لو نستقرئ جميع فصول الخطاب الديني، بما فيها مرتكزات ومباني
المتشرعة ـ التي هي بدورها ترجمة لحقيقة النداءات النصية المعصومة،
يتضح لنا من خلال العديد من التصريحات والقرائن، أن الدين رفض
التقليد رفضاً جازماً، ولم يرتضه طريقاً لا على مستوى العقل ولا
الروح ولا الأفعال، وما يعني ذلك إلا الرفض المطلق .. لكن كيف
نستكشف هذا الأمر، وبمعنى ما هي تلك القرائن والتصريحات المقصودة؟
إن الاستقراء ذاك يضعنا أمام حقائق خمس، إذا ضممناها مع بعضها ـ
وإن كانت واحدة منها تكفي دليلاً، اهتدينا إلى الحقيقة الأم
المتمثلة في مبغوضية التقليد .. وهي:
1 ـ الدعوة المستمرة للتفكير:
فقد تعددت الآيات القرآنية المباركة التي تدفع المؤمن وغير المؤمن
أيضاً للتفكير .. فمثلاً قوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً
وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض..) آل عمران/
181.
دفع للمؤمن كي يمارس عملية التفكير في آيات الله سبحانه وتعالى ..
فالنداء فيها خاص بالمؤمن ولا علاقة له بغيره ـ وإن أمكن تشميله
لغير المؤمن لوحدة المناط في هذا الموضوع، المتمثل في طريقية
التفكير إلى
الهداية واكتشاف القدرة الإلهية، وهو أمر لا يختص بالمؤمن وإنما
يتعداه إلى غيره لإطلاق الأمر بالعبادة.
وأما قوله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى
ثم تتفكروا وما بصاحبكم من جنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب
شديد) سبأ/ 46.
فالخطاب الصريح فيه متوجه إلى غير المؤمن المعتقد، بأن يتفكر في
القدرات الحقيقية للرسول (ص)، المعبرة عن وحي وصلة خاصة مع الله جل
وعلا، كيما يهتدي إلى الله سبحانه. وإن كان يمكن استيعاب هذا
الخطاب للمؤمن أيضاً إما للتأكيد أو للاستئناس، ولا بالفحوى، فحتى
المؤمن ينبغي له الاطمئنان إلى صحة دعوى الرسول (ص) وأنه ينبئ
فعلاً عن إله سبحانه وتعالى.
فالدين دعانا جميعاً، بني الانسان، للتفكير، ولم يأمرنا باعتماد
منهج لآخر من أمثالنا، بالذات في مثل هذه الموضوعات ..
2 ـ تمجيد العقل والتعقل:
فمن جهة أرشدتنا الآيات والروايات إلى هذه القوة المهمة عند
الانسان وهي قوة العقل وأشعرتنا بالقدرة على تعقل الموجودات به.
يقول تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة..)
المؤمنون/ 78.
(وما يذكر إلا أولوا الألباب) البقرة/ 269.
وقال رسول الله (ص): (أول ما خلق الله العقل).
فكل ذلك إشعار للانسان وتنبيه له بوجود قوة مفكرة في داخله، قادرة
على التعقل والاستنتاج .. وذلك واضح في قوله تعالى: (كذلك يبين
الله لكم آياته لعلكم تعقلون) البقرة/ 242.
فـ(لعلكم تعقلون) إشعار ضمني بوجود قوة حقيقية (العقل) وراء الفعل
(تعقلون)، وإشعار ظاهر بأن العقل يمكنه الاستنتاج والتحليل.
و(ما يذكر) إشعار بأن العقل لديه قدرة على استخلاص العِبَر.
كما أن في الآيات تنبيهاً خفياً، حول كيفية الاهتداء إلى العقل ..
فإذا كانت النصوص الدينية تهدينا إلى العقل، فكيف يمكننا معرفة
العقل وتعقله، هل هناك واسطة أخرى بين النص المهدي والعقل المهدى
إليه؟
الواسطة هو العقل نفسه، فهو الذي يعرف نفسه ويستدل على ذاته ..
وذلك أن العقل هو آية من آيات الله سبحانه وتعالى التي أمرنا بأن
نتعقلها في الآية المباركة ..
فإذا كان العقل قادراً على تعقل كل الموجودات الظاهرية بالملامسة،
والباطنية من خلال ظواهرها، فكيف لا يستطيع الاهتداء إلى ذاته من
خلال مظاهرها كالتحليل والاستنتاج؟! .. ويمكن أن نستعين لإيضاح ذلك
بمثال (المصباح) الذي ساقه السيد محمد تقي المدرسي في قوله: (الاسلام
بدأ يذكر الانسان بعقله يتخذه مصباحاً يكشف به غيب الحياة، وتماماً
كما أن كل شيء في البيت المظلم ينكشف بالمصباح إلا أن المصباح ذاته
لا يعرف إلا بنفسه بعد التوجه إليه، فإن الاسلام يعتبر العقل أول
ما يعرف. بيد أن معرفته لن تكون إلا بذاته، إذ إن الانسان كيف يكشف
العقل وهو لا يملكه؟ بل كيف يكون العقل كاشفاً للانسان عن كل شيء
ولا
يكون كاشفاً عن ذاته).
إذاً فمن الجهة الأولى نبهنا النص الديني إلى وجود هذه القوة
العاقلة عند الانسان، وأنها يمكن أن تعقل حتى ذاتها ..
وأما من الجهة الثانية فقد أكثر ذلك النص من الإطراء على العقل
ذاتاً، وعلى عمله المتمثل في التفكير والتعقل ..
يقول الإمام علي (ع): (العقل أفضل موجود، والجهل أنكى عدو).
ذلك في خصوص العقل ذاتاً، وأما فيما يتصل بعمله فنصوص كثيرة،
أبرزها ما ورد في قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)
الرعد/ 4.
وفي ذلك دفع صريح نحو التعقل والاستنتاج وربط النتائج بأسبابها ..
ولا شك أن كل ذلك مطلوب من الانسان على نحو الاستقلال لا التبعية.
3 ـ تمجيد العلم والعلماء:
لماذا مجّد الدين العلم وحامله .. لماذا رفع الدينُ العالمَ إلى
تلك المرتبة العليا؟
الدافع الجذري يتلخص في أن العالم يحتضن في داخله عقلاً نيراً،
يستطيع أن يستخدمه مستقلاً ليهتدي به إلى الحق .. وهذا ما يحلل لنا
العديد من الآيات القرآنية الواردة في ضمن هذا السياق، كقوله
تعالى: (ويرى
الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ..) سبأ/ 6.
فالمؤدى الظاهر في هذه الآية هو الاهتداء إلى الحق من قبل العالم،
فالعالم لأنه عالم تمكن من معرفة الحق والاهتداء إليه .. لكن الآية
تستبطن أمراً آخراً من خلال إظهار المؤدى، وهو تمجيد العقل
والتعقل، لهذا قال
الباري سبحانه التوصل إلى المؤدى .. ولأن المؤدى حسن بل عظيم،
فلابد أن يكون السبب (التعقل) أمراً مرغوباً.
بهذا يتضح لنا أن تمجيد العالم راجع إلى قدرته على الاستفادة من
تلك القوة العاقلة عنده، القادرة على التفهم والاهتداء إلى الحق،
بصورة مستقلة غير تابعة لأي قوة أخرى مساوية لها.
4 ـ الرفض الصريح للتقليد:
قد يجد الباحث مخرجاً في بعض الأحيان للفرار من الإلزام، إذا لم
يظفر بنص صريح يثبت أو ينفي المدعى .. أما إذا وجد النص الصريح
فيصعب عليه الفرار .. وهذا تماماً ما نحن في دائرته .. فإن التصريح
برفض التقليد بل والاطلاق فيه حيث لم يقيد بحال بقرينة أو استثناء
متصل يقطع كافة الأعذار على الباحث ..
وهذا ما دفعني للتنويه في صدر البحث، بأن واحدة فقط من هذه الحقائق
المساقة كافية في إثبات المدعى، وقد عنيت بها هذه الحقيقة ـ ولكني
سقتها متأخرة لتكون حلقة في سياقها الطبيعي الذي يبتني على جمود
العقل
المشكل لنفس الخلفية التي ينضوي تحتها مدح العلم والعقل والفكر،
وذم التقليد والتبعية.
إن الآيات المباركة والروايات صريحة جداً في إثبات المبغوضية
للتقليد، وليس ذاك فحسب وإنما قد يستفاد منها الحرمة الشرعية من
جهة مقدمية، حيث إن التقليد يكون بطبيعته مقدمة للحرام، لأنه سبب
للكفر بالله
سبحانه وعدم التصديق بالرسل، كما يظهر من الآيات المباركة، فيكون
بذلك التقليد محرماً على نحو الغيرية, وإن قال البعض بنفسية أيضاً
في مثل هذه الحال.
من جملة تلك الآيات .. قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما
أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان
آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) المائدة/ 104.
(وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا
وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) الزخرف/ 23.
ففي هذه الآيات رفض صريح لحالة التقليد، وإشارة ضمنية إلى أن
التقليد سبب لكثير من أخطاء الانسان العظمى وعلى رأسها الكفر بالله
العظيم سبحانه وتعالى .. حيث إن الآيات في صدد ذم تلك الأقوام لعدم
استجابتها لنداءات رسلها، وعدم تسليمها لقيم الوحي، ولكنها في سياق
هذا الذم كشفت عن سبب ذلك الخطأ، ولم يكن ذلك الخطأ إلا التقليد.
فلأن التقليد غالباً ما يكون علّة لتراكم الأخطاء الشخصية
والاجتماعية، فقد صرحت الآيات برفضه، حتى جاءت الروايات لتشكل حلقة
في سلسلة الرفض تلك .. بحيث إنك قلّما تجد معصوماً لم ينبه مجتمعه
إلى حقيقة
هذه المشكلة ..
فقد ورد عن حذيفة بن اليمان إنه قال: قال رسول الله (ص): لا تكونوا
إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسناً، وأن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا
أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا).
كما ورد عن الثمالي قال: قال أبو عبدالله الصادق (ع): إياك
والرئاسة، وإياك أن تطأ أعقاب الرجال.
فقلت: جعلت فداك، أما الرئاسة فقد عرفتها، وأما أن أطأ أعقاب
الرجال، فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال؟!
فقال: ليس حيث تذهب، إياك أن تنصب رجلاً دون الحجة فتصدقه في كل ما
قال.
فالآيات والروايات من جهة رفضته رفضاً صريحاً من خلال التنديد
بالأقوام الذين أجابوا على رسلهم بقولهم (حسبنا ما وجدنا عليه
آباءنا)، ومن جهة اعتبرته سبباً لحدوث أخطر الأخطاء والانحرافات
على المستويين
الفردي والاجتماعي، باعتبار أن الآيات جاءت في سياق التنديد بخيار
الكفر الذي أصر عليه بعض الأقوام اعتماداً على معتقدات أسلافهم.
5 ـ الرفض المستبطن للتقليد:
ففي بعض الحالات تتجه النصوص الشرعية للتعريض ببعض الصور السلبية،
فردية كانت أم اجتماعية، وعند التأمل في حقيقة ذلك التعريض يتضح أن
وراءه إشارة لها علاقة بحالة التقليد عند الانسان .. وهذا من
نوع الرفض وإن كان خفياً.
فلو تأملنا في قوله تعالى: (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو
إلا نذير مبين) الأعراف/ 184.
فإننا سنجد رفضاً ضمنياً لحالة التقليد .. وذلك أن الآية المباركة
شنعت على الحالة السلبية عند ذلك المجتمع المتمثلة في عدم إعمال
العقل وعدم التفكير، ومقتضى ذلك التشنيعُ على التقليد، لأن عدم
التفكير إما إنه يدل
على تقليد الغير في متبنياته، أو أنه بطبيعته يؤدي إلى اتباع
الآخرين وتقليدهم .. بسبب أن الانسان لا يسعه إلا اعتماد بعض
الأفكار والمسلمات في حياته، كما قال أمير المؤمنين (ع): (ما من
حركة إلا وأنت محتاج
فيها إلى فكرة) .. فإذا لم يفكر هو بذاته وينتج أفكاره، فإنه سيضطر
إلى مجاراة الآخرين في أفكارهم ..
لهذا فإن المجاهرة بالتنديد بحالة التجمد في حركة الفكر، تستتبع
تنديداً ورفضاً لحالة التقليد والتبعية للغير.
ومَن يتصفح النصوص الشرعية بكل أقسامها، يبصر العديد من المواقف
الرافضة المشابهة لهذا الموقف، والتي يظهر منها جميعاً رفضاً
مستبطناً لحالة التقليد.
فهذه الحقائق الخمس الصغرى عندما نضمها لبعضها البعض، نقف على
حقيقة كبرى مؤداها مبغوضية التقليد في الفكر الديني.
ولأن التقليد هذا هو شأنه، فإن الدين لم يصح منه إلا ما دخل تحت
قاعدة الضرورة الثانوية .. وذلك يجعلنا نقرر أن مبغوضية بل حرمة في
بعض الصور التقليد حكم أولي في الشريعة الاسلامية، ولكن لوجود بعض
الظروف القهرية، أجاز الدين بعضاً من صور التقليد المختصرة
والمحدودة في بعض الجوانب، لا بصورة مطلقة.
فالتدين بالأحكام الشرعية وامتثالها فعلاً واجب شرعي .. وحيث إن
غالبية العامة من الناس لا يتمكنون عادة من تشخيص الحكم الشرعي على
وجهه الصحيح، فقد أجاز الدين للانسان بأن يقلد غيره ممن لديه
الاستعداد
لتشخيص تلك الأحكام ..
ويلاحظ هنا أن الدين لم يوجب على نحو الحصر التقليد على مثل هؤلاء،
وإنما أجاز لهم ذلك، وفي نفس الوقت فتح لهم خيارات أخرى كالاحتياط
في العمل بالأحكام، وهو وإن كان يستلزم الوقوع في العسر والحرج
في بعض صوره التطبيقية، إلا أنه مع ذلك يبقى خياراً، من شأنه تضييق
دوائر الاتباع والتقليد. ومع ذلك، مع أن الدين سمح بالتقليد في ثمل
هذه الحالة الخاصة التي تشملها قاعدة الضرورة، فإن الدين ضيق
الدائرة
كثيراً جداً للتضرر من الوقوع في خطر التقليد، وذلك بسن شروط عدة
منها:
أ ـ الاقتصار على الأحكام الشرعية الفرعية، دون الموضوعات والأصول
الاعتقادية. وذلك لتضييق الخناق على التقليد قدر الامكان والقضاء
على مبرراته، فالمجال الذي يصح للانسان المقلد الاتباع فيه، خصوصاً
الأحكام الشرعية من الوجوب والحرمة وغيرها، أما تحديد موضوعات تلك
الأحكام فلا تشملها أدلة التقليد ..
فمثلاً .. قال علي بن المسيب الهمداني للإمام الرضا (ع): (شقتي
بعيدة ولست أصلُ إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال (ع): من
زكريا بن آدم القمي، المأمون على الدين والدنيا).
فمعالم الدين الوارد ذكرها في الرواية، عبارة عن الأحكام الفرعية،
من وجوب الخمس فيما زاد على المؤونة السنوية، وحرمة شرب النبيذ ـ
مثلاً ـ ، أما تحديد المؤونة السنوية لهذا وهذا، أو تحديد أن هذا
الشراب نبيذ
أو لا، فإنه ليس من اختصاصات المجتهد الذي يُرجع إليه، وإنما هو من
اختصاصات الانسان نفسه. ولهذا فإنه يُعاب على مَن يعود في مثل هذه
القضايا إلى المجتهد يستفتيه فيها.
وأما الأصول الاعتقادية فلا تشملها أيضاً أدلة التقليد.
ب ـ الاستناد إلى عينات مخصوصة جداً .. فلا يجوز تقليد أي شخص كان،
وإنما لابد من توفر مجموعة من الشروط العقلية والروحية فيه حتى يصح
الرجوع إليه في الأحكام، كالعلم والعدالة.
ومستندنا في ذلك روايات عديدة:
منها: ما ورد عن الإمام العسكري (ع) في قوله تعالى: (فويل للذين
يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) .. قال رجل
للصادق (ع): فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا
بما يسمعونه من
علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من
علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم؟!
فقال (ع): بين عوامنا وعلمائنا، وعوام اليهود وعلمائهم، فرق من جهة
وتسوية من جهة.
أما من حيث استووا: فإن الله قد ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما
ذمّ عوامهم، وأما من حيث افترقوا فلا.
قال: بيّن لي يا ابن رسول الله!
قال (ع): إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح،
وبأكل الحرام والرشاء، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات
والعنايات والمصانعات، وعرفهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به
أديانهم، وأنهم
إذا تعصبوا أزالوا حقوق مَن تعصبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقه من
تعصبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون
المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو
فاسق
لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله،
فلذلك دمهم لما قلدوا من قد عرفوه، ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول
خبره لوا تصديقه في حكايته ..
وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقائهم الفسق الظاهر، والعصبية
الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها .. فمن قلد من عوامنا
مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسق
فقهاهم.
فأما مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على
هواه مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض
فقهاء الشيعة لا جميعهم .. ).
فمثل هذه الشروط العقلية والروحية، تضيق دائرة التقليد المسموح
للانسان ..
إذاً فلا تقليد في الأصول، ولا في الموضوعات .. ولا تبعية غلا لمن
توفرت فيه عناصر إيجابية كثيرة وشديدة .. كل هذا معناه حصر التقليد
في حدود ضيقة ..
ولا يخفى أن ما دفع الفئة المحدثة ـ الإخباريون الشيعة ـ لخوض صراع
فكري طويل مع الأصوليين، يعود في أحد جهاته إلى تعمق هذه الخلفية
الدينية عندهم، فهم يؤكدون على أن تشديد الدين على رفض كل صور
التقليد، يؤدي بالنتيجة إلى عدم صحة اعتماده حتى في مجال تشخيص
الأحكام الشرعية.
المصدر : عن ثقافة النهضة