حينما أمرنا الدين بممارسة عملية التفكير، فلا يعني ذلك إطلاقاً في
حدود صلاحياتها، كما بنى عليه عدة من الحكماء في معرض إيرادهم على
خصماء الفلسفة.. فعندما أشكل بعض العلماء على الممارسة والتفكير
الفلسفي، ساقوا أدلة عديدة تنهى عن ذلك من جملتها المنع من التفكير
في ذات الله وما أشبه.. وكانت إجابة الفلاسفة وإيراداتهم تعتمد على
الآيات القرآنية الداعية إلى التفكير في خلق الله سبحانه وتعالى،
بتقرير أن الله عزوجل لم ينه عن التأمل والتفكير في الوجود، بل أمر
به كثيراً، وفي هيئات وصور متعددة، ولم يقيد عملية التفكير بقيود
وحدود خاصة ولهذا لا مانع من التفكير في حققة العلم الإلهي وهل أنه
خاص بالكليات أم شامل لها وللجزئيات، كما لا مانع من التأمل في
حقيقة البعث وهل أنه مجرد بعث للأرواح أم هي والأجساد معاً.. وبذلك
فالحكماء بنوا على الاطلاق في صلاحية المفكر، فهو موسّعٌ عليه بأن
يفكر فيما يشاء اعتماداً على القياسات المنطقية والبديهيات
العقلية.
ولكن الإنصاف في ذلك لا ما ذهب إليه خصماء الفلسفة من المنع عن
التفكير خارج تلك الحدود، ولا أيضاً ما ذهب إليه الحكماء من اطلاق
الصلاحية للفكر.. وإنما المسألة يمكن النظر إليها من ثلاث زوايا،
الأولى أن التفكير ليس محجوباً عن أحد، فبإمكان الحكيم والفقيه
والمتكلم أن يفكر ويسرح بخياله، لكن بشرط المراعاة للمنهج القرآني،
فهناك حدود لا يمكن للعقل أن ينتج فيها.. وخارج ذلك يمكن للعقل
التأمل، ولهذا فإن الآيات القرنية لم تأمرنا فقط بالتفكير في
المخلوقات الموجودة للتوصل من خلالها إلى الخالق سبحانه.. كما في
قوله تعالى: (هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب ومنه شجر
فيه تسيمون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل
الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) النحل/ 10-11.
وإنما أيضاً أمرتنا بالتفكر في كيفية الخلق، كما في قوله تعالى:
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة
الآخرة..) العنكبوت/ 20.
والتفكير في كيفية بداية الخلق ـ طبعاً ظاهر الآية معناه النظر في
أن الله سبحانه كيف أوجد هذا الخلق من لا شيء، لكن التفكير في ذلك
من شأنه قيادة العقل إلى كيفية بدايتها: أي كيف بدأت الأرض؟ كيف
توزعت النجوم.. الخ؟ يعتبر سعة كبيرة في مدى التفكير، ولكن مع ذلك
لابد من الاعتراف بوجود حدود لذلك المدى الخاص بالتفكير.
وأما الزاوية الثانية فهي أن الإشكال قد لا يكون في المشروعية
وإنما في الجدوائية، فقد يكون للمشكلين على الحكماء بعض الحق، لكن
لا من جهة عدم مشروعية مجالات التفكير التي طرقها الفلاسفة ـ وقد
تكون بعض المفردات محتملة للزجر الشرعي، وإنما من جهة عدم جدوائية
التفكير فيها.. فمسائل من قبيل العلم الإلهي وحقيقته، وكيفية البعث
ـ وهي من أعمدة المسائل التي أشكل على التفكير فيها عدة من العلماء
كالغزالي، يصعب على العقل أن يحرز نتيجة علمية فيها، لأن أدوات
التفكير فيها غير متوفرة، فالتفكير فيها يعد من الترف.
فليس كل ما ورد ذكره في القرآن يمكن للعقل تحليله مادياً، خاصة ما
كان منه ذا طابع غيبي، والقرآن لم يفصله لنا ولم يقدم لنا أدوات
تسهل علينا تشخيص بعض تفاصيله، وإنما اكتفى بإشارة رمزية لا غير..
فمثل ذلك وإن لم يكن ثمة محذور شرعي في التفكير فيه، لكن الادعاء
بوجود محذور عقلي مبعثه عدم الجدوائية معقول جداً، ولعل ما أنتجه
الحكماء من نتائج في مثل تلك المسائل خير دليل على ذلك، حيث لم يرق
منها شيء إلى درجة العلم وإنما أكثرها ظنون إن لم تكن أوهاماً في
حقيقة الأمر، ولا يعني ذلك الاستهانة بكل ما أبدعه الفكر الفلسفي،
ولكن يعني التحفظ على إنتاج ظني لم يكن للعقل أدوات توصله إليه.
والزاوية الثالثة تتلخص في ضرورة التسليم بمقتضى النص الديني،
فالتفكير لا شك في مشروعيته، والدين أمر به وليس فقط حث أو شجع
عليه.. ولكن مع ذلك لا يعني امكان التجاوز للحد الشرعي، ولا أعني
هنا بالحد الشرعي مجرد الأحكام من الأوامر والنواهي، وإنما حتى
المشخصات التي تكفل الدين برسم صورة لها، ككثير من الحقائق مثل
الجنة والنار والأسماء والصفات الإلهية وما أشبه ذلك.. ففي مثل هذه
الحقائق يجب التسليم بما رسمه الشارع وعدم التجاوز إلى أكثر منه..
وهذا هو السبب الذي جعل أئمتنا (ع) يتحفظون على الجدل الذي احتدم
في العصر العباسي حول حقيقة القرآن وهل هو مخلوق أم قديم..
فهم (ع) من جهة أوصوا أتباعهم بالتقيد بحدود اللفظ الذي عبّر
القرآن به عن نفسه، وعدم التعدي إلى ما هو أكثر منه.. فقد حدّث
سليمان بين جعفر الجعفري، قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (ع):
يابن رسول الله، ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه من قبلنا، فقال
قوم إنه مخلوق، وقال قوم إنه غير مخلوق، فقال (ع): أما إني لا أقول
في ذلك ما يقولون، ولكني أقول إنه كلام الله).
ومن جهة أخرى، منعوهم من الاسترسال في مثل هذه المجادلات العقيمة
التي لا ثمرة فيها.. كما هو ظاهر مروية محمد بن عيسى بن عبيد
اليقطيني قال: كتب علي بن محمد بن موسى الرضا (ع) إلى بعض شيعته
ببغداد: (بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله وإياك من الفتنة،
فإنه يفعل فقد أعظم بها نعمة، وإن يفعل فهي الهلكة، نحن نرى أن
الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطى السائل
ما ليس له، ويتكلف المجيب ما ليس عليه وليس الخالق إلا الله عزوجل،
وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك
فتكون من الضالين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب
وهم من الساعة مشفقون).
فبناء على ذلك يمكن القول بصحة التفكير والاسترسال فيه، لكن مع
ضرورة الانتظام بما تم الإشارة إليه من الزوايا الثلاث..
وهنا سأشير إلى بعض الملاحظات الفنية، التي ينبغي أن تظلل عملية
التفكير، وهي إجابة فنية ـ وليس علمية ـ على السؤال التالي: كيف
نمارس عملية التفكير؟
من تلك الملاحظات الفنية:
1 ـ التفكير ليس عملية متقطعة وإنما برنامج مستمر في حياة الانسان..
فمن يمارس التفكير يفترض منه المداومة عليه، لأن التفكير المتقطع
لا يثمر، فهو حلقة متواصلة ينبغي أن تتواصل باستمرار علّها تحرز
نتيجة مرضية.. كيف؟
إن النتيجة الأولى التي يحرزها الفكر لا شك في منجزيتها، فهي لو
كانت حكماً شرعياً مثلاً لأصبح حكماً منجزاً يجب امتثاله.. ولكن
كونه منجزاً لا يعني أنه الحقيقة المطلقة، فقد يكون نسبياً وقد
يكون خاطئاً، ولهذا لابد أن يواصل المفكر في عملية التفكير حتى بعد
إحراز النتائج عسى أن تتقدم معرفته في نتائجه السابقة، كما يحصل
كثيراً في العمل الفقهي، حيث يتوصل الفقيه مرة إلى نتيجة فقهية أو
أصولية أو رجالية، لكنه بعد حين يتراجع عنها أو يشذبها، والشواهد
على ذلك كثيرة لسنا في صددها.
ثم إن التوقف عن التفكير يوقعنا في نفس المحذور المتمثل إما في
توقف حركة التطور عن الإنسان والمجتمع، أو السماح للترسبات
والتعفنات كي تأخذ طريقها إلى داخل الذات الإنسانية أو الاجتماعية.
ولعله لذلك ـ بلا تقوّل على الله سبحانه ـ جاءت أكثر الصيغ
المستخدمة فيها مادة (فكر) على نحو الفعل المضارع (يتفكرون)، لا
فاوته الاستمرار.. فيتفكرون تشير إلى الاستمرار في عملية التفكير..
وفي هذا السياق قال الإمام علي (ع): (أُوصيكم بتقوى الله وإدامة
التفكر، فإن التفكر أبو كل خيرٍ وأمّه).
2 ـ الالتزام بالحد المصرَّح به، والمنهج المحدد، باعتبارها جميعاً
ضوابط للتفكير، ومحددات للعقل الفاعل.
فهناك نوعان من الضبط، فتارة يتمثل في المنع من إعمال العقل في
خصوص بعض المفردات، كالنهي عن التفكير في ذات الله سبحانه وتعالى،
وفيما يتصل بذلك من حقائق غيبية مطلقة..
وهو نوعٌ تضافرت الروايات المصرحة بالنهي عنه، والآمرة بالتسليم
بما بالحدود التي صرّح بها الله سبحانه وتعالى..
(فقد خرج رسول الله (ص) ذات يوم على قوم يتفكرون، فقال: ما لكم لا
تتكلمون؟ فقالوا: نتفكر في خلق الله عزوجل، فقال: وكذلك فافعلوا،
فكّروا في خلقه، ولا تتفكروا فيه).
ومثل ذلك ورد في خطبة مفصلة للإمام علي (ع): (إعلم إن الراسخين في
العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب،
الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله
اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم
التعمق فيما لا يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً..).
وهذا يعني ضرورة التقيد بالحد الذي صرّح به الخالق جل وعلا، وعدم
التجاوز منه إلى غيره، أو كما جاء في رواية عدم وصف الخالق إلا بما
وصف نفسه هو لا ما وصفه غيره.. فقد روى البحار رواية عن الإمام
الرضا (ع) جاء فيها: (إن الخالق لا يوصف غلا بما وصف به نفسه،
وأنّى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله،
والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به، جلّ عمّا يصفه
الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون).
فتارة يتمثل الضبط في المنع من التفكير في مفردات خاصة، وتارة
يتمثل في الالتزام بمعالم المنهج الديني في التفكير.
3 ـ التفكير في خلفيات وتداعيات الحقائق والأحكام، لا في ذاتها،
بدءاً بالحقائق الكبرى كالتوحيد، وانتهاء بالأحكام الجزئية
كالوجوبات والمحرمات..
فلا يمكن التفكير في ذات الله سبحانه ولا في ذات العلم الإلهي،
وإنما يمكن التفكير في تداعياتها، كانعكاسات التوحيد في الحياة
اليومية، وآثار العلم والقدرة الإلهيين في الكون، وانعكاسهما على
الإنسان.
كما لا يمكن التفكير في ذات الأحكام، وإنما يمكن في خلفياتها ـ وهي
الحِكَم وتداعياتها ـ كيفية تطبيقها والاستفادة منها.
بمعنى أنه بوسع الإنسان أن يتساءل قائلاً: لماذا شُرِّعت الصلاة؟
بحيث يكون مقصوده الاستفهام عن فوائدها وكيفية استثمارها، لكنه لا
يحق له التساؤل بهذه الكيفية: على أي أساس فرضت الصلاة علينا مع
أنها لم تُفرض على مَن قبلنا ـ استنكاراً ـ وما هي حقيقة الصلاة،
بحيث يعطي لنفسه الحق في التصرف في هيئتها الخاصة، كيما يتعبد
بالطريقة التي يستذوق..؟
لأن النوع الثاني من التفكر في ذات الأحكام والتشريعات، ولم يُسمح
للإنسان التفكير في ذلك لأنه عبدٌ مأمور، ولكن له الحق في معرفة
أهدافها وتطبيقاتها حتى يستفيد منها كما ينبغي.
وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) ما له علاقة قريبة بهذا المعنى، حيث
قال: قال الله عزوجل: (أنا الله لا إله إلا أنا، خالق الخير والشر
فطوبى لمن أجريتُ على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر،
وويل لمن يقول: كيف ذاك وكيف هذا؟ قال يونس: يعني مَن ينكر هذا
الأمر يتفقه فيه).
4 ـ التفكير في البناء لا في الهدم.. بأن يعمل المفكر عقله في بناء
ذاته وبناء مجتمعه، ولا يوجهه نحو الهدم في البعدين.
ويبدو لي أن الكثير من المعلومات القرآنية والروائية شاملة لهذا
المعنى.. كعمومات النهي عن الحسد وعن البغضاء، وعمومات الدعوة إلى
الخير وكثير من ذلك..
فالاشتغال الذهني بالحسد وشبهه شأنه في المؤدى هدم الذات والمجتمع،
ولهذا فإن عموماتها الزجرية توجه العقل إلى المحافظة على الموجود،
بينما عمومات الدعوة إلى الخير تقود العقل للتفكير في البناء..
وهذا هو المستفاد من ضرورة التطابق بين سلامة الروح وحركة العقل،
فالغاية من ذلك هي ما نحن بصدده من الإيجابية في التفكير ـ البناء
ـ وتجنب السلبية ـ الهدم ـ .
ولكن من المؤسف جداً إننا نجد أحياناً عقولاً فذّة تستهلك طاقتها
في هدم الغير، تحت ضغط التحاسد والتباين في المواقف والأفكار، بدل
أن تتوجه بجد لبناء كل ما حولها والمحافظة على الأعمال الإيجابية ـ
الخير ـ القريبة منها.
وهذا هو خلاف المنتظر من العقل المفكر للإنسان المؤمن.. يقول
تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) آل عمران/ 104.
وقال سبحانه وتعالى فيما يشعر بذلك أيضاً: (ولا تكونوا كالتي نقضت
غزلها من بعدة قوة أنكاثاً..) النمل/ 92.