موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

كيفية الوحي كما جاء في القرآن الكريم
د. راجح الكردي



ورد لفظ الوحي في القرآن في ستة مواضع كلها إعلام من الله تعالى إلى الأنبياء، وهذا هو الذي نبحث في كيفيته. وقد عبر القرآن عن فعل الإيحاء بالإنزال وعن الموحى بالتنزيل، فقال سبحانه: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان)، (تنزيل من رب العالمين).
عبر عنه بالإلقاء فقال سبحانه: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا).
كما عبر عنه بالتكليم فقال سبحانه: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) وفي هذه الآية يبين الحق سبحانه أنه يختص بكلامه من شاء من عباده وجعل الوحي هنا نوعا من أنواع كلام الله للأنبياء، كما جعله قسيماً لنوعين آخرين من التكليم، وهما التكليم من وراء حجاب، والتكليم بواسطة ملك يرسله إليه فيبلغه ما يشاء عز وجل أن يبلغ. كما عبر القرآن عن الوحي قسيما للتكليم كما في قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى ابراهيم واسماعيل وأسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما).
ونفهم من ذلك كله أن الوحي قسم من أقسام التكليم العام والتكليم العام هو إيصال المعنى أي طريق. أما في الموضع الثاني فالوحي قسيم التكليم بالمعنى الخاص والتكليم بالمعنى الخاص هو القسم الثاني من التكليم العام في آية الشورى المشار إليه بقوله تعالى من وراء حجاب"، وهو نفسه المقصود من قوله تعالى "وكلم الله موسى تكليما"، ومن سائر الآيات في القرآن التي تشير إلى تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام. وعلى هذا فتكليم الله للأنبياء أعم من أن يكون بطريق الوحي، إذا كان المقصود بالوحي نوعا من الإعلام يجده النبي في نفسه بلا واسطة أو كان بمعنى أن يوحي الملك جبريل إلى النبي بما يشاء الله. والذي يهمنا ونحن نتحدث عن كيفية تكليم الله بالمعنى العام لنبيه أو المعنى العام للوحي على أن المقصود به طريق من طرق المعرفة مصدره هو الله سبحانه، ويتلقاه نبي يختاره عز وجل لتبليغ مراده للناس. إن هذه الكيفية لا نستطيع أن نحس بها أو أن ندلى فيها بعلم ذي قيمة لأنها ليست من طبيعة عالم الشهادة التي تخضع لقوانين المادة والعقل وإنما حقيقة هذا الاتصال ندين بها للنبي نفسه الذي يصف لنا هذه الكيفية، ولله سبحانه الذي اختار النبي كي يبلغ الناس رسالته ونجد في القرآن الكريم والسنة الشريفة كيفيات، لابد أن نقف عندها ولا نتجاوزها لأن في ذلك استقامة البحث وسلامته.
والقرآن أخبرنا بالكيفيات أو الطرق التالية للوحي:
1_ (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعل دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين، قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين).
2_ (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء).
3_ (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم).
4_ لقد سمى ما ينزل على النبي من معارف وعلوم يبلغها الله له عموماً وحياً فقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
قال الإمام أحمد شارحا قول الله عز وجل (إن هو إلا وحيٌ يوحى): "سمى الله القرآن وحيا".
نأخذ من الايات السابقة أن الله عز وجل ذكر ثلاث كيفيات للوحي أو لتكليمه أو إبلاغه للنبي ما يريد.
الكيفية الأولى: أن يكلمه "وحيا" الوحي: إعلام في خفاء وذلك بأن يعلمه الله سبحانه بأن يقذف في قلبه علما يجده النبي ويشعر بأن هذا العلم طرأ عنده، ولم يكن يملكه قبل ذلك، ولم يكن يتوقعه، ويكون في هذا العلم بينة للنبي بأنه على حق. وأنه يقول ما يقوله لا بصفته البشرية كسائر البشر وإنما بصفته متميزاً عنهم بهذا العلم، وهو المقصود بقوله تعالى "وحيا" في الآية الثالثة.
الكيفية الثانية: أن يكلمه من وراء حجاب مباشرة وبلا واسطة ويسمعه صوتا، أو كلاماً مفهوماً للنبي من غير أن يرى النبي ربه سبحانه. ويقيم الله سبحانه لنبيه الحجة أو المعجزة كي يصدق النبي بأنه نبي. أما كيفية هذا التكليم فلا داعي للخوض فيها لأنها غيب، وقد خاض فيها علماء الكلام والمفسرون، فالمعتزلة رأوا أن التكليم فعل من أفعال الله تعالى كالتعليم والكلام ما يكون به. وذهب الجمهور من أهل السنة والجماعة إلى أن كلام الله تعالى صفة من صفاته القديمة تتعلق بجميع ما في علمه ولا داعي لهذا الخوض. وتكليم الله لرسله وإعلامهم بما شاء من علمه وهذا الاعلام هو التكليم ولا يجوز لنا البحث في كيفية كلامه سبحانه القديم ولا عن كيفية تكليمه لرسله، إلا ما ورد فيه نص فنكتفي بالنص.
الكيفية الثالثة: أن يرسل الله سبحانه رسولا، أي ملكا إلى النبي فيبلغه ما يريد.
وصورة هذا الإنزال كما جاءت في القرآن الكريم لها وجهان:
الوجه الأول: أن يرسل الله سبحانه الملك على صورته الملائكية المرئية أو على هيئة رجل يراه النبي وقد يراه أو يحس من عند النبي. ونزول الملائكة ليس أمرا مستغربا، إذ هم مخلوقات لله تنفذ أمره وتوكل بأمور، وتنزل إلى الأرض كما قال سبحانه: (ونُزِّلَ الملائكة تنزيلا)، (وما نتنزل إلا بأمر ربك)، وقوله تعالى: (لقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى)، يدل على أن النبي(ص) رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج كما رآه على هيئته كذلك يوم أن جاءه في غار حراء ثم لما خرج سد عليه الأفق كما قال تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى).
والوجه الثاني: بأن ينزل عليه الملك فلا يراه وإنما يكون نزوله روحيا على قلب النبي. كما قال تعالى (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين)، (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين).
ونلاحظ أن هذه الكيفيات تعم جميع الأنبياء بعموم الآيات السابقة، وإن كان فيها تخصيص فليس في الاقتصار على كيفية واحدة، وإنما في التكثير والتأكيد على كيفية في حق نبي دون الكيفيات الأخرى ودون الأنبياء الآخرين، فأكثر ما اختص به موسى عليه السلام من الكيفيات بشكل مؤكد في القرآن التكليم من وراء حجاب، إذ أول ما كلفه ربه كان بهذه الكيفية وأكد الله سبحانه هذه الكيفية بأن أكد التكليم بقوله "وكلم الله موسى تكليما".
أما رسولنا (ص) فقد أكد القرآن في حقه بكثرة الكيفية الثالثة وهي بإنزال جبريل بالوحي إليه.
-----------------------------------
المصدر : نظرية المعرفة بين القرآن والسنة

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي