لا بدّ أيضاً من التمييز بين المفاهيم المغلوطة وبين المفاهيم
الضيّقة ، فقد يكون المفهوم صحيحاً لكنّه محصور في زاوية ضيّقة ،
أي أنّ الناس ينظرون إليه من خلال وجه واحد ، أو بعين واحدة ، أو
إلى بُعد واحد من
أبعاده .
ولقد وسّع الاسلام الكثير من مفاهيمه المتعارف عليها ، أو لنقل أ
نّه أعطاها بُعداً جديداً ، أو بُعداً آخر لينقلها من مفهومها
المحدّد بإطار معيّن ، وهو مفهوم صحيح ، إلى مفهوم أكثر شمولية ،
وهو صحيح أيضاً .
فمفهوم (الإسلام) يعني النطق بالشهادتين ، والعمل بأركان الاسلام .
ولكنّ المفهوم اتّسع لأكثر من ذلك فـ «المسلم مَنْ سلم المسلمون من
يده ولسانه» و «مَنْ سمع منادياً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس
بمسلم» و
«ليس منّا مَنْ غشنا» و «مَنْ بات شبعاناً وجاره جائعاً فليس
بمسلم» .
ومن هذه العناوين وغيرها نفهم أنّ الاسلام واسع سعة المجتمع
الاسلاميّ نفسه ، وهو عملٌ وليس قولاً فقط .
وهكذا مفهوم الهجرة ، فالمهاجر هو الذي ينتقل من أرضه إلى أرض أخرى
يجد فيها مأمنه ومعاشه ، ولكنّ الاسلام أعطاه بُعداً آخر فـ
«المهاجر مَنْ هجر السيِّئات» .
وهكذا مفهوم (الزهد) فالمتعارف لدى بعض الناس أنّ الزهد أن تهجر
الحلال وتحرّم الطيِّبات على نفسك فتعيش الرهبانية «ولا رهبانية في
الاسلام» ولكنّ الاسلام يعرّفنا حقيقة الزهد من خلال عدم استشعار
الانشداد لأيّ نعمة «ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكنّ الزهد أن لا
يملكك شيء» . أو أن يقول لك : «جمع الزهد في كلمتين ، أن لا تحزن
على ما فاتك ولا تفرح بما أتاك» . فقد يكون لديك ملك سليمان (عليه
السلام)
وهو ملك لا ينبغي لأحد ، ولكنّك تعيش الإنقياد والعبودية لله تعالى
لا إلى ملك زائل ونعيم يبلى ويفنى ، وحتى لو فقدته لما عشت الحسرة
والندامة واليأس والألم ، فقد يعوضك الله خيراً منه في دار الخلود
.
فلا بدّ لنا كشبّان وكفتيات أن نتعلّم أبعاد المفاهيم الاسلامية ،
وأن لا نضيّق المفاهيم الواسعة ، فما من مفهوم إسلاميّ إلاّ وله
آفاق عديدة .
فمفهوم (الجهاد) يعني مقارعة العدو ومقاومته وعدم الاستسلام له ،
وانزال الهزيمة به ، لكنّه يعني أيضاً مجاهدة النفس ومكافحة عيوبها
وسيِّئاتها ، مثلما يعني بذل الجهد لتطوير الحياة ودفعها إلى
الأمام وتنمية
الإمكانات والممكنات لتحقيق النهضة والإزدهار .
ومفهوم (العبادة) يعني القيام بالفرائض من صلاة وصيام وحجّ وأداء
للحقوق الشرعية ، لكنّه أوسع إطاراً من ذلك ، فهو من السعة بحيث
يشمل كلّ عمل يتقرّب به الانسان إلى الله حتى ولو كان كلمة طيِّبة
، أو رفعاً
للأذى عن طريق المسلمين ، أو برّاً بالوالدين ، أو تعاوناً مع
الأصدقاء على البرّ والتقوى ، أو صوتاً في انتخابات تقوّي جماعة
المسلمين ، أو معالجة لمريض بالدواء وبالكلمة الحانية المؤمّلة ،
أو التخفيف من معاناة
إنسان ، أو تأليف كتاب ينتفع به الناس ، أو قطع الطريق على إشاعة
مغرضة ، أو ردّ غيبة تنال من مؤمن ، أو النهي عن منكر يستمرئه
البعض ، فكلّ معروف تدعو إليه أو تعمله ، وكل منكر تنهى وتبتعد عنه
،
فهو من العبادة التي سعتها سعة الحياة ذاتها .
ولذلك فمن الخطأ حصر المفاهيم في أطر ضيّقة أو تحجيمها في دلالات
معيّنة ، أو النظر إليها من زاوية واحدة فقط .
ولقد جرت العادة في النظر إلى العلاقة العاطفية بين الشاب والفتاة
على اعتبارها حبّاً ، وهي حبّ ولا شك ، لأنّ أيّة حالة ميل نفسي
وعقلي وجسدي لأيّ شيء ولأيّ شخص هي حالة حبّ .
لكنّ الحب لا ينطبق على العلاقة بين الجنسين فقط ، فأنت تحبّ
والديك وتحبّ إخوانك وتحبّ أقرباءك وتحبّ أصدقاءك وتحبّ معلميك
وتحبّ الانسان الذي تجمعك به بعض المشتركات حتى وإن كنت لا تعرفه
معرفة شخصية ، وتحبّ إسلامك وتعمل له بوحي من هذا الحبّ ، وتحبّ
الله ربّك لأ نّه يتغمدك برحمته ويغذيك بلطفه ويهديك إلى ما فيه
خيرك وسعادتك ، وتحبّ كلّ مَنْ يحبّ الله ، وكل عمل يقرّبك من الله
.
فدوائر الحبّ واسعة ، ويجب أن ننفتح عليها جميعاً ، لأنّ في قلوبنا
وصدورنا من الحبّ ما هو أكبر من حبّ الجنس الآخر ، إنّه حب الاسلام
الذي جعلنا نحبّ الناس إمّا لأ نّهم إخوة في الدين أو إخوة في
الانسانية .
المصدر : البلاغ