موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

عن معنى الابتداع 00 النشأة والتطور
د0 محمد احمد عبد القادر



البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله , وهو ما لم يأمر به أمر أيجاب ولا أستحباب 0 فأما ما أمر به أيجاب أو أستحباب0 وعلم الامر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله تعالى : ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يقول سن رسول الله (ص) سننا, الاخذ بهاتصديق لكتاب الله , واستكمال لطاعة الله , وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها , من اهتدى بها فهومهتد, ومن أستنصر بها فهومنصور , ومن خالفها وأتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا "0
واذا أردنا أن نحدد معنى الابتداع لغة فأنه يتداخل- للصلة اللغوية- مع معنى الابداع, وأبدع الشئ أخترعه وأنشأه على غير مثال سابق , وابتدع أتى بالبدعة وهي الحدث في الدين بعد الاكمال0 وذلك مثل قوله تعالى : " ورهبانية ابتدعوها ماكتبناهاعليهم " (الحديد- 27)0
هل كل أمر موجود ثم دخل عليه تعديل ما او زيادة ما يعد ذلك أبتداعاً ؟
الحقيقة ان تحديد (الاصل) هو الاساس الذي يترتب عليه ما اذا كانت الزيادة ابتداعاّ أم غير ذلك 0 ومعنى ذلك أيضاَ أن (الاصل) اذا كان عقيدة او جملة عقائد دينية فأن أية زيادة عليها مرفوضة وبحسم, خاصة في مجال عقيدتنا الاسلامية0 ونلاحظ أن هذه الزيادة الجديدة الطارئة أو هذا التعديل الناشئ يسميه القائمون به (تجديدا) ويسميه أصحاب (الاتباع) انحرافا وزيغا وابتداعا0 وهنا أريد أن اقرر الرفض التام لان يسمى التغيير في مجال العقيدة -تعديلا كان او زيادة- تجديدا0 ان (التجديد) له متطلبات منها أنه يصبح ضرورة ملحة عندما يتهاوى فكر ما من الداخل أو عندما تصيبه شيخوخة من داخله مما يتطلب معه تدخلا سريعا من أجل أستئصال مواطن الضعف والمرض فيه بما يضمن له سلامة الاستمرار0 ان هذا انما يصلح في مجال الفكر الذي هو في النهاية (تصورات بشر) ولكن يستحيل ادخاله في مجال العقيدة0
يقول الدكتور محمد اقبال ينبغي أن نوضح الفارق بين التجديد والأصلاح الديني في اوربا , فان أية محاولة تجديد كي تبقى في فلك الاسلام ولا تتجاوز حدوده فانهالا ينبغي ان تعدل من أصوله ما دام القرأن الكريم له صفة التاكيد فيما تناوله من تشريعات وأحكام وأمور تخص البشر في دينهم ودنياهم " ما فرطنا في الكتاب من شئ " (الانعام-8) وما دام النص قد انتهى برسول الله (ص)0
ان عدم التثبت في رواية الانجيل أو الاتفاق على رواية واحدة له اتاح ثغرات عديدة فدخلت المسيحيةآراء ومعتقدات أصبحت على مر الزمن جزءا من المسيحية ذاتها , كمبدأ الاعتراف وصكوك الغفران الامر الذي اتاح الفرصة لقيام بعض الاصلاحات التي تحاول التدخل في صلب العقيدة مثل اصلاح لوثر 0 أما في الاسلام فان ختم الرسالة الالهية واعلان اكتمال الدين يعني أن ليس هناك تطور في الاسلام ذاته كعقيدة0
وفي صحيح مسلم ايضا قول الرسول (ص) :" أما بعد فان خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد (ص) وشر الامور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"0
ونتفق هنا على أن أية محاولة لاي تعديل من أي نوع في الاسلام كعقيدة فان ذلك يعد أنحرافا ويدخل تحت باب الابتداع0
ان التجديد في مجال الفكر لا يتعارض مع القواعد والاسس, فان تلك القواعد بمثابة السياج الذي يتيح للفكر أن يتقدم من خلاله ويحفظه في الوقت نفسه من (الترنح) ذات اليمين وذات الشمال0 وكيف لا تكون هناك ضوابط وقواعد تحكم الفكر وهو ليس كمطلق الفكر وانما هو فكر منتسب الى الاسلام وهو دين الالتزام بالقواعد والاصول 0 وكلما كان الفكر الاسلامي أكثر التزاما بتلك القواعد والاصول كلما كان أقدر على التطور وعلى الابداع, اذ أن (الابداع) لا يعني مطلقا (الانفلات) من ضوابط الفكر الديني أو مجرد الخروج عليه0
وهكذا نقرر أن ليس كل تجديد أو تطوير (ابتداعا) كما أنه ليس مجرد التقليد يعد اتباعا , وتحديد ذلك راجع في تصوري الى المحك الذي نقيس كل مسألة وفقا له0
ويتعارف معظم المؤرخين والكتاب والباحثين على أطلاق اسم (الفلسفة الاسلامية ) على جوانب الفكر الاسلامي , ومن هنا فأن تناولنا لهذين البعدين انما يكون من خلال هذا الفكر الاسلامي في مساره او الفلسفة الاسلامية في مسيرتها ويمكن القول ان أسبق جانب من جوانب الفكر الاسلامي ظهورا هو (علم الكلام) وهو أكثر صور ذلك الفكر التصاقا بالدين خاصة في طور النشأة0 ولعل قيام علم الكلام بمهمة الدفاع عن الدين ومعتقداته يفسر لنا سبب ذلك الالتصاق , اذ أن نقطة الانطلاق كانت من الدين والغايه ايضا كانت هي الدين 0 ولعل البعدين الذين نتحدث عنهما (الابتداع والاتباع ) تمثلا أول ماتمثلا من خلال نشأة علم الكلام بوصفه أول وأهم مظهر من مظاهر الفكر الاسلامي من خلال المؤيدين والمفكرين0 وهكذا كانت نشأة علم الكلام كأول جوانب الفكر الاسلامي مؤذنة بذلك الانقسام القائم بين من يتبنون سبيل الاتباع ومن يحاولون التجديد من خلال الفكر الا أنهم في نظر اولئك ان هم الا مبتدعون , فما هو مقدار الصواب او الخطأ في مذهب كل فريق0
أما المتبعون , وهنا يمكننا أن نحدد هويتهم فهم الذين يرون أن القرآن بما يحري كاف, والسنة النبوية بما أوضحت وهدت فيها الغناء , ومعنى ذلك أن أهل الاتباع انما يحددون مفهوم الاتباع الصحيح بأنه اتباع للقرآن الكريم " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " واتباع لسنة رسول الله (ص) فكرا أو قولا وسلوكا , وتحقيقا لهدى الرسول الكريم (ص) : تركت فيكم ما ان تمسكتم به فلن تضلوا بعدي ابداً, كتاب الله وسنتي "0 هذا هو السبيل الصحيح في الاتباع حيث لا فكر الا من خلال أقوال الرسول الكريم (ص) ولا تفكر الا من خلال أيات القرآن العظيم0 وهؤلاء (المتبعون) بطبيعة الحال يرفضون علم الكلام ويذمون المشتغلين به0
ان القرآن وان عني في مواضع كثيرة ببطلان ما كان عليه العرب من عقائد غير صحيحة على أختلاف دياناتهم ومللهم, فقد نهى مع هذا عن الفرقة في الدين , وعن الجدل مع المخالفين الا بالحسنى وذلك استمالة منه للقلوب وحرصا على الالفة والوحدة0 يقول الله تعالى : " شرع لكم من الدين ما وصا به نوحا والذي أوحينا اليك, وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى, أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " (الشورى-13)0
ويذكر المقريزي أنه لم يرو قط من طريق صحيح أو سقيم عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم , على أختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله (ص) عن معنى شئ مما وصف الرب سبحانه نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد (ص), بل كلهم فهموا ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات0
ويقول جعفر الصادق (ت 148 ه) الذي له رسائل في رد مذهب القدرية والخوارج والغلاة من الروافض : أن الله تعالى أراد بنا شيئا, وأراد منا شيئا, فما اراده بنا طواه عنا , وما أراده منا أظهره , فمابالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا0
وهنا يحق لنا أن نتساءل : هل جاوز هؤلاء المتكلمون -الاوائل على وجه الخصوص- سبيل الاسلام عندما حاولوا أن (يتعقلوا) بعض مسائل الدين .؟ وهل فارقوا الجماعة في ذلك ؟
والحق أن يقال ان علم الكلام -بالرغم من سلبيات فيه- قام بدور رائد لا ينكر في مجال تأكيد دعائم العقيدة عقلا ومحاولة استئصال شأفة كل باغ او معتد على هذه العقيدة من أصحاب الديانات والملل الاخرى سواء منها السماوي او غير السماوي0 واذا كان بعض المتكلمين قد حاد قليلا اوكثيرا عن الطريق فعلى هؤلاء يقع وزرهم ولا يمكن ان يحتمل الاخرون عنهم ذلك الوزر0
وهنا ينبري الموصون بالابتداع (المتكلمون) للدفاع عن أنفسهم بأنهم أبدا لم يحيدوا عن الطريق ولا ضلوا السبيل الى (الهدف) , أنهم مؤمنون موحدون شغلتهم قضية نصرة الدين عن طريق (العقل) ضد الهجمات المنظمة التي يشنها مشركون من كل نوع0 ويلتمس المتكلمون أصولا وجذورا لهم من خلال العقيدة الاسلامية نفسهاومن بعض التابعين الابرار, اذ لا تناقض بين معطيات الدين (نقلا) ومعطيات الدين (عقلا)0
ويحاول المسلمون أن يتخذوا من أنبيائهم أسوة , فلقد جاء ايمان أبى الانبياء ابراهيم بعد طول نظر عقلي حين رفض أن يعبد ما يأفل ومن ثم جاء أيمانه بالذي فطر السموات والارض ايمانا عن يقين, ثم تدرج من الايمان الى الاطمئنان حين سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى " قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " (البقرة-260)0
وتعرض بعض الصور القرآنية حوارا منطقيا لأقحام المشركين فيما يذكر ابوالحسن الاشعري0 يقول تعالى " لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا " (الانبياء-21) وهذه الاية دعوة الى المحاجة بأن الله واحد لا يشاركه أحد في وحدانية0 وكلام المتكلمين في الحجاج في التوحيد بالتدافع والتغالب يرجع الى قول الحق تعالى: " ما أتخذ الله من ولد وماكان معه من اله اذا لذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " (المؤمنون -91)0 ويرجع الى القرآن ايضا - بالنسبة للمتكلمين- سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل0
وهكذا كان القرآن الكريم من الناحية المنهجية هو الاساس الاول والمنطلق في نشأة علم الكلام , اذ النظر والعقل لا يتعارض مع الايمان0
ومن ناحية الموضوع ألتزم المتكلمون على أختلاف فرقهم0 بما حدده القرآن من أصول عامة في الاعتقاد : التوحيد- أسماء الله وصفاته- صلة الله بالعالم صلة خلق بالمفهوم الديني - بعيدا عن تصورى أفلاطون وأرسطو عن الصانع والمحرك الاول0 خلق الله للعالم عن حكمة وغاية وليس العالم مخلوقاً لمجرد آلية اومصادفة " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً " (المؤمنون-115)0 الله عالم بالكليات والجزئيات جميعا :" لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض " (سبأ-3) مصير الانسان بعد الموت0
هكذا كان القرآن الكريم بآياته التي تمجد العقل والمتعقلين محركا لمكامن التأمل والنظر العقلي عند نفر من المسلمين لا ينبغي أن يحكم على اتجاههم بصفة عامة على أنه أتجاه (خارج)0 فالمتكلمون اذا لم يفارقوا الامة في نظرهم العقلي في بعض امور الدين حيث جاء الامر الالهي لهم أن يتدبروا ويتفكروا ويتعقلوا وان نهوا عن الفرقة في دينهم0 أنهم جعلوا القرآن دستورهم ونقطة انطلاقهم يتعمقون آياته ويستدلون بها0
ان الذي يمكن ان نذكره هنا بصدد هذه الاختلافات هو أن (الاتباع) لا يتعارض مع (الابداع) , فالاتباع هو نقطة الانطلاق وهو الركيزة الاساسية لكل تطور واضافة أو لنقل هو بمثابة الجذور التي يستند اليهاالابداع , ولكن يتعارض الاتباع- ومن ثم الابداع-مع الابتداع0 ان الابداع لا يلغي ابداالجذور والاصول ولا يتنكر لها وهي عبارةعن عقائد او قواعد (تتبع) وفي ضوئها وفي أطار منها يكون الابداع فكرا لا عقيدة, ان الابداع في الفكر هنا لم ينشأ من فراغ وانما كانت له قواعد يسير علىهديها0 أماالابتداع فهو يحاول جاهدا - أن يتنكر لجذوره محاولا طمس معالمها والتقليل من شأنها وأن يستبدل بهاغيرها مما يظنه جديدا حتى وأن كان غريبا0
------------------------
المصدر : الفكر الاسلامي بين الابتداع والابداع

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي