موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

عن بعض نزعات التجديد في الفكر الاسلامي الحديث
د. محمد أحمد عبد القادر



إن الضعف والتدهور اللذين لحقا بالفكر الاسلامي ليسا سوى مظهرين لضعف عام حل بالأمة بكامل مظاهرها.
لقد درجت بعض الكتب والدراسات على اعتبار الفكر الاسلامي مرحلة منقضية وفترة تاريخية سبقت وتوقفت بانتهاء عصر ابن رشد (ت 595ه‍) ومعنى ذلك _عند أصحاب هذا الاتجاه _ أن تاريخ الفكر الاسلامي ليس مستمرا وموصول الحلقات، وانما فقدت احدى حلقاته _ ربما الى مستقبل بعيد _فوقف عند مرحلة (التراث) أو (الذكرى). وأحسبني مختلفا جملة وتفصيلا مع ذلك الرأي مع الاخذ في الاعتبار بعض النقاط التالية:
1_ ان تلك النظرة أشاعها بعض المستشرقين الموتورين ضد الاسلام والفكر الاسلامي وتبناها _للأسف الشديد _ بعض الباحثين في مجال الفكر الاسلامي. ومؤدى تلك النظرة أن الاسلام برحابة قيمه ومبادئه قد جف معينه، وأن الفكر الاسلامي بتعدد رجالاته وتياراته قد نضب عطاؤه.
2_ انني أسلم _للحق وللامانة _ أن هناك فترة زمنية إعتراها الضعف بالنسبة لفكرنا الاسلامي، ولكن تلك الفترة الزمنية لم تطل وهي اذا طالت لم تدم. ومن جهة أخرى لا ينبغي أن نظلم الفكر الاسلامي في هذا الصدد، فهو وان أصابه ضعف فقد أصابه ما أصاب الامة في تاريخها السياسي والاجتماعي والثقافي والديني والاقتصادي. وغني عن البيان أن هذه الامة قد نكبت على مدى تاريخها الوسيط والحديث بما لم تنكب به أمة غيرها. ومع تسليمي بمدى عنف تلك الهجمات الشرسة التي هزت كيان الأمة عسكريا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وهي كلها غايات استعمارية اختلفت الوسائل المؤدية اليها، أقول بالرغم من اعترافي بكل هذا الا أن الاخطر منها جميعا في تصوري هو الرغبة الملحة لكافة القوى الاستعمارية في (تغييب وعي) الامة الاسلامية. ان أمة فاقدة الوعي لا تنهض بأسباب التقدم والحضارة ولا تقوى على مواجهة أخطائها وذلك قمة الخطر.
3_ اذا اعتبرنا أن الفكر الاسلامي _وخاصة فكر فلاسفة الاسلام _ قد تقلص دوره بانتهاء عهد ابن رشد وتحت وطأة الهجمات العنيفة التي وجهها الغزالي الى الفلسفة والفلاسفة من خلال كتابه (التهافت) الا أن ذلك لا يقوم دليلا على أن تلك الفترة الزمنية الطويلة قد خلت من محاولات فكرية جادة في محيط الفكر الاسلامي، صحيح ان تلك الفترة افتقدت قيام المذهب الفلسفي المتكامل، ولكن من الظلم البين قصر ذلك فقد على الفكر الاسلامي.
ان التراث هو كل ما وصل الينا من الماضي (ماديا كان أو معنويا) داخل الحضارة السائدة، فهو اذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات. ونلاحظ أن (التراث) سابق و (تجديد التراث) لاحق، التراث هو نقطة البداية كمسئولية ثقافية وقومية، والتجديد هو اعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، فالقديم اذن يسبق الجديد والأصالة أساس المعاصرة.
والتراث والتجديد يعبران عن موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في نفس الوقت وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر، اسقاطا من الماضي أو رؤية للحاضر. فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث لما كان التراث القديم مكونا رئيسيا في عقليتنا المعاصرة ومن ثم يسهل علينا رؤية الحاضر في الماضي ورؤية الماضي في الحاضر. فالتراث والتجديد يؤسسان معا علما جديدا هو وصف للحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف للماضي على أنه حاضر معاش. ولما كان التراث يشير الى الماضي والتجديد يشير الى الحاضر فان قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان وربط الماضي بالحاضر وايجاد وحدة التاريخ.
ومدخلنا الى قضية التجديد التي نحن بصددها مؤشران، الاول منهما هو عبارة بليغة قالها الرائد الفكري والزعيم الروحي في الهند الحديثة وهو غاندي. يقول غاندي: "يجب أن أفتح نوافذ بيتي لكي تهب عليها رياح كل الثقافات، بشرط ألا تقتلعني من جذوري".
وتتطلب تلك المسألة قدرا وسطا من التأثر بحيث يسمح بحياة النضج والتقدم والازدهار وفيما عدا ذلك يكون الموت والضياع أما بالموت في صورة جمود وانغلاق حين نحرم انفسنا نسائم الاجواء الخارجية المحيطة بنا، واما بالضياع اذا ما جعلنا تلك النسائم تتحول الى ما يشبه الاعاصير التي تذيب شخصيتنا وتضيع هويتنا.
وأما المؤشر الثاني فهو ما ورد في الاساطير الهندية القديمة من أن رجلا توفى ولم يترك لابنائه الثلاثة من الميراث شيئا سوى "بطيخة" أما الابن الاكبر فقد عرض على أخويه الاحتفاظ بها كذكرى موروثة عن أب عزيز. وأما الابن الاصغر فقد عارض ذلك في حدة وانفعال اذ أن ذلك لن يجلب عليهم الا عفونة ورائحة كريهة قد تؤذيهم، لذا يجب التخلص منها. وأما الابن الأوسط فقد تمهل وكان آخرهم قولا، فقد عرض عليهما أن يشتروا جميعا أرضا خالية مجاورة فعجبا لرأيه وهم يناقشون أمر "البطيخة" ميراث الاب، فأجاب أن نأكل البطيخة ونلقي قشرها ونزرع بذورها في هذه الارض بعد شرائها فنخلد ذكرى أبينا وننتفع بما يعود بالخير على أنفسنا وأهلينا وجيراننا وبما هو باق بعدنا الى أولادنا وذريتنا.
ونلاحظ من خلال هذا المؤشر الثاني أن رأي الابن الاكبر _الاكثر التصاقا بالماضي _ يمثل طرفا، بينما يمثل رأي الابن الاصغر _المنفلت من اطار الماضي _ طرفا آخر، ويأتي رأي الابن الاوسط اكثر حكمة ورجحانا بما يمثله من انتماء الى الماضي والحاضر معا. تلك اذن مقدمة قصدنا منها أن تاريخ الأمم والحضارات ومحصلة تراث السلف لا يمكن أن ينطمس لمجرد أنه "ماض"، كذلك لا يمكن الاحتفاظ بكل ما في الماضي من سلبيات _اللهم إلا على سبيل أخذ العبرة_ فنكون كمن يحاول أن يسير الى الامام بجسمه بينما رأسه متجهة الى الوراء فلا يكاد يستطيع التحرك أو التقدم.
وربما كانت مشكلة القديم والجديد أو الموروث والمضاف تمثل أساسا من أسس الصراع الفكري في ثقافتنا المعاصرة. ونلاحظ كذلك أن معظم مثقفي هذا العصر ومفكريه قد انقسموا بازاء ذلك الى سلفيين ومستقبليين، ولكن هناك فريقا وسطا بين هؤلاء وأولئك.
وهناك عدة ملاحظات جديرة بالاهتمام:
1_ ان التجديد دعوة مستمرة للاصلاح وسعي دائم نحو الافضل، وهو سمة من سمات التواصل الحضاري بين الثقافات والأمم. واذا كان التجديد هو عنوان الاصلاح فان الحاجة اليه تكون أكثر الحاحا أبان الأزمات والنكسات في تاريخ الامم والحضارات.
2_ ان التجديد وان كان دعوة مفتوحة نحو التطوير والتغيير الا أنه لم يخل من قواعد منظمة وحدود تلتزم، فلا يعني التجديد طرحا لكل شيء في سبيل (المعاصرة). من هذا المنطلق يجب فهم أن التجديد _خاصة اذا ما تعلق بالدين _ لابد له من أسس تنتظمه، فاذا كان ثمة تجاوز فانه ينقلب الى (تبديد) وتضييع بدلا من الاصلاح ومن المعلوم أن في الاسلام أصولا وفروعا، أما الأصول المتضمنة لوحدانية الله تعالى والايمان بكتبه ورسله وملائكته واليوم الاخر فلا مجال للنقض أو التعديل فيها "اليوم أكملت لكم دينكم" ولا يندرج الاخلال بأصل منها تحت مفهوم التجديد. وأما الفروع فهي بدورها تنقسم الى عبادات ومعاملات، أما العبادات فهي أركان الدين ولا تجديد في الأركان. ولكن هل هذا يعني أن التجديد قاصر على أحكام المعاملات علما بأن بعضها _كأحكام المواريث _ قد حددها القرآن تحديدا حاسما لا مجال معه للتعديل فيها؟
الحقيقة ينبغي ملاحظة أن التجديد ينبثق من اعتبارات ثلاثة:
أـ تجدد المشكلات وتغير الظروف، من حيث أن الغاية من التشريع في الاسلام هي تحصيل الصالح _بالتزام _ وأن القاعدة المرعية هي: لا ضرر ولا ضرار في الاسلام. فأن كان الالتزام بالنص يؤدي الى ضياع المصلحة المقصودة منه انتفى العمل بالنص في هذه الحالة الطارئة.
ب_ يجب التمييز بين أحكام الاسلام وبين حال المسلمين وتصوراتهم ومعتقداتهم في أي عصر من العصور بعد عصر الرسول فهناك فارق بين الاسلام كدين ذي معتقدات روحية ومثل عليا أخلاقية وبين الواقع الفعلي لمعتقدات المسلمين وعاداتهم وسلوكهم. وأن هذا الفارق يتسع أحيانا حتى يشكل هوة سحيقة نتيجة لما ران على الفكر من بدع مع توالي العصور وامتزاج الثقافات وتلاقي الحضارات ومن ثم فانه كلما زادت الهوة اتساعا بين أصول الاسلام وأحكامه وبين تصورات المسلمين للعقيدة ازدادت الحاجة الى مصلح أو مجدد ينتشل الناس مما تردوا فيه ويقيمهم على المحجة البيضاء.
ج_ التوفيق بين الاسلام ومقتضيات الحضارة الحديثة.
------------------------
المصدر : الفكر الاسلامي بين الابتداع والابداع

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي