موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

العقيدة والسلوك الانساني
سعيد بن ناصر الغامدي



لا يمكن بحال من الأحوال فصل القضايا العملية عن الأسس الاعتقادية والقواعد الفكرية، بل هي - وإن بدت في هيئة خطوط متقابلة - عقيدة وشريعة ، فكرة ونظام ، تصور وسلوك - إلا أنها في حقيقة الأمر متداخلة متمازجة . فالعقيدة والتصور الفكري قاعدة ، والتطبيقات الحكمية والسلوكية فروع عن تلك القاعدة .
ومهما كان الاعتقاد موغلاً في الرمزية أو التجريدية أو المثالية - أو حتى الأسطورية الخرافية - فإنه لابد أن يؤثر في سلوك وعمل معتقدِه .
والوثنيون الإغريق أو الفراعنة أو عرب الجاهلية ظهرت آثار عقائدهم في أعمالهم وأخلاقهم ، في نظمهم وعلاقاتهم ، في أحكام ومناشط حياتهم .
والجاهليون المعاصرون - من ماركسيين ووجوديين وليبراليين وعلمانيين وحداثيين - قادتهم عقائدهم وتصوراتهم إلى اتخاذ مواقف ، واعتناق مبادئ ، والسير على نظم ، والمُضي في سلوك ، والمشي على أخلاق معينة .
هذه حقيقة ثابتة وإن تفلسف في نفيها بعض المتفلسفين في سفسطة كاذبة!
خذ مثلاً مذهب (اللامُنْتَمٍ) : (الذي يخص الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ ، والذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية هما أعمق تجذّراً من النظام الذي يؤمن به قومه).{1} ، يقول مؤلف كتاب (اللامنتمٍ) - بعد أن كتبه بسنوات عدة في مذكراته التي سماها (رحلة نحو البداية)-: (حينما كنت أكتب (اللامنتمٍ) كنت أشعر بإحساس من الإثارة الهائلة والقلق ، كان الكتاب ينصبّ من داخلي كما تنصب الحِمَم المنصهرة الخارجية من بركان ، وكنت أعرف أنه كتاب جيد ، كنت أكتب عن نفسي ، كان موضوع الكتاب هم العاجزون عن التكيف في الحضارة الحديثة ، الرجال الخلاّقون الذين يشعرون أن لا مكان لهم في سباق الفئران ، ولكنني عنيت بأن أقرر أن (اللامنتمٍ) قد لا يكون خلاقاً .
إن افتقاره إلى فهم نفسه قد يكون كاملاً إلى درجة أنه لا يبدأ في إنجاز مهمة التطهير من خلال الخلق ، لقد تحول فان جوخ ونيتشه إلى شعلة متوهجة من اللاانتمائية ، ولكن أكثر اللامنتمين لا يتحولون إلى أكثر من جمرة خابية ، فلا ينتجون إلا بعض الدخان الأسود ، يلطخهم ، ويلطخ مَن حولهم ، وقد كان لي أن أتبين جانباً كبيراً من هذه الظاهرة بين الجيل الأصغر في أمريكا بعدما يقرب من عشر سنوات ..)..
ويقول في كتاب (ما بعد اللامنتمٍ): (حين كتبت (اللامنتمٍ) عام 1955 كان الهدف منه هو أن أبين أن الوجودية قد انحرفت عن طريقها الحقيقي {الذاتية} ، وأن بعض الفلاسفة الوجوديين حاولوا إلباس تعصبهم وفشلهم الشخصييْن لغة مؤثرة ومجردة ولا معقولة ، فأغرقوا في تعقيد الأمور ؛ مما يجعلني أشعر أن مقاومتي للمشكلة الرئيسية - مع إصراري العنيف على الذاتية - ما هو إلا مساهمة متواضعة ، لكنها جديرة بالاهتمام في التفكير الوجودي)..
يتضح من هذا أن (اللامنتمٍ) هو - في الحقيقة - (منتمٍ) ، أي صاحب عقيدة ومذهب ، وله غاية وهدف ، وله أسلوب ومنهج ، وله سلوك وطريقة ، يعبر بها عن عقيدته ومنهجه ، سواء سميتَ ذلك المنهج (اللامنتمٍ) ، أو (الوجودية الجديدة) ، أو أي تسمية أخرى فإنها في النهاية انتماء ، أي اعتناق لعقيدة ذات أثر تطبيقي ومسلكي في الواقع .
