كيف يمكن أن يحدث عامل النّفير في واقع الأمّة في ظروفها الرّاهنة
حتى يكون دافعاً لها في ظلّ هذه الظروف كي تنطلق في الأداء
الحضاري؟
والنفير الحضاري يحدث في الأمم بصفة عامّة إمّا بدعوات انقلابية من
العقائد الدّينية على الأخصّ تحدث فيها تغييراً شاملاً في غاية
الحياة فإذا هي تنعطف في مسيرة حياتها إلى الغاية الجديدة في نفير
شامل تندفع به إلى تحقيق تلك الغاية، وما وقع في أمّة الجزيرة
العربية بدعوة التوحيد خير مثال على ذلك، وأشباهه في التاريخ قائمة
متمثّلة في الحضارات التي نشأت بعامل ديني وهي أغلب الحضارات التي
عرفها الإنسان. وإمّا بتحدّيات كبرى تواجهها، طبيعية كانت أو
إنسانية، فتنشأ فيها روح من المغالبة لحفظ الوجود، أو للحفاظ على
الكبرياء والاستعلاء، فتنطلق في المدافعة في نفير حضاري شامل، وهذا
ما عبّر عنه توينبي بالاستجابة للتحدّي الذي جعله قانوناً في نشوء
الحضارات.
وقد واجهت الأمّة الإسلامية في تاريخها الحديث وهي في وضع العطالة
الحضارية بعضاً من التحدّيات ذات الشأن، نذكر منها ما تعرّضت له من
استعمار مباشر من قبل الغرب المسيحي في القرن الماضي وأوائل هذا
القرن، وهو الاستعمار الذي أذلّها إذلالاً، بل واستهدف وجودها
كأمّة إسلامية، وكذلك ما تعرّضت له من غزو صهيوني استهدف اقتطاع
جزء عزيز من أرضها، وكذلك ما تتعرّض له اليوم من هيمنة شاملة من
قبل قوى الاستكبار تستهدف تحطيم مقوّمات هويتها، واستنزاف
مقدّراتها المادية، وتوجيه مواقفها في إذلال مشهود، وذلك ما تنطق
به الأحداث اليوم صباح مساء.
إنّ تحدّي الاستعمار المباشر كان حدثاً شديد الوقع على الأمّة
الإسلامية بحيث إنّه حرّك فيها دواعي النّهوض للدّفاع عن النفس،
فكان ذلك الجهاد التحريري الذي نشأ في مختلف جهات العالم الإسلامي،
والذي بلغ من القوة والشّمول والشدّة في بعض البلاد الإسلامية على
الأخصّ ما حشّد الأمّة فيها إلى نفير جهادي شديد، وكان من شأن هذا
النفير الجهادي أن يتطوّر إلى نفير حضاري بما أنّ الاستعمار الذي
أصيبت به الأمّة إنّما كان بسبب مغلوبيتها الحضارية التي كوّنت
فيها قابلية الاستعمار على حدّ تعبير مالك بن نبي، فيكون إذن
النفير الجهادي العسكري مقدّمة تتطوّر إلى نفير جهادي حضاري يقضي
على التحدّي من أصله، ولكنّ هذا التطوّر لم يقع، وأجهضت روح النفير
في الأمّة بما غيّر التحدّي من ثوبه الذي كان مباشراً يستثير روح
الجهاد إلى ثوب غير مباشر يعمل عمله القاتل ولكنه لا يستثير تلك
الرّوح،. وهكذا اغتالت الاشتراكية روح النفير الجزائر، واغتالتها
القومية في مصر، وكذا في غيرها من البلاد الإسلامية، فإذا المسلمون
يعودون إلى وضع التراخي، تعمل معاول الهدم فيهم وهم فيما يشبه غيبة
الوعي لا يثيرهم التحدّي في أثوابه الجديدة التي صاغها يبحث تتفادى
استثارة النّفير من جديد.
إلا أنّه يبدو أنّ حدوث نفير حضاري عامّ في الأمّة الإسلامية في
واقعه الرّاهن يحتاج إلى عمل دعوي عميق يحرّك فيها تلك الطاقة
المخزونة، ويخرجها من طور الكمون إلى طور الفعل، فتنطلق إذاً
مباشرة إلى العمل البنّاء، كما انطلقت أمّة الجزيرة مباشرة إلى
البناء الحضاري بفعل دعوة التوحيد، أو تصبح على الأقلّ مهيّأة
بقابلية عالية الحساسية للتفاعل مع الأحداث التي تتعرّض لها في
نطاق التحدّيات التي تجابهها، فتكون تلك التحدّيات مهما كانت
أثوابها خفية مثيرةً لقابلية النفير فيها، فتنطلق في اندفاع شامل
في سبيل النّهضة لمغالبة التحدّيات بالترقّي في مضمار المادة
والروح، ومدافعتها بالتحضّر.
ويمكن أن يكون ذلك العمل الدّعوي المستهدف لإحداث النفير الحضاري
مركّزاً على إنشاء وعي عميق وشامل في نفوس المسلمين من شأنه أن
ينبّههم من الغفلة التي هم فيها، ويجعلهم على درجة من الإدراك
لقيمة أنفسهم، ولرسالتهم في الحياة، وللأخطار المحدقة بهم.
إنّ ما نقصده من عوامل النّفير في هذا المقام يتجاوز ما حدثه
الدّعوة العامّة للإصلاح من وعي ينشأ تبعاً للانصلاح بصفة هي أقرب
إلى أن تكون غير مباشرة؛ ذلك أنّ العوامل المقصودة هنا هي عوامل
تستهدف الإثارة المباشرة للوعي المحرّك للنفوس تحريكاً استنفارياً
بما تكون عليه من صفة تحريضية تحشيدية تستفزّ الهمم وتحفّزها
للانطلاق في العمل فيما يشبه التّعبئة العامّة للأمم في أوقات
الشّدائد. هذا وإنّ الوعي الكفيل بإحداث النفير الحضاري هو وعي ذو
شعب، كلّ شعبة منه تختصّ بجهد في الدّعوة مخصوص، وكلّ منها يُعتبر
عاملاً من عوامل الاستنفار. ويمكن أنّ نميّز في هذه الشعب ما
نقدّمه تالياً.
أ ـ الوعي الاستعلائي:أنّ من عوامل تخلّف المسلمين وعطالتهم
الحضارية ما يستشعره الفرد المسلم في نفسه من إحساس بالدّونية
والضآلة بحكم المغلوبية الحضارية التي هو فيها، فذلك الشعور من
شأنه إرخاء إرادته وتثبيط عزمه، ودفعه إلى الاستكانة والعقود،
وحينما يصبح ذلك شعوراً جماعياً فإنّه يؤدّي إلى قعود جماعي،
ولإدراك هذا المعنى إدراكاً واعياً من قبل أعداء الأمة الإسلامية،
فإنهم ما فتئوا منذ زمن يعملون بأساليب متنوّعة على بثّ الشعور
الانهزامي في نفوس المسلمين وترسيخه فيها، وكان ذلك محوراً أساسياً
من محاور الغزو الثقافي، فمن نظرية رينان Renan التي تتّهم العقلية
الشرقية عموماً والإسلامية خصوصاً بالنقص الطبيعي بالنسبة للعقلية
الأوروبيّة، إلى حملة المستشرقين بادّعاء أنّ التراث الإسلامي ليس
إلاّ إعادةً خاليةً من الابتكار للتّراث اليوناني والمسيحي القديم،
إلى الحملات الإعلامية الراهنة التي تظهر أنّ كلّ نقص وشرّ إنما هو
من قِبل المسلمين، وأنّ كلّ خير وكمال إنما هو من قبل الغرب
وحضارته.
وتفادي هذه الحالة من الانهزامية واستنقاص الذات لا يكون إلا
بمعالجة النّفوس ببثّ روح العزّة والاستعلاء فيها، وذلك بإشعار
الفرد المسلم بطرق مختلفة ومتنوعة برفعة ذاته وعلّو شأنه باعتباره
مسلماً، وذلك في الحدود التي لا ينقلب فيها الشعور بالاستعلاء إلى
كِبر واستعظام مرضي للنفس يُستنقص فيه الآخرون ويُستحقرون، وإنما
في حدود الاعتزاز بالنفس والشعور بقيمة الذّات، والتخلّص من مركّب
النّقص والانهزامية.
ولعلّ من أهمّ روافد ذلك الوعي الملتقية عنده والمكوّنة له ما يلي:
أوّلاً: الوعي الإيماني:
وذلك بأن يبصّر المسلم بأنّ إيمانه بالإسلام وانتماءه إلى أمته هو
مبعث عزّة واستعلاء، وذلك بالنظر إلى ما ينطوي عليه هذا الإيمان من
الحقّ المطلق الذي لا يدانيه حقّ في جميع فروعه وشعبه، وبالنظر إلى
ما يتأسّس عليه من توحيد لله تعالى الذي يتحرّر به المسلم من
عبودية كلّ ما سواه، كما أنّه يتحرّر به من أن يخضع لرأي بشر مثله
يحكّمه في حياته، وآراء البشر حبالى بالنقائص والنقائض، فذلك كلّه
من شأنه أن يشيع في النفس الشعور بالكرامة والعزّة، إذ الإنسان
بفخر ويزهو بعلوّ مصدره في الاهتداء، وقوّة ملاذه في الاحتماء،
وكفى المؤمن بالله هادياً وحامياً، فهو مصدر فخره وزهوه.
ويمكن أيضاً أن ينبعث في المسلم الاعتزاز بإيمانه بإجراء المقارنة
بينه وبين كسوب الآخرين من العقائد والمذاهب، وذلك في قيمتها
الذاتية، وفي آثارها العملية كما هو الأمر في واقعها اليوم، بله ما
كانت في واقعها بالأمس. وذلك التفوق الظاهر من المقارنة يثير في
النفس الاعتزاز والرفعة، إذ من شأن الإنسان أن يعتزّ ويزهو بما
يتوفّر عليه من منهج في الحياة يتبيّن له أنّه يفوق كلّ المناهج في
ذاته وفي آثاره العملية.
إنّ هذه المعاني حينما تتشرّبها النفوس في حركة دعوية ناجحة فإنّ
من شأنها أن تحدث في نفوس المسلمين اليوم انقلاباً من استشعار
الهوان والدونية إلى استشعار العزّة والاستعلاء، وذلك ما حدث في
صدر الدّعوة حينما انقلب حال المستضعفين في مكة بما أُشربوه من
إيمان من استشعار للهوان إزاء الأسياد من قريش إلى استشعار للقوّة
والاستعلاء والشموخ على أهل الكفر كافّة. وذلك هو أيضاً ما جاء في
البيان القرآني في قوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا
وَأنتُمُ الأَعْلَونَ إِن كُنتُم مُّؤْمنِينَ) (سورة آل عمران/
139) فالإيمان يثمر في النّفس الاستعلاء والعزّة.
ثانياً: الوعي الحضاري:
وذلك بأن يبصّر المسلم بأنّ الأمّة التي ينتمي إليها هي أمّة ساهمت
في البناء الحضاري للإنسانية بقسط وافر من شأنه أن يكون سبباً
للاعتزاز والفخر، وهي أمّة تحمل من القدرة في كلّ زمن ما تستطيع به
أن تساهم في التحضّر الإنساني باستمرار، وإن تعطّل عطاؤها في بعض
الأزمان فإنما ذلك لظروف عارضة ما إن تنقضي حتى تعود إلى العطاء،
وذلك لأنّها تتوفّر في بنائها الدّيني والثقافي على مقوّمات أساسية
للبناء الحضاري، وهي مقومّات ثابتة إذا ما استنهضت فإنه تثمر
الحضارة في كل حين.
كما يمكن أيضاً إحداث هذا الوعي الحضاري من خلال المقارنة بين
الحضارة الإسلامية وبين الحضارات الأخرى بما فيها الحضارة القائمة
الآن، وإبراز المزايا التي كانت عليها الحضارة الإسلامية بإزاء
العيوب والنقائص التي عليها الحضارة الرّاهنة خاصّة فيما يتعلق
بالبعد الإنساني الرّوحي الذي أولته الحضارة الإسلامية أهمية
بالغة، فكان فيها محقّقاً للقدر الكبير من الأمن والأمان في النفس
والمجتمع، بينما أهملته الحضارة الراهنة فكان ما نشهده اليوم من
الخواء الروحي الذي أثمر ثماراً مرّة من الحيرة والقلق واليأس في
النفوس، ومن التسلط والهيمنة والاستبداد والعنف في المجتمع البشري
كما تشهد به حركات الاستعمار القديم والجديد.
ب ـ الوعي الخلافي: إنّ من دواعي قعود الإنسان، وقصوره عن العمل
التعميري، هو عدم وعيه بمهمّته في الحياة وغايته من الوجود، فغياب
ذلك الوعي يجعله تائهاً لا يمضي في طريق بيّن يثمر فيه ما يؤدّي
إلى غاية، ويكتفي إذن بأقل قدر يكفيه لحفظ الوجود، ويسلك في ذلك
أيسر طريق ممكن، وإذا كان الإسلام قد رسم للإنسان غاية واضحة
لحياته، وكلّفه بمهمّة بيّنة يؤدّيها أثناء وجوده، وهي مهمّة
الخلافة في الأرض، فإنّ العامّة من المسلمين اليوم لا يستقرّ في
نفوسهم تصوّر واعٍ لهذه المهمّة، بل هم بين جاهل بها أصلاً، وبين
مختلط عليه شأنها، فلا يعيها الوعي الصحيح، وقلّ منهم من يتصوّرها
على حقيقتها، ويؤمن بها كما هي مطلوبة منه في أوامر الدّين. ولو
افترضت سؤالاً يُلقى على أفراد المسلمين يطلب فيه تحديد غايتهم في
الحياة ومهمتهم فيها لكانت الأجوبة مصدّاقاً لهذا التقرير.
ولمّا كان واقع العموم من المسلمين على هذا النّحو من غيبة الوعي
بغاية الحياة فإنّ سبباً مهمّاً من أسباب الاندفاع إلى العمل
البنّاء قد غاب عن نفوسهم، فإذا هم على نحو ما يُرى من فتور في
المبادرة، وقعود عن النهوض لتحقيق الغاية الخلافية التي كلّفوا بها
بتحقيق التعمير في الأرض بفصوله المختلفة، وغفلة عن أن يدرجوا ما
يبذل من بعض الجهود في إطار تلك الغاية، فإذا هو شتات لا يربطه
رابط، ولا يوحّده سبب يزكو به ويثمر على نحو ما بيّنا سابقاً.
واعتباراَ لذلك فإنّه يكون من أهمّ أسباب نفير المسلمين للانطلاق
في النهوض الحضاري أن يحصل فيهم وعي حقيقي بغاية الحياة التي هم
مكلّفون بتحقيقها، وهي الخلافة في الأرض، بحيث يكون الفرد المسلم
مستشعراً استشعاراً عميقاً أنّ لحياته غاية هو مدعوّ إليها، فإذا
لم يسع إليها بعمل من شأنه أن يحقّقها فإنّ هذه الحياة تذهب هدراً،
ولم يبق لها من قيمة، إذ هي معطلة عن أداء ما من أجله وجدت.
--------------------------
المصدر : عوامل الشهود الحضاري/ ج2