موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

المدرسة التوفيقية (بين النص والعقل)
فيصل العوامي


 
تقف هذه المدرسة في برزخ بين المدرستين النصية والعقلية، فلا تميل إلى الإفراط في تشريك العقل الاستدلالي، وإعطاء العقل ما ليس له من صلاحيات، ولا تقبل بالتفريط في حق العقل، وسلبه ما له من صلاحيات علمية.. وإنما تقول بضرورة الاستفادة من طاقات العقل الجبارة التي سخرها الله سبحانه وتعالى للانسان، ولكن بحدود وضوابط.
ولا شك أن تلك الضوابط والحدود تختلف شدة وضعفاً، وسعة وضيقاً، فيما بين الجهات المختلفة لهذه المدرسة.
ومن أعمدة من أسس لهذه النظرية التوفيقية، وأشبعها بحثاً واستدلالاً، المدارس الأصولية الشيعية والسنية، فإدخال بعض المذاهب السنية لمسلك القياس أو المصالح المرسلة والاستحسان، هو نوع تشريك للعقل في عملية الاستدلال.. وتقنين أهل الأصول الشيعة للمدرك العقلي واعتباره مصدراً من مصادر الاستنباط بالاضافة إلى الكثير من الفروع الأصولية، هو ذاته التشريك العقلي المقصود.
وللنمذجة على هذه النظرية في مستوى الخط العام، يمكن لنا العودة إلى مقولات بعض أرباب المدرسة الأصولية الشيعية، خاصة في بحث التحسين والتقبيح العقليين، ومقدمات دليل الانسداد وحجية ظواهر الكتاب والسنة، ومبحث حجية القطع وغيرها، فإنها تستبطن أهم ما قيل في خصوص مدخلية العقل في عملية الاستدلال.. ومع ذلك فإنه يمكن تشخيص النظرية التوفيقية عند الأصوليين الشيعة من خلال النظر في بحثين أولهما أصلي والآخر فرعي.
فأما الأصلي، فهو ما قيل من كلام حول دليلية العقل، ويكفينا هنا لمعرفة حاق الرأي المتبنّى، النظر في تعريف الدليل العقلي.
فقد عرّفه صاحب القوانين بأنه (حكم عقلي يوصل به إلى الحكم الشرعي، وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي).
وعرّفه صاحب الفصول بأنه (كل حكم عقلي يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي).
كما عرّفه الشيخ المظفر بأنه (كل حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعي، وبعبارة أخرى وكل قضية عقلية يتوصل بها إلى العلم القطعي بالحكم الشرعي).
ومضمون هذه التعاريف أن العقل يمكن أن يكون واسطة في إثبات الحكم الشرعي، ولكن لا بالصورة الاستقلالية كما يُتخيّل للبعض، وإنما بالملازمة، إذ لا يمكن للعقل النظري أن يدرك الأحكام الشرعية بصورة ابتدائية وبلا توسط الملازمة، والسبب في ذلك توقيفية التشريعات الإلهية ولا سبيل لتحصيلها إلا السماع.. وحتى لا يلتبس الأمر على الملاحظ حدد أصحاب هذه المدرسة الوجهة المقصودة من دليل العقل، إذ إن التعاريف السابقة قد يظهر منها ما يشمل الوجهة الاستقلالية والإدراك الابتدائي للعقل، بينما المقصود فقط وجهة الملازمة. ولهذا قالوا في تحديد المقصود من الدليل العقلي بأنه (حكم العقل النظري بالملازمة بين الحكم الثابت شرعاً أو عقلاً، وبين حكم شرعي آخر، كحكمه بالملازمة في مسألة الأجزاء، ومقدمة الواجب، ونحوهما، وكحكمه باستحالة التكليف بلا بيان، اللازم منه حكم الشارع بالبراءة، وكحكمه بتقديم الأهم في مور التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعلية حكم الأهم عند الله).
ذلك في خصوص البحث الأصلي، ويمكن الوقوع على مثله في بعض البحوث الفرعية، كبحث القطع المستند إلى مقدمات عقلية، حيث ذهب أصحاب هذه المدرسة إلى القول بحجيته، خلافاً للمدرسة الأخبارية.
وقد ظهر ذلك المبنى بوضوح في كلمات الشيخ الأنصاري، فإنه أفرد بحثاً لخصوص القطع الحاصل من مقدمات عقلية، وقال في مقدمته وفي سياق تعريضه بالنظرية الأخبارية: (إنك قد عرفت أنه لا فرق فيما يكون العلم فيه كاشفاً حضاً بين أسباب العلم. ويُنسَبُ إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريين عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدمات العقلية القطعية الغير الضرورية، لكثرة وقوع الاشتباه والغلط فيها، فلا يمكن الركون إلى شيء منها.
فإن أرادوا عدم جواز الركون بعد حصول القطع، فلا يُعقَلُ ذلك في مقام اعتبار العلم من حيث الكشف، ولو أمكن الحكمُ بعدم اعتباره لجرى مثله في القطع الحاصل من المقدمات الشرعية طابق النعل بالنعل.
وإن أرادوا عدم جواز الخوض في المطالب العقلية لتحصيل المطالب الشرعية لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها، فلو سُلِّمَ وأُغمِضَ عن المعارضة، لكثرة ما يحصل من الخطأ ي فهم المطالب من الأدلة الشرعية، فله وجه. وحينئذ فلو خاض فيها وحصّل القطع بما لا يوافق الحكم الواقعي لم يُعذَر في ذلك، لتقصيره في مقدمات التحصيل، إلا أن الشأن في ثبوت كثرة الخطأ أزيد مما يقع في فهم المطالب من الأدلة الشرعية).
فهذه المقولات ـ وكثير من أشباهها في متفرقات البحوث ـ تؤسس للنظرية التوفيقية التي تتبناها هذه المدرسة، و التي تتلخص في صحة تشريك العقل في عملية الاستدلال الشرعي، لا على نحو الاستقلال، وإنما بواسطة التلازم، وبشرط التقيد بعدة من الضوابط.
والآن يمكن أن نقف على حقيقة الإشكالية المرتبطة بجدلية العقل والنقل، وهي تتركز في السؤال التالي: (ما هي حدود حرية العقل في التفكير والاستنتاج؟) .. هل صلاحية مطلقة، أم مقيدة، أم لا صلاحية له مطلقاً؟.
إن هذا التساؤل هو جوهر الإشكال الذي كان وما زال يحتدم في الأوساط العلمية، والذي على أساسه تعددت المدارس والمتبنيات.
لكن كيف يمكن معالجة هذا الإشكال، وما هو السبيل لدراسته علمياً؟
حتى نتمكن من دراسة هذا الإشكال، يجب في البدء تشخيص الجذر الذي تؤدي إليه كل الاستدلالات الفرعية.. وأظن أن تلك الاستدلالات تنهي إلى جذر برهاني واحد وهو (الدعوة القرآنية للنظر والتعقل).. فمن وسّع في صلاحيات العقل استند إليها مستفيداً الاطلاق، ومن ضيّق أيضاً استند إليها ولكن بتحديد معناها وتوجيهه إلى خصوص موارد معينة، وهكذا من منع.
لذلك، ومتى نستطيع تحديد موقف علمي واضح في قبال هذه الإشكالية، يجب العودة إلى القرآن الكريم، واستعراض جميع الآيات على التعقل، وتحليلها ضمن مجموعات، والتأمل فيها للخروج بنتيجة واضحة.
فمن خلال استعراض الآيات وتحليلها، نريد الإجابة على أسئلة عديدة، تشكل في مجموعها النظرية القرآنية للعقل والتعقل.. من تلك الأسئلة:
ـ ما معنى التعقل والعقل في القرآن الكريم؟
ـ في أي الموارد ورد الأمر بالتعقل؟
ـ هل تستوعب تلك الموارد النصوص أم لا؟ .. وإذا كان الجواب بالإيجاب فبأي معنى يرتبط العقل بالنص؟
ـ ما الفرق بين التعقل والتفكر والتفقه، وما هي النسبة بين التعقل وكل من التفكر والتفقه؟
ولذلك لابد أن نقوم بإحصاء كل الآيات الداعية للتعقل، وادخالها ضمن مجموعات.. ثم نقوم بنفس العملية بالنسبة للتفقه والتفكر، للنظر في النسبة بينها، ومعرفة مداها الدلالي.
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي