موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

أنواع المعرفة
د. عبد الهادي الفضلي



نستعرض أنواع الرئيسية التي تتحدث عن الكون والإنسان والحياة لنتعرف مجالاتها العامة، ومن ثم مناهجها العامة، وهي:
1_ الدين.
2_ الفلسفة.
3_ العلم.
4_ الفن.
الدين:
وأريد به _هنا _ الدين الإلهي المتمثل الآن في الشريعة الخاتمة (الإسلام).
وحقيقته منتزعة من واقعه، وهي أنه: عقيدة إلهية يقوم على أساس منها نظام كامل وشامل لجميع شؤون الحياة.
والدين بهذا التعريف يأتي أوسع مجالاً من الفلسفة والعلم. ومعارفه _وهي ما يعرف بالعلوم الشرعية أو العلوم الإسلامية _ تعرب عن هذا وتؤكده ففيه:
1_ ما يدخل في مجال العلم من الإشارة أو العرض لبعض النظريات والقوانين العلمية التي يمكن أن تبحث في ضوء المنهج التجريبي فتخضع للملاحظة أو التجربة، أمثال:
أـ حركة الفلك:
المشار إليها في مثل قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون).
حيث تفند هذه الآي الشريفة النظرية الفلكية القديمة القائلة بأن الفلك جرم شفاف ثبتت فيه الكواكب تثبيتاً فلا حركة لها ولا فيها، وإنما الحركة للفلك التي هي فيه فقط.
وتفيد أن لكل كوكب _مما ذكر _ حركة في نفسه وحركة في مداره الفلكي.
وهذا مما يدخل في مجال الملاحظة.
ب_ دور الرياح في توزيع سقوط المطر:
المشار إليه في قوله تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتُثيرُ سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كِسفاً فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون).
فقد ثبت _علمياً _ أن من العوامل التي تسيطر على توزيع سقوط المطر: مقدار الرياح المحمّلة بالرطوبة.
ج_ نزول الحديد:
المشار إليه في الآية الكريمة: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس).
فقد ثبت _علمياً _ أن الرجم وهو شهاب أو نيزك يبلغ سطح الأرض من غير أن يتبدد تبدداً كاملاً، إنه يتكون "من حديد حيناً ومن حجارة حيناً ومن مزيج من الحديد والحجارة في بعض الأحيان".
فهذه وأمثالها كثير في القرآن الكريم والحديث الشريف مما يدخل في مجال البحث العلمي وتفاد نتائجه من الملاحظة الإستقرائية.
2_ ما يدخل في مجال الفلسفة من الإلماح أو الإستعراض لبعض النظريات أو القوانين العقلية الفلسفية مما يمكن دخوله مجال البحث الفلسفي وفق المنهج العقلي، أمثال:
أ_ الإستدلال بمبدأ العليّة:
كما ورد في القرآن الكريم في قصة إبراهيم(ع)، قال تعالى: (وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جَنَّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أقل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).
حيث تفيد الآي الشريفة هذه أن النبي إبراهيم (ع) استدل من الأفول باعتباره أثراً حادثاً أن لهذه الكواكب مؤثراً محدثاً، وهو الله تعالى.
وكما ورد في (نهج البلاغة) _الخطبة 185 _ من قول الإمام أمير المؤمنين(ع): "الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ولا يحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده".
ب_ الإستدلال بدليل التمانع:
كما في قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا)...
وقوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض).
3_ ما هو من الغيبيات:
وهو كثير في القرآن والحديث والمنقول التاريخي أمثال:
أ_ الإيمان بوجود الجن.
ب_ الإيمان بوجود الملائكة.
ج_ الإيمان بيوم القيامة.
د_ الإيمان بالجنة.
ه‍_ الإيمان بالنار.
و_ الإيمان بالإسراء والمعراج.
ز_ الإيمان بعمر نوح وطوفانه.
ح_ الإيمان بانفلاق اليم لموسى.
ط_ الإيمان بخلق آدم من تراب.
ي_ الإيمان بولادة عيسى من غير أب.
وأمثال هذه مما لا مسرح للعقل فيها لأنه لا يستطيع أن يثبت _هنا _ أكثر من إمكانها وجواز وقوعها.
كما أنه لا مجال للملاحظة والتجربة فيها _كما هو واضح.
فلا محيص لإثباتها إذ من الرجوع إلى المنقولات والنصوص الدينية في ضوء معطيات المنهج النقلي.
وهذا الغيب أو الغيبيات مما انفرد به الدين.
وفي ضوء جميع ما تقدم تدخل أفكار الدين جميع مجالات البحث، فبعض في مجال الغيب، وهو مما استقل به، وبعض في مجال ما وراء الطبيعة، وبعض في مجال الطبيعة والإنسان.
ومن البيّن أن اختلاف المجال أو الموضوع يتطلب اختلاف المنهج الذي يتبع في دراسته وبحثه.
ومن هنا نقول:
_ يرجع في دراسة الأفكار الغيبية إلى المنهج النقلي.
_ وفي دراسة الأفكار الميتافيزيقية إلى المنهج العقلي.
_ وفي دراسة الأفكار التي ترتبط بالطبيعة والإنسان تكويناً ومجتمعاً إلى المنهج التجريبي.
_ وفي دراسة التشريعات الدينية _لأن مصدرها النصوص النقلية _ يرجع إلى المنهج النقلي.
وهكذا ...
الفلسفة:
ولأن مجال الفلسفة انحصر الآن في دراسة ما يعرف بـ (ما بعد الطبيعة Metaphysics)، وهو مما لا يمكن اخضاعه للملاحظة أو التجربة، لا بد من الإلتزام في بحث أفكاره بالمنهج العقلي.
ولكن، قد يقال: إن الفلسفة الحديثة بعد الإنتفاضة العلمية التي أحدثها رينيه ديكارت حيث "بدأ بتحطيم كل اتصالية بالفلسفة القديمة وعفى على كل ما فعل قبله في هذا العلم وشرع بإعادة تحديده بتمامه منذ البداية وكأن أحداً ما تفلسف قبله قط" _كما يقول شلينگ، و "وضع المبدأ الشهير: لا يجوز للإنسان أن يصدق سوى الأشياء التي يقرها العقل، وتؤكدها التجربة".
ومهد به لهيمنة المنهج التجريبي على أبحاث الفلسفة وانهزام المنهج العقلي أمامه، كيف نُلزم بالتزام المنهج العقلاني في الدرس الفلسفي؟!
نقول في الجواب عن هذا: إننا إذا أدركنا أن الثورة الثقافية في أوروبا التي أتت على الموروث الفلسفي فبددته، وربما حطمت الكثير منه إن لم تقل كله، لم تمس شيئاً منه مما هو موجود لدينا في مدونات الدراسات الإسلامية.
ذلك أن الفلسفة الإسلامية، وكذلك التراث الفلسفي الإغريقي الموجود عندنا، ومثلهما علم الكلام، لا تزال جميعها عقلانية الفكر وعقلانية المنهج، وتدرس وتبحث على هذا الأساس.
العلم:
وأعني بالعلم _هنا _ ما يعرف بـ (العلوم الطبيعية) كالفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والخ، و (العلوم الإنسانية) كالتربية وعلم الإجتماع وعلم النفس وعلم الإقتصاد وعلم الإدارة والخ.
ولأن مجالها الطبيعة والإنسان بدراسة ما فيهما من ظواهر، وهي مما يدخل في إطار الملاحظة أو التجربة يأتي استخدام المنهج التجريبي فيها أمراً طبيعياً.
الفن Art:
ومجاله التعبير عما يحدث في النفس، ولذا عرّفه (المعجم الفلسفي) بأنه "تعبير خارجي عما يحدث في النفس من بواعث وتأثرات بواسطة الخطوط أو الألوان أو الحركات أو الأصوات أو الألفاظ، ويشمل الفنون المختلفة كالنحت والتصوير".
ولأن مجاله التعبير عما يحدث في نفس الإنسان فهو بالعلوم الإنسانية ألصق، وإليها أقرب، فيأتي _لهذا _ منهجه المنهج التجريبي.
ملحوظة:
وبعد هذا المرور السريع في التعريف لمجالات المعرفة وما يلتقي وطبيعتها من منهج لا بد من الإشارة إلى التالي:
1_ أن المناهج المذكورة هي المناهج العامة، وعنها تنبثق المناهج الخاصة.
2_ إن هذه المناهج العامة قد تتداخل فيشترك أكثر من منهج في دراسة مسألةٍ ما إذا كانت المسألة ذات جوانب متعددة ومختلفة.
ولنأخذ مثالاً لهذا _بغية الإيضاح _ فكرة وجود عوالم أخرى غير عالمنا هذا.
فالبحث الفلسفي في ضوء المنهج العقلي يُسلمنا إلى النتيجة القائلة بإمكان وجود عوالم أخرى غير عالمنا هذا، لأن القول بالفكرة لا يلزم منه الوقوع في غائلة الدور أو التسلسل أو التناقض.
والبحث الديني يوصلنا إلى وقوع أو تحقق وجود عوالم أخرى غير عالمنا هذا، لما ورد في حديث جابر الجعفي عن الإمام محمد الباقر(ع): "لعلك ترى أن الله إنما خلق هذا العالم الواحد، وترى أن الله لم يخلق بشراً غيركم، بلى _والله _ لقد خلق الله ألفَ ألفِ عالم، وألفَ ألفِ آدم، أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين".
والبحث العلمي يدلنا على حقيقة تلكم العوالم، أو يكشف لنا على الأقل عن جانب من حقيقة تلكم العوالم، فقد عثرت الكشوف العلمية الحديثة على "هياكل بشرية مشابهة لهيكل هذا الإنسان الحالي، كانت تعيش على الأرض قبل ملايين السنين".
3_ إن أكثر الدراسات المعاصرة لموضوع مناهج البحث أكدت على المنهج التجريبي متجاهلة أو ناسية المنهج العقلي والمنهج النقلي وهما عماد دراساتنا للفكر الإسلامي، متأثرة عن قصد أو غير قصد بالدراسات الغربية في الموضوع.
-----------------------------------------
المصدر : أصول البحث

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي