يعود تاريخ الخلاف بين السنة والشيعة إلى عدة مئات من السنين. وهو
ينقسم إلى قسمين:
أ ـ خلاف طائفي سياسي هز كيان الأمة وجعل أبناءها أشتاتاً وأمرها
متفرقاً.
وقد بدأ هذا الخلاف منذ مصرع الخليفة الثالث عثمان بن عفان
واستحكام الصراع بين علي ومعاوية حيث كان لكل منهما شيعته (يعني
حزبه وجماعته) وكان يقال إذ ذاك شيعة علي وشيعة معاوية. ولما استتب
الأمر لمعاوية بات لفظ الشيعة يطلق على جماعة علي وحده.
أقول منذ ذلك الحين أخذ الصراع يذر قرنه بين أنصار الخليفتين وكان
لايتعدى هذا الصراع نطاق تمسك الشيعة بأحقية علي بالخلافة وتمسك
الفريق الآخر بأحقية معاوية. وقد تطور هذا الصراع بمرور الزمن حتى
صارت شيعة علي تفسق من لا يقول بأفضلية الإمام على جميع الصحابة
بمن فيهم أبو بكر وعمر، وصار الفريق الآخر ينعت بالضلال كل من
ينادي بهذا التفضيل. أما الحكام والولاة ـ عبر كل العصور ـ فقد
كانوا يدعمون هذا الفريق لكونهم موالين ويتنكرون للشيعة على
اعتبارهم معارضين. وقد بلغ اضطهادهم للشيعة ذروته في أيام
السلجوقيين لدرجة حملت (طغرل بيك) أول ملوك هؤلاء على إصدار أمره
بحرق مكتبة شهيرة للشيعة في بغداد. وقد كانت هذه المكتبة تراثاً
جليلاً وكنزاً ثميناً حافلاً بما دبجته يراعات العلماء الأفذاذ من
أئمة الشيعة وعلمائهم في مختلف العلوم من دينية ودنيوية. وقد قيل
أن هذه (الخزانة) أي المكتبة لم تكن أقل شأناً في بغداد من بيت
الحكمة الذي أنشأه هارون الرشيد للغاية نفسها.
وهذه الخلاف الذي اشتد أواره بين الفريقين المتخاصمين تصدى له
الأئمة والمجتهدون والعلماء المخلصون وأخذوا يرسلون الصيحة تلو
الأخرى لتفادي تجدد الفتن بين أتباع المذهبين مؤثرين القول بصدد
اختلافهم في ما مضى بمقولة القرآن الكريم: (تلك أمة قد خلت لها ما
كسبت وعليها ما اكتسبت).
وكان طليعة من حارب هذه الحماقات وسعى في تخفيف حدة الخلاف بين
الفرقاء المتناحرين الإمام الصادق وعمه زيد بن علي من فقهاء
الشيعة، ومن فقهاء السنة: الأئمة الأربعة وغيرهم.
1 ـ الخلاف الطائفي السياسي: وإذا كان من المعلوم أن لفظ الطائفية
مشتق من الطائفة (بمعنى الفئة) فإني من جانبي أتجاوز هذا الاشتقاق
وأنسبها ـ نظراً لهول خطرها وفداحة ضررها ـ إلى (الطائف) الذي هو
(الشيطان) استناداً إلى قول الله تعالى في القرآن الكريم: (إن
الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
تذكروا ماذا يا قوم؟ تذكروا أن شيطان الجن أو شيطان الإنس والشيطان
الأخير هو الشيطان الخطير لكونه يزرع الأحقاد في صدورنا ويثير
النعرات بين أبناء أمتنا فيبعثر صفوفهم ويفرق كلمتهم ويشتت قواهم
ليقضي عليهم القضاء المبرم فتنجلي لهم بهذا التذكر الحقيقة فإذا هم
مبصرون، وإذا كيد الشيطان مردود في نحره.
من أجل هذاك ان التصدي للخلاف الطائفي السياسي ومحوه فرضاً لازماً
وواجباً محتوماً لكونه نزعة عنصرية تقوم على التفاخر والاستعلاء
بينما الاسلام ـ دين هذه المذاهب جميعها ـ يقوم على وحدة الشعور
ولا وحدة للشعور مع الطائفية، ذلك انه لا طائفية ي الدين ولا دين
مع الطائفية.
2 ـ الخلاف الفقهي المذهبي: وهذا النوع من الخلاف بين المذاهب
الاسلامية لابأس به لكونه دليل حيوية وعافية. فهو يقوم على مناقشة
مختلف وجهات النظر وتقليبها وتحليلها وتنقيحها ويفضي بالتالي إلى
دعم تراثنا الفقهي وتنميته ما دامت هذه المذاهب مستمدة ـ جميعها ـ
من أصل واحد وينبوع واحد إلا وهو كتاب الله وسنة رسوله، ولا تنكر
أصلاً من أصول الدين الثابتة بالضرورة.
فالمذاهب الفقهية هي ثمرات جهود علمائنا خلال فترات طويلة من الزمن
وهي تشتمل على مجموعة من المعلومات القيمة التي يجد فيها كل مسلم
ضالته، فله عند العمل بها أن يختار أيسرها عليه وأقربها إلى النص
وأكثرها ملاءمة لروح العصر. وقديماً قيل: (اختلاف الأئمة رحمة).
أما أسباب الاختلاف فهي:
1 ـ الرواية.
2 ـ اختلاف معاني الألفاظ.
3 ـ موافقة الدليل لأصل من الأصول المسلم بها عند أحدهم دون الآخر.
مثل قاعدة العام المخصوص والمفهوم.
4 ـ التعارض والترجيح.
5 ـ القياس.
6 ـ أدلة اختلفوا في صحة الاعتماد عليها كالاستحسان والاستصحاب
والمصالح المرسلة وقول الصحابي والبراءة الأصلية وما إلى ذلك من
الأسباب التي أفضت إلى اختلاف وجهات نظرهم. علماً بأن كل مجتهد
منهم كان يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي).
ولم يثبت عن واحد منهم ـ رضي الله عنهم ـ ان أوجب التقيد بمذهبه.
خصوصاً وإن الإمام الشافعي نفسه نهى عن تقليده وتقليد غيره (حسبما
ذكره صاحبه المزني في أول مختصره). وما أروع الانتقاد الذي ودهه
سلطان العلماء العز بن عبدالسلام حين قال: (لم يزل الناس يسألون من
اتفق من العلماء من غير تقيد بمذهب ولا انكار على أحد من السائلين
إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين فإن أحدهم يتبع
امامه كأنه نبي أرسل وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لايرضى به
أحد من ذوي الألباب).
وقال الشارح لمسلم الثبوت: (لم يوجب الله ولا رسوله على أحد من
الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة، فايجابه تشريع شرع جديد).
وقال الإمام أبو شامة: (ينبغي لمن اشتغل بالفقه أن لايقتصر على
مذهب إمام ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب
والسنة والمحكمة وذلك سهل عليه إذا حصل (وسائل الاجتهاد) وليجتنب
التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة فإنها للزمن مضيعة ولصفوه
مكدرة).
علماً بأن جميع العلماء المتحررين من أهل السنة وقفوا ضد دعوى (سد
باب الاجتهاد) فحاربوها ونادوا بالرجوع إلى الكتاب والسنة واعتماد
الأقوال المناسبة سواء صدرت عن الأئمة الأربعة أو غير الأربعة ممن
تحلوا بغزارة العلم وحسن الاطلاع وعمق الفكرة ولطيف الاستنباط من
أمثال: داود الظاهري والأوزاعي والشوكاني وابن تيمية وابن القيم
الذي أورد في الجزء الرابع من كتابه اعلام الموقعين: (إن الله يبعث
لهذه الأمة على راس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها).
وهذا ما يقول به الشيعة الإمامية الذين مضوا قدما في طريق الاجتهاد
ولم يأبهوا لدعوى سده. ومع اعترافهم بعلم الأئمة الأربعة وفضلهم،
وأمانتهم ونزاهتهم، وعدالتهم وجلال قدرهم، فإنهم يقولون: انّ
الاجتهاد ليس محصوراً بهم ولا قاصراً عليهم بل انه تقضت على ظهور
الاسلام ثلاثة قرون ـ وهي خير القرون ـ لم يكن الأشعري الذي يتبع
أهل السنة مذهبه في الأصول ولا واحد من الأئمة الأربعة الذين
يخضعون لأقوالهم في الفروع، لم يكن واحد منهم موجوداً وإنما كان
أهل تلك القرون الثلاثة ـ وهم سلفنا الصالح ـ يدينون بكتاب الله
وسنة نبيه وعمل أصحابه الأبرار وأئمة عترته الأطهار دون أن يجدوا
عن ذلك حولاً. فما الذي حمل المسلمين ـ فيما بعد ـ على العدول عما
كان عليه العمل من قبل؟ وإذا جاز أن تكون المذاهب أربعة فلماذا
لايجوز أن تكون خمسة؟ وكيف يمكن أن تكون الأربعة موافقة لاجتماع
المسلمين فإذا زادت مذهباً خامساً تمزق هذا الاجتماع؟
ان؟ الاجتماع الحقيقي إنما يتم في اعتبار المذهب الجعفري مذهباً
خامساً في الاسلام ينظر إليه المسلمون السنة نظرهم تماماً إلى
مذاهبهم الأربعة خصوصاً وان المذاهب الأربعة ليست واجبة على
المسلمين بطريق التعيين وان شروط الاجتهاد ليست محصورة بأئمة هذه
المذاهب دون سواهم.
وهذا اعتراض مقبول ـ في نظري ـ من قبل أئمة الشيعة وفقهائهم. ولست
أرى ما يمنع من اعتماد المذهب الجعفري إلى جانب المذاهب الأربعة بل
واعتماد المذهب الزيدي أيضاً الذي لم يزل فيه باب الاجتهاد
مفتوحاً. فضلاً عن كون هذا المذهب يؤيد اختيار الشيخين أبي بكر
وعمر (رض) لخلافة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا تتعارض أحكامه مع
الأحكام الواردة في مذاهب أهل السنة، وعندما تختلف مع بعضها لابد
وأن توافق واحداً منها.
وهذا ما حدث بالفعل ـ منذ مطلع هذا القرن ـ حين اقتبس قرار حقوق
العائلة العثماني الصادر عام 1917 من غير المذهب الحنفي الذي كان
المذهب الرسمي للبلاد الخاضعة للنفوذ العثماني كالمالكي والشافعي
والحنبلي. وكذل حين تجاوزت مصر المذاهب الأربعة كلها إلى الأخذ بما
رأته أوفق لروح العصر وانفع لاستقرار الاسرة من مذهب الإمام جعفر
الصادق والمذهب الظاهري حيث اقتبست من هذا الوصية الواجبة وعن
الأول اجازة الوصية لوارث. وكذلك أخذت من المذهب الجعفري أحكام
الطلاق المعلق والمقترن بعدد. كل هذا وأمثاله يثبت بيقين أن أمة
الاسلام أمة واحدة وأنهم لا منجاة لهم مما يعانون إلا إذا أسدلوا
ستراً فضفاضا على خلافات الماضي، ونبذوا الاختلاف السياسي الطائفي
وراءهم ظهرياً، وأفادوا من حسنات الاختلاف المذهبي لأن في وجهات
النظر المختلفة ينبوعاً ثراً من الثقافة والمعرفة ينمي تراثنا
ويغذيه، ويطوره ويبقيه، وأيقنوا أن دمج المذاهب الفقهية كلها في
مذهب واحد اغتيال لهذا التراث، وان الاجتماع حول رأي واحد في جميع
الفروع الفقهية ضرب من المستحيل، وأنصتوا جميعاً ـ شيعة وسنة ـ إلى
نداء الحق تبارك وتعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن
الجاهلين).
وإلى قول رسولنا الأعظم محمد (ص): (من حمل علينا السلاح فليس منا
ومن غشنا فليس منا).
ثم إلى قول علي (ع): (انه ليس بالرجل غنى عن قومه. إذا خلع منهم
يداً خلعواً منه أيدياً كثيرة. فإذا رأيتهم في خير فأعنهم عليه،
وإذا رأيتهم في شر فلا تخذلهم. وليكن تعاونكم على طاعة الله، فإنكم
لاتزالون بخير ما تعاونتكم على طاعة الله تعالى وتناهيتم عن
معاصيه).
-----------------------------------------------------
المصدر : اسلامنا في التوفيق بين السنة والشيعة