إذن فالعقيدة هي المحضن الأساسي لأي عمل يقوم به الإنسان ، وذلك على مقتضى طبعه الذي خلقه الله عليه ، كما أخبر بذلك الصادق المعصوم - صلى الله عليه وسلم -: (أصدق الأسماء حارث وهمام).. (فكل أحد حارث وهمام ، له عمل ونية). ، (إذ كل إنسان لابد له من حرث - وهو كسبه وعمله - ولا بد له من هم هو مبدأ إرادته..)..
فالإنسان مفطور على هذه القضية ، ومجبول - في كل أعماله الحسية والمعنوية - على هذا الأمر ، فهو إذا توجه لعمل فلا بد لهذا التوجه من إرادة وقصد ونية وعقيدة وفكرة تسبق هذا العمل ؛ فكل إنسان يهم ثم يعمل ، وكل إنسان له حرث وحركة ، وهو العمل والنشاط والممارسة ، وله قبل ذلك هم وإرادة وقصد .
والنفس - بطبعها - متحولة متحركة ما دامت حية ، والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة ، والإنسان المختار - مهما بلغت درجة انحطاطه الفكري والاعتقادي - لا يتصرف كيفما اتفق ، ولا دونما أسباب ، ولا من غير واقع .
والإرادة تنبعث في الإنسان من عقل مختار ، له رؤية معينة (عقيدة ، فكرة ، مَثَل أعلى) ، منها ينطلق العزم على فعل أمر ما أو ترْكه ، فإذا وُجدت الإرادة الجازمة ، والقدرة التامة ، وارتفعت الموانع ، وحصلت الشروط وُجد الفعل عندئذ .
وحاصل القول إنه لا يتصور انفكاك الإنسان عن إرادة تحركها عقيدة أو فكرة ما ، تتحول بعد ذلك إلى ممارسة وتطبيق ، ومن أوضح الأدلة ما يُرى ويُسمع ويُعاش من حقائق حول قضية الصراع بين الإسلام والمادية المتمثلة في قضية الصراع بين الإسلام من جهة والعلمانية والحداثة من جهة أخرى ؛ فالمؤمن بالله رباً - وبالإسلام ديناً وبمحمد (ص)نبياً وبالقرآن والسنة منهجاً - يعتقد ذلك يقيناً قاطعاً ، ويوقن أن التدين لله - تعالى - لا يتم بالصورة الصحيحة المقبولة إلا إذا كانت الحياة - كل الحياة - خاضعة - كل الخضوع - لله {تعالى} في كل شأن من شئونها ، وأن هذا المعنى الكامل الشامل الوحيد هو مقتضى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) .
وقد حاول بعض جهلة المسلمين - وبعض ذوي الأهواء من أبناء المسلمين - أن يحرفوا هذا المعنى ، وأن يُقْصروا الإسلام على أنه مجرد عقيدة وقيم خلقية!
والعلمانيون من أبناء المسلمين - مَن يعتقد منهم بأن الإسلام دينُ حقّ من عند الله - تعالى - يدورون على هذا المفهوم الظالم الخاطئ الضال .
أما الملاحدة منهم - الذين لا يؤمنون برب ولا إله ولا دين ولا رسول ولا كتاب - فقد تمادوا في الغي إلى أبعد مدى ، وجحدوا كل أنواع الهدى ، وركبوا ظلمات الخرافات والجهالات المادية المعاصرة .
والفريق الأول من العلمانيين أشد خطورة وأنكي في حرب المسلمين ؛ ذلك لأنهم يتظاهرون بأنهم أهل دين وإسلام ، وأنهم لا يرفضون الدين ، ولا يردونه ويقولون - على زعمهم - أنهم إنما يرفضون التطرف الديني ، والتزمت الديني! ، ويرددون بأنهم لا يريدون سوى الإسلام الصحيح! ، الإسلام الذي يتوافق مع الحضارة ، ومع التقدم ، ويساير الحضارة الغربية!
ومع ضغط الصحوة الإسلامية المتزايد ، وانتشار الالتزام بالإسلام في أرجاء الأرض وفي أصناف المسلمين ، بل وفي غير المسلمين - تظهر دعواتهم العلمانية تحت عناوين عديدة خادعة منها : (الإسلام المستنير) ، (العقلانية الإسلامية) ، (تجديد الفكر الديني) ، (استلهام جوهر الإسلام النقي) ، (الإسلام الحضاري) ، (مقاومة الجمود الديني) ، (مقاومة الإرهاب الفكري) (الإسلام الديمقراطي) ، (حرية الاعتقاد والفتنة الطائفية) ، (النصوصية الجامدة) ، (السلفية الجامدة) ، (التمسك بروح الشريعة) ، (التحلّي بروح الدين) ، (مراعاة المقاصد العامة للإسلام) ، (تنزيه الإسلام عن الألاعيب السياسية والواقع الاجتماعي الدنِس) ، (الفرق الحضاري بين القرون الهجرية الأولى والواقع المعاصر) ، (التمييز بين الدين والدولة) ، (الفرق بين السلطة الدينية والسلطة المدنية الزمنية) ، (المصلحة أساس الشرع) ، (الحركات الإسلامية الشمولية تسعى إلى ردّنا إلى الوراء مئات السنين) ، (الحركات الإسلامية تابعة لقُوى خارجية) ، (وهي المسئولة عن هزيمتنا الحضارية والعسكرية) ، (أخْذ روح التشريع لا نصه) ، (تقديم المصلحة على النص) ، (أخْذ لُباب الإسلام وترْك قشوره) ، (التحلل من قيود الخطاب السلفي) ، (تجريد القرآن من التفسير الأصولي السلفي) ، (وجوب إعادة تفسير القرآن حسبما يقتضيه العصر) ، (النص الشرعي وليد أوضاع اجتماعية وتاريخية معينة تغيرت الآن) ، (الإسلام مجرد عقيدة سمحة ، وقيم أخلاقية)..
إلى غير ذلك من الأحاييل اللفظية ، المبنيّة على عبارات مفخخة ومصطلحات مولدة من السّفَاح الثقافي الغربي ، يحاولون النفاذ بها إلى عقول المسلمين من خلال مصطلحات وألفاظ الخداع والتلبيس. ، في محاولة دائبة لطمس حقائق الإسلام ومعالمه الصحيحة تحت سيل من الآراء الباطلة والشبهات الضالة المستوردة من أوروبا لتسويقها ونشرها وإذاعتها ؛ ليكونوا بذلك رأس رمح في الغارة الجديدة على الإسلام وأهله ، هذه هي حقيقتهم على الرغم من كل محاولات الاستتار والتخفي!
وهكذا نرى العقائد الجاهلية المعاصرة - (عقيدة العلمنة) ، أو (عقيدة الحداثة) - تفعل في أصحابها عند الممارسة ما كانت تفعله الأوثان القديمة ، بل أشد وأنكى ، فقد كان الجاهلي القديم يذبح للصنم ، ويستقسم بالزلم ، ويتبع أرباباً شرعوا له الأعراف الجاهلية ، والعقائد الضلالية ، ووضعوا له القيم والأخلاق وأنماط السلوك التي يعيش عليها ، ولقد كانت الجاهلية الأولى تقوم على عقائد الكفر والشرك بالله - تعالى - واعتقاد ألوهية الأصنام والأوثان وأعراف القبيلة ، واعتقاد أنوثة الملائكة - عليهم السلام - ونفي إرسال الله أحداً من البشر ، أو إنزاله على أحد منهم - ممن اصطفاهم - من شيء ، وجحْد الآخرة ، واعتقاد أنهم إنما يعيشون ويموتون وما يهلكهم إلا الدهر ، وجحد القدر ، واعتقاد أن المنايا - مثلاً - خبط عشواء مَن تُصبْه تُمِتْهُ ، ومن تخطئه يعمرْ حتى الهرم ، وكان لهذه العقائد الكفرية أثرها البعيد في نظام حياتهم ونمط معيشتهم ، فكانوا يحكمون بشريعة الجاهلية ، وبها يحلون ويحرمون ، ويجيزون ويمنعون ، وكانت لأصنامهم الحظوة الكبرى والتألّه الأكبر ؛ بما يقدمونه لها من عبادات وقُرُبات .
وكانت هناك - على أساس من عقائدهم - الانحرافات الخلقية من خمر وميسر ، وفاحشة علنية أو مستترة ، ووأْد {بنات} ، وظلم متعدد الأوجه والأنواع: ظلم سياسي ، وظلم اجتماعي ، وظلم اقتصادي ، من حمية قبلية ، وطبقية عنصرية أو مالية ، إلى أكل الأموال بالباطل ، وسفك الدماء ، وانتهاك الأعراض إلى غير ذلك من أنماط حياتهم المليئة بالشر والفساد والرذيلة والانحراف .
ثم جاء الإسلام ليُخرج هؤلاء - أولاً - من ضلال الاعتقاد الكُفري ، وفساد التوجه الشّرْكي ، جاء الإسلام بمبدأ التوحيد (لا إله إلا الله) ، وبقضايا الإيمان الأساسية ؛ لأنها هي الأصل الذي ينبني عليه أي تغيير بعد ذلك.
وبعد أن أُسّست عقائد الإيمان ، وتأسس توحيد الله مكان الأوثان عالج الإسلام المشكلات الأخرى والانحرافات المتعددة ، القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية ، وأمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبدأ بالتوحيد ، يدعو الناس إليه ، ويربي مَن استجاب منهم على مقتضاه ، أي أن الانحرافات لم تكن خارج الدعوة ، أو خارج الاهتمام ، ولكنه عالج هذه الانحرافات على أساس أن هذه المعالجة من مقتضيات التوحيد ومن لوازم الإيمان .
والمقصود أن الإسلام بعد أن أسس مبدأ التوحيد - وقضايا الاعتقاد - شرّع الشرائع ، ووضّح الأحكام ، ووضع المنهج والنظام ؛ ليخرج الناس من ظلمات العقائد التي انبنت عليها ظلمات الانحرافات والمفاسد العملية ، والجاهلية المعاصرة - على نمط الجاهلية القديمة - اتخذت أصناماً ، واعتنقت عقائد ، قادتها إلى مهاوي البلاء والردى ، وأركستها في أشر ما يمكن أن يُرتكس فيه إنسان .
عقائد مادية إلحادية ، وأرباب باطلة من نظم ومذاهب ، وأعراف وأفكار وأشخاص وأسماء ورسوم ، تُملي عليهم أنماط حياتهم وفلسفة تصوراتهم ومعارفهم وأسس سلوكهم ، وأصول أخلاقهم وقواعد سياساتهم واقتصادهم ، بل ومفرادات وفروع كل ناحية من نواحي حياتهم ، وما يُرى ويُشاهد ويُلمس اليوم في (الدول المتقدمة) - الدول العصرية! - من أفكار وأعمال وممارسات كلها شواهد على هذه الأنواع العديدة من الانحرافات الاعتقادية والعملية .
أما أتباعهم - ممن يُسمون (تلطّفاً) أو (تظرّفاً) (دول العالم الثالث) - فإنهم على أسوأ وأردى مما عليه أسيادهم ، وإن بقيت عند بعضهم - خاصة الشعوب المسلمة - بقية من بقايا الدين الحنيف ، أو بقايا الفطرية السوية ، أما أتباع الغرب في البلاد الإسلامية - من المفكرين والمثقفين والإعلاميين والإداريين - فإنهم بلا ريب قد بلغوا من الانحطاط والتردي درجات لا يكاد يصدقها عقل ، وانسحقوا بالكلية تحت أقدام أسيادهم ، الذين معهم - مع انحرافهم - عناصر قوة مادية .
أما أتباعهم وأولياؤهم فإنهم تركوا القوة الإيمانية بالتبعية الاعتقادية ، وما يترتب عليها من أنظمة وأنماط حياة وسلوك ، ولم يستطيعوا أن يحوزوا القوة المادية التي يتمتع بها الغرب ، فصاروا بلا دين ولا دنيا ، أما الدين فقد أضاعوه حين اتبعوا المذاهب والأفكار والعقائد المادية ، وحين أخذوا معها مقتضياتها العملية من أنظمة وسلوكيات وممارسات حياة عامة أو خاصة ، وأما الدنيا فهم في درجة من التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية لا تتيح لهم أن يكونوا أحراراً في اتخاذ ما يريدون اتخاذه ، ولا شك أن هذا لازم من لوازم اتّباعهم للعقائد والمذاهب المادية .
أما حيازة التقنية - والاكتفاء الذاتي في الغذاء والدواء والسلاح - فهم أبعد الناس عنه ، وإن تحقق لبعضهم شيء من ذلك فهو كسب ضئيل مرتهن ، مغموس في بحور الاستلاب والهزيمة والتبعية .
والمتتبع لأحوال وأعمال وأقوال القوم سوف يرى من الشواهد والأدلة على هذه القضية الشيء الكثير .
إن أتباع الملة الحداثية العلمانية - من أبناء المسلمين أو من أبناء البلدان الإسلامية - اتبعوا الجاهلية الاعتقادية ، والضلالات الفكرية ، والانحرافات الفلسفية ، وتبع ذلك - ولابد أن يتبعه - جاهليات أخرى ، جاهلية في النظم والسياسات ، وجاهلية في الاقتصاد ، وجاهلية في التوجيه والتعليم ، وجاهلية في النفس في ذاتها وسلوكها واجتماعها ، وتبع الفساد الاعتقادي والتبعية الاعتقادية - ولا بد أن يتبعه - أن أصبحوا حرباً على دينهم ، وعدواً لأمتهم .
ومن حربهم الموجهة ضد دينهم أنهم توجهوا إليه - بدافع من اعتقاداتهم المادية - بالثلب والسب والسخرية والاستخفاف والعبث بمصطلحاته وشعائره وأصوله وأركانه وسائر قضاياه ، وهذا ما تُرى شواهده في الواقع بكثرة ، وهذه القضايا وإن كانت - في مجملها - قضايا عملية وممارسات فعلية ، ليست - أصلاً - من قضايا الاعتقاد على وجه الخصوص ، ولكنها - كما أسلفت - لا تنفك عن الاعتقاد ؛ إذ هي الصورة التطبيقية للاعتقاد ، والممارسة العملية للفكرة المعتَنَقة ، وهي - مع ذلك - المطلب العملي المقصود من الأتباع ، والغاية الفعلية المرادة من الذائبين في أحماض المذاهب والعقائد الغربية .
نعم يُسَرّ الكفر وأهله بسلخ المسلم عن دينه ، وإخراجه من النور إلى الظلمات في أي شكل ، وعلى أي هيئة ، ولو في صورة فكرية مجردة ، فذلك مكسب للشيطان وحزبه ، ولكن سرورهم أعظم وفائدتهم أجزل عندما يتعدى هذا السلخ إلى أن يصبح المسلوخ أداة لهم ، وصورة عنهم ، ووسيلة من وسائلهم ، وامتداداً عملياً لهم في واقع المسلمين ، إما بنشر الفكرة العلمانية أو الحداثة أو غيرها من الأفكار الغربية ، وإما بممارسة العمل في منصب توجيه أو قيادة .
{تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ والنّبِيّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولَكِنّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُون (المائدة ) . وهذا هو حال المنافقين قديماً وحديثاً (فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه ، وكم من حصن له قد قلعوه ؟! ، وكم ضربوا بمعاول الشّبَه في أصول غِرَاسة ليقلعوها؟! ، وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها ؟! ، فلا يزال الإسلام وأهله يطرقه من شُبههم سرية بعد سرية ، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون {أَلا إنّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاّ يَشْعُرُونَ}[البقرة:12] ، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللّهُ مُتِمّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ}[الصف:8] ، اتفقوا على مفارقة الوحي ، فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون {فَتَقَطّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:53] ، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً}[الأنعام:112] ؛ ولأجل ذلك {اتّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً}[الفرقان:30] .
دُرست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها ، ودُثّرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ، وأَفِلتْ كواكبه النيّرة من قلوبهم فليسو يحيونها ، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها ، ولم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله ، ولم يرفعوا به رأساً ، ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأساً ، لَبِسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران ، والغِلّ والكفران ؛ فالظواهر ظواهر الأنصار . ، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار ، فألسنتهم ألسنة المسالمين ، وقلوبهم قلوب المحاربين ، ويقولون {آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8] .
رأس مالهم الخديعة والمكر ، وبضاعتهم الكذب والختر ، وعندهم في العقل المعيشي: أن الفريقين عنهم راضون ، وهم بينهم آمنون {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة:9] ، قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها ، وغلبت القصود السيئة على إرادتهم ونياتهم فأفسدتها ، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك ؛ فعجز عنه الأطباء العارفون {فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة:10] .
مَن علقت مخالب شكوكهم بأَديم إيمانه مزقته كل تمزيق ، ومَن تعلق شَرَر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق ، ومَن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق ، ففسادهم في الأرض كثير ، وأكثر الناس عنه غافلون {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إنّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاّ يَشْعُرُونَ {12}}[البقرة])..
هذا حال ووصْف فئة منهم لا يريدون الظهور بمظهر المعادي الصريح تَقِيّة ، يتخفّون تحتها لإنفاذ مآربهم ، ويكثر هؤلاء في البلدان التي يخافون فيها من أحكام الدين ، أو يأملون بتلبيسهم تحقيق القوة لهم والتمكين ، وأكثر ما يكون هؤلاء في أهل التوجيه وأهل الأمر ، أما الفئة المعادية صراحة المحارِبة جهرة ، المضادة علناً ، فكثيرون في البلدان التي يأمنون فيها ؛ حيث لا يكون للدين وأهله شوكة ، ويبرزون بكثرة من تحت أردية الفئة الأولى ، حيث يعبرون - بالنيابة عنها - عما في قلوبهم ، وينالون منها الحماية والرعاية والتأييد .

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي