل والشك في النبوة أما أن يقع في إمكانها أو في وجودها ودليل إمكانها وجودها ودليل وجودها وجود معارف وعلوم لا يتصور أن ينال بالعقل كعلم الطب والنجوم فان من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام الهي وتوفيق من جهة الله تعالى سبحانه ولا سبيل إليه بالتجربة فمن الأحكام النجومية ما لا تقع إلا في كل ألف سنة مرة فكيف ينال ذلك بالتجربة وكذلك خواص الأدوية فتبين بهذا البرهان أن من الإمكان وجود طريق إدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل وهو المراد ههنا بالنبوة لأن النبوة عبارة عنها فقط بل إدراك هذه الجنس الخارج من مدركات العقل إحدى خواص النبوة ولها خواص كثيرة سواها وما ذكرناها لأن معك أنموذجاً منها من مدركاتك في النوم ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم وهي معجزات الأنبياء ولا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلاً وأمّا ما عداها من خواص النبوة فإنما ندركه بالذوق من سلوك طريق التصرف وسبيل أولياء الله ولكن هذه الخاصة الواحدة يكفيك في الإيمان بأصل النبوة كما ذكره الإمام الغزالي في كتابه المسمى (بالمنقذ عن الضلال) قالت الفلاسفة البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد كمعاضدة العقل فيما يستقل بمعرفة العقل مثل وجود الباري وعلمه وقدرته واستفادة الحكم من النبي فيما لا يستقل به الغفل مثل الكلام والرؤية والمعاد الجسماني (لِئَلاَّ يَكُونَ للِنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ) وإزالة الخوف الحاصل عن الإتيان بالحسنات لكونه تصرفاً في ملك الله بغير إذنه وعند تركها لكونه ترك الطاعة واستفادة الحسن والقبح في الأفعال التي يحسن تارة ويقبح أخرى من غير اهتداء للعقل إلى مواقعها ومعرفة منافع الأغذية والأدوية ومضارها التي لا تفئ بها التجربة إلاّ بعد أدوار وأطوار مع ما فيها من الأخطار وحفظ النوع الإنساني فأن الإنسان مدني بالطبع يحتاج إلى التعاون فلا بد من شرع يفرضه شارع يكون مطاعاً وتكميل النفوس البشرية بحسب استعداداتهم المختلفة في العلميات والعمليات وتعليمهم الصنايع الحقيقية من الحاجات والضروريات والأخلاق الفاضلة الراجعة إلى الأشخاص والسياسات الكاملة العائلة إلى الجماعات من المنازل والمدن والاخبارات بالعقاب والثواب ترغيباً في الحسنات وتحذيراً عن السيئات إلى غير ذلك لا يخفى أن المفهوم من هذا الكلام وجوب البعثة فالمراد بالحس ما يعمُّ الواجب أيضاً ويؤيده ما وقع التصريح منهم في بعض المواضع بأن البعثة واجبة والمنكرون للبعثة أو ردواً اعتراضات الأول المبعوث لابد أن يعلم أن القائل له أرسلتك فبلّغ عني هو الله ولا طريق إلى العلم به إذ لعله من إلقاء الجن وأنكم أجمعتم على وجوده والجواب أن المرسل ينصب دليلاً يعلم به الرسول أن القائل له أرسلتك هو الله دون الجن بأن يظهر الله سبحانه آيات ومعجزات يتقاصر عنها جميع المخلوقات وتكون مفيدة له ذلك العلم أو يخلق علماً ضرورياً فيه بأنه المرسل والقائل الثاني أن من يلقى إلى النبي الوحي أن كان جسمانياً وجب أن يكون مرئياً لكل من حضر حال الإلقاء وليس الأمر كذلك كما اعترفتم به وأن لم يكن جسمانياً بل روحانياً كان إلقاء الوحي من بطريق التكلم مستحيلاً إذ لا يتصور للروحانيات كلام والجواب باختيار الشق الأول ومنع الملازمة استناداً بأن جاز أن لا يخلق الله رؤيته في الحاضرين فأن قدرته لا تقصر عن شيء ولا يخفى أن تجويز عدم خلق رؤيته للحاضرين مع أنه في نفسه ممكن مقدور لله سبحانه يستلزم تجويز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة وبلاد عظيمة لا نراها وبوقات وطبول لا نسمعها وهو سفسطة فأقول والله سبحانه اعلم أن الملقى جسماني لطيف شفاف وهو المَلَك ورؤية الجسم الشفاف غير معتادة كالسماء فلا يلزم السفسطة وإنما يلزم أن لو يجوز عدم رؤية الجسم الكثيف لما هو خلاف المعتاد فافهم.
ولنا أن نجيب باختيار الشق الثاني أيضاً بأن يكون الروحاني متمثلاً بصورة لطيفة شفافة ويسمع الرسول كلامه حياً من الله سبحانه كما مرّ ولا محذور فيه فتأمل، الثالث التصديق بالرسالة يتوقف على العلم بوجود الرسل وما يجوز عليه وما لا يجوز وأن لا يحصل إلاّ بغامض النظر والنظر الموصل إلى هذا العلم غير مقدر بزمان معين كيوم أو سنة بل هو مختلف بحسب الأشخاص وأحوالهم فللمكلف الاستمهال لتحصيل النظر ودعوى عدم العلم في أي زمان كان وحينئذ يلزم إفحام النبي ويبقى البعثة عبثاً وأن لم يجز له الاستمهال بل وجب عليه التصديق بلا مهلة.
لزم التكليف بما لا يطاق لان التصديق بالرسالة بدون العلم المذكور مما لا يتصور وجوده وأنه قبيح عقلاً فيمتنع صدروه عن الحكيم تعالى. والجواب أنه لا يجب الإهمال لانا بيّنا فيما سبق من إنه إذا أدعى الرسالة واقترن بدعواه المعجزة الخارقة للعادات وجب المتابعة بلا مهلة لحصول العلم العادي عند ظهور المعجزة بصدق الرسول فافهم.
الرابع أن البعثة لا يخلو عن التكليف لأنه فائدتها والتكليف ممتنع بوجوه الأول انه يثبت الجبر لما أن فعل العبد واقع بقدرة الله تعالى ولا تأثير لقدرة العبد عندكم والتكليف بفعل الغير تكليف مما لا يطاق والجواب أن قدرة العبد وأن كان غير مؤثرة إلاّ أن لها تعلقاً بالفعل يسمى كسباً وباعتباره جاز التكليف به فلا يكون تكليفاً بما لا يطاق الثاني أن التكليف إضرارٌ بالعبد لما يلزم من ضر التعب بالفعل أو العقاب بالترك والإضرار قبيح والله تعالى منزه عنه والجواب ما في التكليف من المصالح الدنيوية والأخروية يربى كثيراً على المضرة التي هي فيها وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل مما لا يجوز الثالث أن ما في التكليف من التعب إمالا لغرض وهو عبث قبيح أو لغرض يعود إلى الله وهو تعالى منزهُ عن الأغراض كلها أو إلى العبد وهو أما إضرار وهو منتف بالإجماع أو نفع وتكليف جلب النفع والتعذيب بعدمه بخلاف المعقول لأنه بمنزلة أن يقال له حصّل المنفعة لنفسك وإلاّ عذبتك أبداً الآباد والجواب أنه فرع حكم العقل بالحسن والقبح ووجوب الغرض في أفعاله تعالى وقد أبطلنا كل واحد منهما في موضعه وأيضاً أن التكليف بغرض يعود إلى العبد وهو المنافع الدنيوية الأخروية التي يربى على مضرة التعب بمشاق الأفعال وأما عقابه أبداً فليس لأنه لم يحصل المنفعة بل لأنه لم يمتثل أمر مولاه وسيده وفي ذلك إهانة له أقول والله سبحانه اعلم للمعترض أن يقول لم كلف الله سبحانه به مع علمه بأنه لا يمتثل ولا يستجلب به فائدة لنفسه فهل هذا إلاّ إضرار له وهو قبيح ويمكن الجواب عنه بأن التكليف وأن كان بالنسبة إليه إضرار إلاّ أنه قد مرّ أنّ الضرر القليل لأجل الخير الكثير مما يجوز عقلاً فلا يكون قبيحاً قالت المعتزلة أن في تكليف الكافر فائدة أيضاً وهي التعريض للثواب فإن الثواب فائدة امتثال المكلف للمكلف به لا فائدة التكليف وقريب من هذا ما أورد وأمثالاً وهو كمن دعا غيره إلى طعامه وهو يعلم أن لا يجيبه إلاّ أن استعمل معه نوعاً من التأدب والتلطف وإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقصاً لغرضه الأولى والأنفع في هذا المقام أن يذكر ما قاله حكماء الإسلام من أن التكليف حسن بيان ذلك أن الله تعالى خلق الإنسان بحيث لا يستقل وحده بأمور معاشه لاحتياجه إلى غذاء ولباس ومسكن وسلاح وغير ذلك من الأمور التي كلها صناعي لا يقدر عليها صانع واحد مدة حياته وإنما يتيسر لجماعة يتعاضدون ويتشاركون في تحصيلها بأن يعمل كل لصاحبه بازاء ما يعمل له الأخر مثلاً يخيط هذا لذلك ويحصل ذلك الإبرة له هذا وعلى هذا قياس سائر الأمور فيتم أمر معاشه باجتماع من بني نوعه ولهذا قيل الإنسان مدني بالطبع فأن التمدن باصطلاحهم عبارة عن هذا الاجتماع ولا ينتظم إلاّ إذا كان بينهم معاملة وعدل لأن كل واحد يشتهى ما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه فيه وذلك يدعوه إلى الجود على الغير فيقع من ذلك الجرح فيختل أمر الاجتماع ونظامه للمعاملة وللعدل جزئيات غير محصورة لا ينضبط إلاّ بوضع قوانين هي السنة والشرع فلابد من شارع ثم أنهم لو تنازعوا في وضع السنة والوضع والشرع لوقع الهرج فينبغي أن يمتاز الشارع منهم باستحقاق الطاعة لينقاد العاقون له في قبول السنة والشرع منه وهذا الاستحقاق إنما يتصور باختصاصه بآيات تدل على أنه من عند الله تعالى وتلك هي المعجزات ثم أن الجمهور من الناس يستحقرون أحكام الشرع إذا استولى عليهم الشوق إلى مشتهياتهم فيقدمون على المعصية ومخالفة الشرع فإذا كان للمطيع ثواب وللعاصي عقاب فحملهم الخوف والرجاء على الطاعة وترك المعصية كان انتظام الشريعة أقوى مما إذا لم يكن كذلك فوجب عليهم معرفة الشارع والمجازي ولابد من سبب حائط بتلك المعرفة فلذلك شرعت العبادات المذكورة لصاحب الشرع والمجازي وكررت عليهم حتى استحكمت التذكر بالتكرير فإذاً ينبغي أن يكون الشارع داعياً إلى التصديق بوجود خالق عليم قدير وإلى الإيمان بشارع مرسل إليهم من عنده صادق وإلى الاعتراف بوعد ووعيد وثواب وعقاب اخرويين وإلى القيام بعبادات يذكر فيها الخالق بنعوت جلاله وإلى الانقياد بسنته التي يحتاج إليها الناس في معاملاتهم حتى يستمر بذلك الدعوة العدل المقيم لنظام أمور النوع وتلك السنة استعمالها نافع في أمور ثلثُه الأول رياضة القوى النفسانية بمنعها عن معانقة الشهوة والغضب المانعة عن توجه النفس الناطقة إلى جناب القدس الثاني إدامة النظر في الأمور العالية المقدسة عن العوارض المادية والكدورات الحسية المؤدية إلى ملاحظة الملكوت الثالث تذكر إنذارات الشارع ووعده للمحسن ووعيده للمسيء المستلزمة لإقامة العدل في الدنيا مع زيادة الأجر والثواب في الآخرة هذا كلامهم وقريب من هذا ما قالت المعتزلة من أن التكليف واجب عقلاً لأنه زاجر عن ارتكاب القبائح لأن الإنسان بمقتضى طبعه يميل إلى الشهوات والمستلذات فإذا علم أنها حرام إنزجر عنه والزجر عن القبائح واجب، الخامس التكليف إما مع وجود الفعل ولا فائدة فيه أصلاً لوجوبه وتعيين صدوره فيكون عبثاً قبيحاً من وجوه امتناع التكليف وكذا الحال إذا كان التكليف بعد الفعل مع إنه تكليف بتحصيل الحاصل وأما قبل وجود الفعل وانه تكليف ما لا يطاق لان الفعل قبل الفعل محال إذ لا يمكن وجود الشيء حال عدمه والجواب أن القدرة مع الفعل عندنا والتكليف به في هذه الحالة ليس تكليفاً بالمحال الذي هو تحصيل الحاصل وإنما يكون كذلك أن لو كان الفعل حاصلاً بتحصيل سابق على التحصيل الذي هو متلبس به وليس كذلك بل هو حاصل بذلك التحصيل على أنا نقول التكليف كالأحداث فيقال أحداثه إما حال وجوده فيكون تحصيلاً للحاصل وإما حال عدمه فيكون جمعاً بين النقيضين والأحداث مما لا شك فيه فما هو جوابكم في الأحداث فهو جوابنا في التكليف والمعتزلة أجابوا عن هذا الاعتراض بأن التكليف قبل الفعل ليس ذلك تكليفاً بما لا يطاق لأن التكليف في الحال إنما هو بالإيقاع في ثاني الحال لا بالإيقاع في الحال ليكون جمعا بين النقيضين وهو الوجود والعدم كما أن تكليف الكافر في الحال إنما هو بإيقاع الإيمان في ثاني الحال وفيه نظر لأنه إن استمر الكفر مثلا في ثاني الحال فلا قدرة فيه على الإيمان وإن بدّل بالإيمان لم يكن مكلفاً به لاستحالة التكليف لتحصيل الحاصل ويمكن الجواب عنه بأن التكليف لا يتعلق إلاّ بما هو مقدور واللازم منه أن يكون المكلف به مقدوراً في زمان وجوده وأما كون القدرة مجامعة للتكليف فلا مع أن التكليف بتحصيل الحاصل إنما يستحيل إذا كان بتحصيل آخر لا بذلك التحصيل كما مر فأن قلت أن استمرار الكفر في ثاني الحال لا ينفي قدرته على الإيمان فيه عندهم لأن الإيمان حال الكفر مقدور. بزعمهم لأن القدرة قبل الفعل ثابتة ليصح تكليف الكافر بالإيمان لما أن التكليف لغير المقدور غير واقع لقوله تعالى (لاَ يُكلِّفُ اللهُ نَفساً إِلاَّ وُسُعَهَا) وحينئذ يصح الجواب باختيار الشق الأول أيضاً كما ترى فأقول والله سبحانه اعلم مراد الناظر أنه على تقدير استمرار الكفر في ثاني الحال يكون الإيمان غير مقدور فيه أيضاً لأنه جمع بين الوجود والعدم فلا يكون لاعتذارهم بأن التكليف في الحال إنما هو بالإيقاع في ثاني الحال فائدة إصلاح فعلى هذا لا يمكن الجواب باختيار الشق الأول كما لا يخفى فافهم.
السادس لبعض الملاحدة أن التكليف بأفعال الشاقة البدنية يشغل الباطن عن التفكر في معرفة الله تعالى وما يجب له من الصفات وما يجوز ويمتنع من الأفعال ولا شك أن المصلحة المتوقعة من هذا التكليف وهو النظر فيما ذكر يربى على ما يتوقع مما كلف به فكان ممتنعاً عقلاً والجواب أن التفكير معرفة الله تعالى سبحانه هو المقصد الأقصى من التكليف وسائر التكاليف معينة عليه داعية إليه ووسيلة إلى صلاح المعاش المعين على صفاء الأوقات عن المشوشات التي يربى شغلها على شغل التكاليف الاعتراض السابع أن في العقل مندوحة وكفاية عن البعثة فلا فائدة فيها احتجوا بأن ما حكم العقل بحسنه يفعل وما حكم بقبحه يترك وما لم يحكم فيه بحسن ولا بقبح يفعل عند الحاجة إليه لان الحاجة حاضرة فيجب اعتبارها دفعاً لمضرة فواتها ولا يعارضها مجرد احتمال المضرة بتقدير قبحه ويترك عند عدمها اللاحتياط في دفع المضرة المتوهمة والجواب بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح أن الشرع المستفاد من البعثة فائدته تفصيل ما أعطاه العقل إجمالاً من مراتب الحسن والقبح والمنفعة والمضرة وبيان ما يقصر عنه العقل ابتداء فأن القائلين بحكم العقل لا ينكرون من الأفعال ما لا يحكم العقل فيه بشيء كوظائف العبادات وتعيين الحدود ومقاديرها وتعليم ما ينفع وما يضر من الأفعال والنبي الشارع كالطبيب الحاذق يعرف الأدوية وطبائعها وخواصها مما لو أمكن معرفتها للعامة بالتجربة ففي دهر طويل يحرمون فيه من فوائدها ويقعون في المهالك قبل استكمالها إذ ربما يستعملون من الأدوية في تلك المدة ما يكون مهلكاً ولا يعلمون ذلك فيهلكهم مع أن اشتغالهم بذلك يوجب أتعاب النفس وتعطل الصناعات الضرورية والشغل عن مصالح المعاش فإذا سلّموا من الطبيب خفت المؤنة وانتفعوا به وسلموا من تلك المضار فكما لا يقال في إمكان معرفة ما ذكر غنىً عن الطبيب فكذا لا يقال في إمكان معرفة التكاليف وأحوال الأفعال بتأمل العقل فيها غنى عن المبعوث كيف والنبي يعلم ما لا يعلم إلاّ من جهة الله سبحانه بخلاف الطبيب إذ يمكن التوصل إلى جميع ما يعلمه بمجرد الفكر والتجربة فإذا لم يكن هو مستغنى عنه كان النبي أولى بذلك.
الثامن المعجزة ممتنعة لأنها خرق للعادة وتجويزه سفسطة فلا يثبت النبوة والجواب أن خرق العادات ليس اعجب من أول خلق السماوات والأرض وما بينهما والجزم بعدم وقوع الخرق في بعض المواد لا ينافي في إمكانه في نفسه على أن خرق العادة من الأنبياء والأولياء عادة مستمرة يوجد في كل عصر وأوان فلا يمكن للعاقل المنصف إنكاره بل نقول أن المعجزة عندنا ما يقصد به تصديق مدعى الرسالة وأن لم يكن خارقاً للعادة أقول وفيه نظر لأنه يُنافي ما مرّ في شرائط المعجزة من أن خرق العادة شرط فيها ولأنه لولا ذاك لكانت المعجزة غير دالة على الصدق كالأمور المعتادة فافهم.
التاسع ظهور المعجزات لا يدل على الصدق لاحتمال كونه من فعله لا من فعل الله لكونه ساحراً وقد أجمعتم على حقيته وتأثيره في أمور غريبة أو بطلسم اختص هو بمعرفته والجواب أن التجويزات العقلية لا تنافي العلم العادي كما في المحسوسات فانا نجزم بأن حصول الجسم المعين لا يمتنع فرض عدمه بدله مع الجزم بحصوله جزماً مطابقاً للواقع ثابتاً لا يتطرق إليه شبهة للحس الشاهد به شهادة موثوقاً بها والعادة أحد طرق العلم كالحس فجاز أن يجزم كجزم الحس بشيء من جهة العادة مع إمكان نقيضه في نفسه وأيضاً قد بيّن في موضعه أن لا مؤثر في الوجود إلاّ الله فالمعجزة لا يكون إلاّ فِعلاً له لا للمدعى والسحر ونحوه إن لم يبلغ حد الإعجاز الذي هو كفلق البحر وأحياء الموتى وإبراء الأكمهَ والأبرصَ فظاهر أنه لا يلتبس السحر بالمعجزة فلا إشكال وان بلغ حدّ الإعجاز فإما أن يكون بدون دعوى النبوة والتحدي فظاهر أيضاً أنه لا التباس أو يكون مع ادعاءهما وحينئذ فلابد من أحد الأمرين أن لا يخلقه الله سبحانه على يده أو أن يقدر غيره على معارضته وإلاّ كان تصديقاً للكاذب وهو محال على الله تعالى لكونه كاذباً.
--------------------------------
المصدر : إثبات النبوة

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي