موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

النفس والعقل
د.هاني عبد الرحمن مكروم



(وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
النفس هي خلاصة الإنسان، وهي ملك لخالقها، ومن صنعه، هو ـ سبحانه وتعالى ـ الأعلم بها، ولا يكلفها إلا وسعها، وهي ـ في نفس الوقت ـ الشغل الشاغل (الرئيسي) والقضية الأولى لكل عاقل ـ وما دون العاقل من العجماوات ـ وهذا الاهتمام نابع من الحب الفطري للنفس والذي بدونه لا يوجد للحياة معنى. إن اهتمام كل فرد بنفسه صفة تسيطر على غالبية البشر، فحب النفس حبلى، للحفاظ عليها لأن النفس هي أول محاور الرؤية ومركز التفكير ونقطة بداية الشعور، وضياع النفس يعني ضياع المعاني واضطراب الأشياء واختلال التوازن والموازين العقلية.
وحين نتأمل النفس ـ كما دعانا ربنا ـ سنجد أن جوهر النفس هو العقل، وحين يغيب العقل تنكمش النفس وتتجمد. ويتعذر الإحساس بأي شيء بدون العقل، والشعور بالسعادة أو بالشقاء يكون عن طريق العقل. والمعرفة مستحيلة بدون العقل، وأفضل وأنفع المعرفة ـ على الإطلاق ـ هي معرفة العقل لخالقه، ثم معرفة المرء نفسه، فلا يمكن معرفة النفس بدون معرفة خالقها ومراحل خلقها وغايتها.
ومن فضل الله أن ما يدور بداخل النفس (في عقلها) لا يمكن أن يطلع على حقيقته مخلوق، فلو إطلع الناس على ما يدور بعقلك لتغيرت نظرتهم إليك وصعب تعاملك معهم وتعاملهم معك.
والنفس أساساً روح (لا مادة)، والجسد بمثابة أداة (أو مركبة) مؤقتة والعقل هو القائد، ولهذه المركبة أصبح من الشائع والمألوف أن يركب لها قطع غيار بشرية كالكلي، وصناعية كالقلب الصناعي، وربما قريباً تستخدم القطع الحيوانية، وعمليات تركيب قطع الغيار هذه هي مجرد وسائل قدرها العليم الخبير لتستوفي كل نفس أجلها المحدد في كتاب الله يوم خلق الخلق. ونظراً لعلاقة النفس بالروح فيستحيل فهم ما يتيسر عن النفس بدون استحضار ما نزل من لدن العزيز الحكيم.
حب النفس:
حب النفس والاهتمام بها فطري، ومن الخطأ أن ينكر، لكن المنكر هو تجاوز الحد وقصر النظر، في ذلك وفي أي شيء آخر. وفي فهم العقلاء لا يوجد تعارض بين حب النفس وحب الآخر أو الغير، بل يوجد تكامل لازم، والحب الحقيقي الواعي أوسع من أن يحبس في إطار النفس الواحدة، فالنفس هي المركز ـ الخاص بالذات ـ الذي يحيط به عدد لا نهائي من الدوائر التي يمكن أن ينساب الحب فيها، وينمو الإلف حولها.
إن أخطر ما في الحب أنه قد ينسي الحقائق ويعمى (وكذلك الكره)، لأنه ـ في الغالب ـ نشاط عاطفي أكثر منه عقلي، أي أن العقل في حالة الحب (أو الكره) يتراجع خلف العاطفة، بسبب العمى والنسيان والتناسي. ولذلك فمخاطر الحب (أو الكره) قلما يفيد فيها العلاج العقلاني، بل ينطبق عليها قاعدة أن (الوقاية خير من العلاج). وليس المقصود الوقاية من الحب، ولكن المقصود هو التفكر في حقيقة الشيء قبل الغرق في حبه أو الاندفاع في كرهه، لأنه أثناء الغرق تقل احتمالات النجاة وتختل الطباع والموازين ويتعرض العقل لما يشبه الشلل.
وفي حالة خمول العقل فالنفس تمتص من محيطها الكثير في فترة النمو والنشأة، وبعد ذلك تبدأ في الطرح من نوعية قريبة الشبه بما امتصت.
نظرية الحب
الإنسان يحب نفسه وما يتعلق بها حباً يفوق إدراكه، فهذا الحب الفطري أعمق في اللاوعي (أو الباطن) من أي فلسفات، وهو في كل الأحوال فوق كل الخيارات. والحب ينبع من النفس ويفيض منها على الآخرين، ولا يوجد فيضان لا يغمر المنبع أولاً. وقد يزعم الانسان ـ أو يحسب ـ أن نفسه قد سمت وخف حبه لها ولكن حين يأتي المحك العملي ويمس شخصه أحد بما يخدش اعتزازه بنفسه، أو يجد من يعمل ضد مصلحته ـ التي يراها هو ـ عندئذ ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى! فيشعر بألم معنوي، وقليل من يستطيع السيطرة على الموقف وكتم غيظه وحبس غضبه في أعماقه، وأقل منه من يتسامح من أجل غاية أسمى يرجوها ـ لنفسه أيضاً ـ عند الله. وليتأمل كل منا شعوره حتى في حال الثناء، أي حين يمدحك زميل، فيشعر الانسان بالسرور حال المدح، وعندما تخف درجة المدح وتأتي عبارة: (ولكن هناك ملاحظة بسيطة أرجو لفت إنتباهك إليها)، عندئذ يبدأ الحال ـ عند معظمنا ـ في التغير مع لفظ (ولكن)، وقبل ذكر الملاحظة، حتى ولو كانت الملاحظة نصيحة مخلصة! فحب النفس زرعه الله فيها كدافع ذاتي للحفاظ عليها وعلى مصالحها، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم بخلقه، وهو أحكم الحاكمين.
الحب فضيلة ومعنى سام، ويكفيه علواً أنه فعل منسوب للعلي الأعلى ـ جل شأنه وتباركت أسماؤه ـ فكل ما ينسب لله ـ عز وجل ـ يفيض كمالاً وسمواً. وحب النفس هو البداية، فمن لا يحب نفسه لا يستطيع أن يحب غيره، لأن الممارسة الأولى للحب تبدأ مع النفس ولا غبار على ذلك في البداية، وكل عالم الإنسان يدور حول نفسه وإن امتدت أبعاده وتشعبت آلياته. وما يذم بالنسبة للحب عموماً ـ وحب النفس خصوصاً ـ هو الجهل البهيمي الذي يعميه. وما مشاكل الدنيا ـ من حولنا ـ إلا بسبب الجهل الذي لطخ المعاني السامية للحب. وكم من الحماقات والسيئات التي ترتكب باسم الحب، وكم من السموم والضلالات المدسوسة ـ التي تصل إلى درجة الكفر ـ يتم ترويجها بالمكر والتربح من ورائها في أسواق المحبة المدعاة وتحت غطائها وعلى حساب البسطاء المخدوعين.
الحب شعور يترجم في أقرب فرصة إلى عمل (قول أو فعل)، والفعل في هذا المجال أصدق من القول، وإذا لم يترجم الحب إلى عمل فهو كذب وخداع. وكثيراً ما يحدث خلط بين الحب وكل من العطف والإشفاق والإعجاب والهوى، ولكن يمكن بالعقل تمييز الحب عن غيره من المتشابهات، فحب الإنسان للشيء يجعله يشعر بشدة الارتباط به ورفض البديل وعدم القدرة على تجاوز ذلك الشيء.
النفوس العظيمة منابع للحب الفياض الذي يغمرها ويفيض على الأقرب فالأقرب حسب طاقة الحب في النفس. ورغم فيضان الحب من النفوس العظيمة إلا أنه ليس من الحكمة أن يوضع الحب في غير موضعه، وإلا فقد قيمته وضاع معناه أو انعكس، لذلك يحجب الحب عن النفوس الشريرة وذات الأفعال القبيحة وما شابه ذلك، زجراً لها لتنتهي. ومعروف أنه يوجد من يزعم أنه كبير القلب لدرجة أنه يحب كل الناس (العدو والحبيب)، وهذا الزعم المغلوط فيه خلط ولبس وبخس لقيمة الحب، وهو قول يسهل نقضه وربما التبس عليهم الحب بالإشفاق ـ فإن كان الحب للجميع فلمن يكون الكره! أم أنه يمكن معرفة معنى الحب بدون معرفة معنى الكره، أو البياض بدون السواد! وما تفسير الشعور الفاتر تجاه الكثير من الأشياء، أي حالة عدم الحب وعدم الكره؟
إن أرحم الراحمين أحكم الحاكمين وخالق كل شيء قد نفى حبه للمعتدين والكافرين والظالمين والمختالين والخوانين والمفسدين والمسرفين والخائنين والمستكبرين ومن على شاكلتهم. والرسل الكرام حين طلبوا الغفران ـ وهو خير عظيم للنفس ـ طلبوه لأنفسهم أولاً، ثم اتسعت الدائرة لتشمل أرحامهم، ثم بعد ذلك عامة المؤمنين. فهذا رسول الله نوح (ع) يدعو ربه، فيقول: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات) وما عدا ذلك من قومه دعا عليهم (... ولا تزد الظالمين إلا تبارا).
وقصر الحب على النفس (فقط) يعميها ويهلكها هي ومن حولها، ويفقد الحب معناه ويعكس جدواه، ومثل ركاب السفينة الوارد في الحديث الشريف نموذج يوضح مدى خطورة هذا الحب الجاهلي، فلو تركوا يخرقوا في أسفل السفينة خرقاً، ليختصروا طريق وصولهم للماء لهلك الجميع.
وخير الحب ما كان على هدى وعلم وفيه بعد نظر، والعاقل من يحاول تعظيم حبه لسمو نفسه، لتعظم ثم تفيض بحبها وسموها على الآخرين. وغاية النفس العاقلة هي نوال رضا الله في جنات النعيم، تلك هي الغاية التي ليس بعدها غاية، وهذا هو الفوز المبين للنفوس التي تستحقه. أما الذي هانت عليه نفسه فباعها للشيطان وهو لا يدري، فأمه هاوية، وما أدراك ماهيه، نار حامية.
والحب العظيم من جانب رسول الله (ص) للنفس المؤمنة يجعلها بالتالي تحب رسول الله أكثر من ذاتها: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم). وولاية النبي للمؤمنين تشمل مشاعرهم، فتكون نفسه الشريفة (ص) أحب إليهم من أنفسهم. وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه عن أنس (رض): (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
حب النفس العاقلة لله ثم لرسوله يأتي قبل وفوق حبها لنفسها ولكل ما يتعلق بها، من أهل وتجارة ومساكن، لأن نتيجة هذا الحب الطيب تعود على النفس بأضعاف مضاعفة. والآية الكريمة تحذر من الجهل بهذه الحقيقة: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين). وقد ورد في سيرة خاتم المرسلين (ص) أنه ما كان يغضب لنفسه قط، وما كان يغضب إلا غيرة على حدود الله، ومعنى ذلك أنه (ص) يحب الله أكثر من نفسه. وحب النفس المطمئنة لربها هو نوع متميز من الحنين الجارف للفرع نحو الأصل، فأصل النفس نفخة من روح الله.
الألفة مع الخصوصيات:
معايشة الإنسان للشيء تزيد من فهمه وتصوره له وعلمه به، وذلك رغم أن حقيقة الشيء لم تتغير كثيراً، لكن المشاعر نحوه هو التي تتغير وفق ما يترجمه العقل ويتصوره. فالحقائق الكبرى ـ التي خلقها الله ـ تتميز بالثبات والحياد (... لا تبديل لخلق الله...) ولكن مدى استيعاب الإنسان لها هو الذي يتفاوت حسب التصورات. فمعايشة صاحب العاطفة والعقل ـ إنساناً كان أو حيواناً ـ للشيء تطبع في عقله تأثيرات وأوهام يصعب تغييرها أو محوها بسرعة.
وقد يتولد في النفس عكس ذلك الشعور ـ لأسباب واضحة أو خفية ـ فيشعر الإنسان بالضيق والكراهية تجاه شيء ما رغم المعايشة الطويلة له، ويود لو يستبدل بذلك الشيء شيئاً آخر حتى ولو كان أدنى منه حقيقة، وهنا يكون العجب لتغييب العقل وارتكاب الحماقات (... أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير...). وتلك هي الحالات الشاذة التي تحتاج إلى مزيد من التحليل والدراسة ومراجعة سلامة التفكير، ومن المفروض أن تكون هذه الحالات قليلة ولكنها للأسف كثيرة! فمن المعقول والمقبول أن يكره الحيوان (أو الإنسان) الشيء الذي يسبب له ذكريات أليمة، ولكن ليس من المقبول ـ عقلاً ـ أن يستبدله بما هو أدنى منه إلا إذا اختلت المقاييس، بسبب ضعف العقل والرؤية وسيطرة عواطف الضيق والغضب.
وما العادات والتقاليد إلا ألفة وإيلاف لتصرفات وسلوكيات موروثة ومدعمة بالممارسة الشخصية. فمن تعود على لبس الجلباب يجد حرجاً في لبس (البنطلون)، ومن ألف لبس القبعة يأنف من لبس العمامة، ودور العقل العادي محدود في مواجهة الإلف والعادة، ومع نمو العقل تنمو القدرة على مواجهة وتغيير العادات.
وتفسير ارتباط الحيوان بمألوفاته، أن الحيوان يتولد بينه وبين الأشياء التي يتعامل معها نوع من الفهم أو التفاهم والتواصل، وكلما كانت محصلة هذا التفاهم لصالح الحيوان يشعر ذلك الحيوان بفائدة الشيء والرغبة في مداومة الصلة به وتتولد وتنمو لديه المشاعر الإيجابية تجاهه، حتى ولو كان ذلك الشيء فظاً. فالسكين رغم بشاعة منظرها إلا أن الإنسان ـ العاقل ـ يشتريها ويقتنيها ويحتفظ بها لتلبية احتياجات مادية معينة. أما حينما يشعر الإنسان بأن محصلة التعامل مع الشيء ليست (أو لم تعد) في صالحه أو حين تظهر له بدائل أكثر فائدة، فسوف يشعر بالرغبة في تحجيم الصلة بينه وبين ذلك الشيء، وتتولد تجاهه المشاعر السلبية التي قد تؤدى إلى قطع الصلة مع ذلك الشيء أو حتى محاربة وجوده، فيصبح حبيب الأمس هو عدو اليوم! ومثل هذه المشاعر والتصرفات الحيوانية لا تعرف القيم الأخلاقية ولا المعاني السامية التي ينشدها العقل السليم.
وما دام أساس العلاقة الحاكمة بين الإنسان (أو الحيوان) والأشياء هو الاحتياج بأنواعه، ومدى سهولة التفاهم على المنفعة أو الفائدة، فلو رتبنا الأشياء التي نتعامل معها حسب أهميتها ومدى الاحتياج إليها، فبلا شك سيأتي العقل في المقدمة بلا منازع. إذن أشد الأشياء التي يألفها الحيوان هي عقله، لأنه هو الوسيلة الحاكمة في التفاهم مع بقية الأشياء الأخرى. وقد قالوا في الأمثال: (إن الله ـ عز وجل ـ حين قسم الأرزاق لم يرض أحد برزقه، وحين قسم العقول رضى كل بعقله).
علاقات النفس:
يمكن القول بأن النفس تشمل العقل كما تشمل الروح وهما غير ماديين ويعلق بهما الجسد وهو بناية مادية، أي أن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة، كما هو ممثل وظيفياً في الشكل. والعقل قاسم مشترك بين الطبيعتين ويمكن أن تفتقد أجزاء من الجسم أو تفصل، كالأطراف وتظل النفس حاضرة وفي حالة حياة، أما الأجزاء التي فصلت (عن الروح) وتحللت رغم استمرار بقية الجسم حياً فتدل على أن المكونات المادية للإنسان مجرد شيء طارئ على النفس لتأدية وظائف وقتية، ولا يرتبط بالنفس من الجسد إلا الأجزاء الحية إلى أن تموت أو تفصل.
فتبعية مكونات الجسد للنفس (وعقلها) تبعية إدارية، بمعنى أنه حين تنقل كلية (مثلاً) من شخص حي إلى آخر حي فتنتقل تلقائياً تبعيتها كاملة، من نفس المنقول منه إلى نفس المنقول إليه، والنفسان كما هما تقريباً. وحين ينقل كبد إنسان ميت (مجهول) إلى آخر حي تظل نفس الحي كما هي ولا يبدو لها أي علاقة بنفس الميت المجهول! تلك مادة ترابية سبق أن دارت آلاف المرات في آلاف الأجساد، وتعاملت معها ملايين النفوس.
وهنا يمكن أن نعتبر شعور المعاناة النفسية في ظاهرة (الطرف الشبحي Phantom limb )، الذي يتخيل الإنسان فيها أن طرفه المبتور لا يزال موجوداً وأحياناً يشعر بالرغبة في (الهرش) فيه، هو مجرد ذكرى ما زالت آثارها موجودة في ذاكرة العقل، فيظل الإنسان يشعر بأنها أجزاء متتامة معا لجسم والذات.
شكل
وحين تغادر الروح كل الجسم بما فيه المخ يسقط المكون المادي المظلم الممثل بالتظليل في الشكل فيتبدل الحال وتشف النفس وتنتهي التبعية الدنيوية، أما الجسد فيتحلل ليدور في خلق جديد. وبهذا الانفصال يفقد العقل الكثير من وظائفه الإدارية التي كانت متعلقة بالجسد، وما يرتبط بالغرائز والشهوات والاختيار والإرادة والقيادة وإصدار الأوامر للجوارح وما شابه ذلك، ويبقى العقل كذاكرة عالقة بالروح رغم تلاشي المخ.
إن ما بعد الموت طور آخر من أطوار النفس البشرية ـ يتعذر تصوره ـ ولكنه يتسم بالشفافية وزيادة الوعي وحدة الشعور، والدليل على ذلك نجده في آيات كثيرة ومنها قوله سبحانه وتعالى: (... فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).
وحين يخاطبنا خالقنا من خلال صحف الهداية في هذه الدنيا نجد أنه ـ جل شأنه ـ يوجه الخطاب للنفوس من خلال العقول (الألباب)، لأن العقل له سيطرة على الجوارح حال الحياة. فالعقل هو الرقيب على النفس في الحياة الدنيا، والله ـ جل وعز ـ هو الرقيب على العقل، (.ز. إن الله كان عليكم رقيباً). أما على أعتاب الآخرة حيث اضمحلال الشق المادي من العقل، فيسلب من العقل تلك الإمكانية ليبقى مجرد ذاكرة شفافة فيتوجه الخطاب حينئذ للنفس المتمثلة في الروح وما علق بها من أعمال ـ لها أو عليها ـ وتكون المحاسبة للنفس حيث يتجمد دور العقل الذي كان قائداً للنشاط في الدنيا فيتحول عند الموت إلى مجرد مراقب مرافق للروح يستعرض الماضي ولا يملك إرادة العمل ولا حرية الاختيار التي كانت ممنوحة له من قبل.
ففي حالة الموت يتحول الجسد (بدون الروح) إلى جثة ـ شبه جماد ـ ثم يضمحل ويتلاشى شيئاً فشيئاً، ولا يتبقى منه إلا (الجسد الشبحي Phantom body). وعند البعث يعود لكل نفس (روح) جسدها، بـ (كن) وبالتركيب المقدر في علم العليم الخبير، ليشارك النفس ـ كشاهد حي ـ في استقبال الجزاء العيني، ويتبين للعقل عندئذ أن الحياة لم تكن إلا دورة فارغة إلا من العمل وما يعنيه ذلك العمل. أما الجسد المادي وحده أو بعض أجزائه فلا يمكن أن يمثل كل النفس، لكن الروح يتيسر لها ذلك ـ ولا تتجزأ كالجسد ـ نظراً لصلتها الأصلية بالذات القديرة.
في الدنيا يبدو أن العقل ـ بشبكته العصبية ـ هو مركز التحكم في السلوكيات، التلقائية المبرمح منها والمعتمد، وينازعه الجسد ـ بمادته الثقيلة وشهواته ـ في ذلك. فكثيراً ما تتغلب رغبات الجسد (الشهوات) على منطق العقل (الضعيف)، والقليل من العقول هو الذي يقاوم ويصمد. ولذلك نجد بعض العباد والرهبان يقسون بعقولهم على أجسادهم بأنواع من الحرمان، لتقليص حجم وقدرة الجسد، وبالتالي تحجيم رغباته فتتسع المساحة المتاحة لحرية الحركة والنشاط القيادي للعقل وقدراته التي كانت كامنة أو مغلوبة، مما يمكن من تحليق الروح بالنفس المتخففة الزاهدة في حطام الدنيا. وجدير بالذكر أن المغالاة في ذلك يتعارض مع الطبيعة البشرية (المزدوجة) ويضر بالسلامة النفسية والعقلية ويمكن أن يصل لدرجة الهلوسة أو الانقلاب العكسي الخفي. وما انتكاسات الرهبنة وما صاحبها من انحرافات وشذوذ إلا بسبب محاولة الخروج من إطار الطبيعة البشرية!
حياد الروح والجسد:
في محاولة أخرى لتصور النفس البشرية، قد نشبه الجسد بمركبة للنفس، والروح هي سر الطاقة المحركة للمركبة، والعقل هو القائد الذي حمله الله المسؤؤولية عن كل النفس حال اليقظة. والجسم من خلق الله وصلته به خلقية، ولكن الروح من أمره ـ جل شأنه ـ وصلتها به نفخية. وبسبب ما تبين من التحليل السابق، ننكر وجود جسد شرير أو روح شريرة، بل هما محايدان ويوجد على ذلك دليلان:
الدليل الأول: الانتساب المباشر لكل من الجسد والروح لذات الله ـ تبارك وتعالى ـ أولاً بالخلق، وثانياً بالنفخ من روحه، وهو سبحانه وتعالى خير، (.ز. فالله خير حافاً وهو أرحم الراحمين). فهو سبحانه وتعالى حكم عدل بين خلقه جميعاً، ولا ينفعه الخير ول يضره الشر. وما نراه أو نتأذى به من شرور في هذه الدنيا ناتج من سوء تصرف الخلق وشرورهم: (من شر ما خلق) وفضله ـ جل شأنه ـ فوق ذلك، فهو يتولى تحويل الشر إلى خير لصالح المجني عليه، إن آجلاً أو عاجلاً حسب حكمته وعلمه.
والدليل الثاني: أن الجسد أثناء غيبة العقل ـ في حالات التخدير أو النوم أو الغيبوبة ـ أو حال الموت يكون الجسد حيادياً لا يفعل شراً ولا خيراً، وكذلك المجنون لا تحتسب أخطاؤه شروراً ولا ما قد يصيب فيه حسنات.
يستخلص من ذلك أن الجسم المادي (بشهواته) والعقل شركاء في ذات حيز الكيان البشري المحدود، وطغيان (أو خلل أحدهما) ينعكس على الآخر ويخل بتوازن النفس. فمن الناس (الأنفس) من يميل نحو الشهوات بإفراط وبلا ضوابط، ويتبع خطوات الشيطان الذي يخرب له عقله ويضله فتصبح النفس بالتالي شيطانية متوحشة أو مخمورة. ومنهم من يغالي في ظلم الجسد وحرمانه من احتياجاته الفطرية ويستنزف طاقته ـ بتلبيس الشيطان ـ يختل وعاء العقل (المخ) ويصل لحالات من الهلوسة ورؤية الأوهام، وتلك حالات موجودة عند كل الشعوب وفي كثير من المعتقدات وعلى مر العصور بمسميات متباينة. وكلا الحالين بعيد عن الصواب، وفيه ظلم للنفس نتيجة تضييع العقل، بسبب متابعة الشيطان والشهوات في غياب الهدى.
ومعروف أنه توجد نفوس خيرة سارت على الطريق القويم، ونفوس دن ذلك ضلت الطريق. وكل نفس مجبولة على حب الخير ولكن منشأ الاختلاف يتوقف على مدى فهم العقل للخير وكيفية الوصول إليه، ومن هنا نؤكد أهمية تبصير العقل بمعالم الهدى، من أجل سعادة كل النفس في الحياة الدنيا وفي القبر وفي دار القرار.
فناء الجسد فقط:
للمخلوق دور سببي في الخير وفي الشر وللعقل فيهما تدبير، ويعلق العمل بالنفس ـ المرتبطة بالروح ـ فتوجد نفس طيبة خيرة ونفس خبيثة وخليط بين ذلك كثير، حسب نوعية العمل. وكما ذكرنا من قبل يجب التمييز بين النفس والروح، فالروح تغادر الجسد لكنها لا تفارق النفس أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وموت النفس يعني مغادرة الروح للجسد المادي. ولذلك يمكن القول بأن الفناء مكتوب على الجسد فقط لا على النفس ولا على الروح، والفناء المؤكد المذكور في الآية 26 من سورة الرحمن: (كل من عليها فان)، يمكن أن يفهم على أنه خاص (بالمادة)، أي بالجسد الموجود على الأرض (كمادة)، ويفهم ذلك من لفظ (عليها).
الانهزام النفسي:
لقد أخبرنا العليم الخبير بأرسخ الحقائق، ومنها حقيقة ضعف الإنسان، (... وخلق الإنسان ضعيفاً)، هذا علم وحكم من خلق ـ سبحانه وتعالى ـ أي أنه حكم حقيقي نهائي لا يقبل المراجعة، ولا يحتاج إلى تعديل ولا تأويل. وللعاقل أن يتأمل حال أعتى الطغاة لو احبتس بوله أو أصابه (فيروس)! وفوق هذا الضعف المادي فنحسب أن الآية الكريمة تشير أساساً إلى الضعف النفسي، وهذا الضعف الحقيقي لا يمكن التغلب عليه بدون اللجوء إلى القوي العزيز فهو مصدر القوة، وهو مسبب الأسباب ولا يعجزه شيء.
ويتولد الضعف النفسي حين يشعر الإنسان بتخلي الأسباب عنه وأنها أصبحت في صالح خصمه، حقيقة أو وهماً. ولذلك ففي الصراع يحاول كل طرف أن يوهم الخصم بأن الأسباب أصبحت في صالحه هو وأنه يملك أسباب القوة، وإن نجح في ذلك الإيهام يكسب المعركة بقليل أو بدون قتال وتلك هي الحرب النفسية المعروفة. وتلك في الأساس مسألة عقلية، وأولو العزم هم في الأساس أصحاب عقول جبارة، أنارها الإيمان، فاتصلت بمصدر القوة والعزة، ولا تعرف اليأس لأنها تثق في خالقها، وتعرف أن إثم اليأس يصل لدرجة الكفر، والعياذ بالله.
واسهل طريق يسلكه أعداؤنا هو احتلال عقولنا، التي هي مراكز التحكم والسيطرة المباشرة فينا، وبعد ذلك يفعلون بنا ما يشاؤون، وهذا حادث الآن بصور شتى وعلى كل المستويات، نردد ما يريد العدو أن يقوله، ونفعل ما يريد ونظلم أنفسنا بأيدينا وجوارحنا، لأن عقولنا محكومة بعقول ومعايير غيرنا والإرادة مشلولة، لأن التناقضات المصنوعة في عقولنا لا تسمح بسلامة الرؤية، لذلك لا نستطيع التحرك الذاتي بسهولة، ومعظم حركتنا ليست إلا ردود أفعال أو انتفاضات مقهورة في الظلمات. فانهزام الإنسان وقيادته يبدآن من الداخل (من العقل) وبعد ذلك تستسلم بقية الجوارح فتصبح كأعضاء الدمى يفعل بها الأفاعيل.
ترقية العقل والنفس:
العقل المتجرد اليقظ يتوجه إلى أعلى، نحو السماء والنور، ولا يجد مبرراً عقلياً لمعظم الصراعات التي تموج بها الحياة السوقية، أما الشهوات فتتسفل لتغوص باندفاع في قذارات البهيمية والصراعات وسط الظلمات الحالكة المهلكة، بدون التفكير في العواقب، بسبب قصر النظر وعمى البصيرة.
وبما أن الحاجة هي محرك الاختراعات ومولدة الإبداعات فهي التي تحث العقل على النشاط، لذلك تجد الأزمات غالباً ما يعقبها صحوة وبروز للهمم التي كانت كامنة، ويلاحظ أن كثيراً من المخترعات ظهرت في سنوات الحروب. وعلى الجانب المقابل تجد الطمأنينة الزائفة والعواطف الهائمة والبطون المتخمة تسبب كسل العقول المترفة، كل ذلك أو بعضه يحدث ركوداً في التفكير يعقبه درجة من درجات الضياع. فمن يشعر بالراحة ويمارس مختلف أنواع الترف والملذات ويركن إليها، لماذا يجهد عقله في التفكير! لكن العاقل يدرك خطورة كسل العقل والركون للترف لأنه لا يمكن أن يدوم، والاطمئنان للدنيا انخداع، لذلك فالحذر واجب مدى الحياة، لأن توالي الليل والنهار لا يترك حالاً على حاله.
وأحياناً ينعم الله على أحبابه بالشدائد وطول المعاناة، لصقل عقولهم وتجلية بصائرهم، وكل العظماء حتى درجة الأنبياء قد مروا بأنواع من المعاناة قدرها الله، لترقية نفوسهم وإنضاج فكرهم وتعظيم أخلاقهم وإسباق نعمة العقل عليهم. فلا نعرف عظيماً عاش حياته منعماً مترفاً، لأن الترف المادي يعين الشهوات على العقل ويعمي البصيرة. وكما ن تحقيق البطولات الرياضية لا يمكن أن يتم بدون معاناة ـ حتى درجة الألم ـ في التمرينات، فالقدرات العقلية أيضاً لا تتحقق بدون معاناة ذهنية وفكرية لدرجة الألم، هذا شرط.
سنن وحكم وحكمة: إن العظمة ـ وكل صفات الكمال والجمال ـ لا تصنع بالإرادة البشرية وحدها، ولكنها تصنع بعناية الله في نفوس من يختار من البشر، وهو الأعلم بخلقه. وقد نلمح من ذلك أن المعاناة ليست شراً، كما يرى قصار النظر، بل إن الإعجاز الإلهي يجعلها سبباً في صنع النفوس العظيمة. ونعبر من ذلك فنقول بأن معاناة شعب ما لأزمة شديدة تكون فرصة لاغتنام السنن الإلهية في تيسير أسباب صنع العظمة، ولا يتحقق ذلك بدون قيادة رشيدة حكيمة عادلة تقتل الفتن وتضرب بنفسها المثل الصادق في الترفع والزهد والبذل والعطاء فتنال رضى الله وتملك قلوب الناس، وتلك مسألة عقل سليم.
----------------------------------------
المصدر: العقل (تنظيمه وادارته)

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي