موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

التوكل على الله
د. محامي منير الشواف



لقد فهم المسلمون الأوائل حقيقة التوكل على الله حق الفهم وتوكَّلوا على الله حق التوكّل ولذلك قاموا بعظائم الامور واقتحموا أشد الصعاب، بخلاف مسلمي العصور الحديثة الذين طغت على أنفسهم المادة وأُصيبوا
بقصر النظر وضعف الفهم وبَعِدوا عن فهم حقيقة التوكل فصار التوكل مجرد كلمة جوفاء لا واقع لها في حياتهم ولا في أذهانهم. وقد ساعد على هذا ما انصبَّ عليه تفكير بعض أهل العلم من تفسير التوكل بأنه الأخذ
بالأسباب وصارت حين تُطلق كلمة التوكل يُراد بها فوراً ما جاء في الحديث الشريف (إعقلها وتوكل..) رواه الترمذي. وصار الحديث يُستعمل لإضعاف معنى التوكل في النفوس لا لدفع ما يُتوهَّم من التوكل بأنه ترك
الأخذ بالأسباب، فكان من نتيجة ذلك أن انحطَّت الحياة، وصار المسلمون يحسون بالعجز ويعتقدون أن قدرتهم محدودة النظرة، وأنهم لا يستطيعون إلاّ ما استطاعوا تحقيقه. وبتبني مثل هذه النظرة المثبطة لن يرجع
المسلمون الى اقتعاد ذرى المجد والاندفاع في الحياة لتحقيق عظائم الأمور التي لا يمكن أن يحققها الرجال إذا حدّوا قدرتهم بقواهم الإنسانية وحدها، لأن هذه القوى الإنسانية إذا نظر الإنسان إليها وحدها وعمل بمقدار
نظرته هذه قصرت باعه حتى عن تحقيق الأمور العادية فضلاً عن الأمور غير العادية. ولكن إذا آمن الناس أن هناك قوى وراء الإنسان تساعده على تحقيق طلباته فإنه ولا شكَّ يندفع إلى ما هو أكبر من قوته معتمداً
على تلك القوى.
وقوى الإنسان إذا نظر إليها وحدها وجدها محدودة، فيحدّ بها أعماله وطموحاته، ولكنه إذا نظر إليها نظرة أوسع فإنه يجد أنه لا سقف لها، فالإنسان بإمكانه تحقيق عظائم الأمور والقيام بما لا يُتصوَّر إمكانه قبل القيام
به، فقدرته هائلة إذا اعتقد أن هناك قوة وراء قواه تساعده على تحقيق ما يسعى إليه. وحتى الذين لا يؤمنون بالله ولا يتوكَّلون عليه يؤمنون بأن هناك قوة وراء قواهم، يفسرونها بالقوى المعنوية أو بالطبيعية وبغير
ذلك، ويقدمون على عظائم الأمور. فكيف حال مَن يؤمن بالله عن دليل قاطع، ويصدّق بوجود الله تصديقاً جازماً مطابقاً للواقع عن دليل، فإنه لا شكَّ يحقق بتوكله على الله أضعاف أضعاف ما يحققه غير المسلم.
ومن هنا كان التوكل على الله من أعظم مقومات الأُمّة الإسلامية ومن أهم أفكار الإسلام. والتوكل على الله ثابت بنصّ القرآن القطعي في الآيات التالية قال تعالى: (إن يَنصُركُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لكُم وإن يَخذُلكُم فَمَن ذا
الذي يَنصُرُكُم مِن بعده وعلى اللهِ فليتوكّلِ المؤمنون) (آل عمران/ 160). (فإذا عَزَمت فَتَوكَّل على اللهِ إنَّ اللهَ يُحبُّ المتوكّلينَ) (آل عمران/ 159). (قُل لَّن يصيبنآ إلاّ ما كَتَبَ اللهُ لنا هُوَ مَولانا وعلى اللهِ فليتَوكَّل
المؤمنونَ). (التوبة/ 51). (فإن تَوَلَّوا فَقُل حَسبي اللهُ لا إلهَ إلاّ هو عليهِ توَكلتُ وهوَ رَبُّ العرشِ العظيم). (التوبة/ 129)، (إنّما المؤمنونَ الّذين إذا ذُكرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وإذا تُليت عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى رَبِهِم
يتوكَّلون) (الأنفال/ 2). (وللهِ غَيبُ السَّمواتِ والأرضِ وإليهِ يُرجَعُ الأمرُ كُلُّه فاعبدهُ وَتَوَكَّل عليهِ وَما رَبُّك بغافلٍ عَمّا تَعمَلون) (هود/ 123)، (وَتَوَكَّل على الحيّ الَّذي لا يَمُوتَ وَسَبح بِحَمده) (الفرقان/ 58).
فهذه الآيات قطعية الدلالة على وجوب التوكل على الله ففيها أمر صريح بالتوكل على الله، واقترنت بقرينة تدّل على الجزم، وهي مدحه تعالى للمتوكلين وحبه لهم.
ولقد وَرَدت أحاديث كثيرة كذلك وصريحة في الدلالة على التوكل. روى البخاري عن ابن عباس أن النبي (ص) قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون،
وعلى ربهم يتوكلون". وروى أحمد والترمذي أن النبي (ص) قال "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتعود بطاناً". فهذه الأدلة لا تدع مجالاً لمسلم أن يتردد في التوكل لحظة
واحدة لأنها أدلة صريحة، لا سيما وأن آيات القرآن أدلة قطعية يُكَفَّر منكرها مما يجعل التوكل على الله أمراً من أوجب الواجبات على المسلمين. وطلب التوكل على الله في هذه الأدلة كلها لم يأتِ مقروناً بشرط ولا
مشروطاً فيه عمل من الاعمال. بل جاءت الأدلّة مطلقة في طلب التوكل، فيكون الواجب هو التوكل على الله بشكل مطلق في كل أمر من الأمور، وفي كل عمل من الأعمال. فالادلّة تدلّ على أنه حين نعزم على أمر
ما أو نقوم بعمل ما، يجب أن نتوكَّل على الله، ولا تدل على غير ذلك، ولا يوجد دليل آخر يقيدها بأي قيد بل هي مطلقة فالتوكل على الله واجب على كل مسلم وجوباً مطلقاً دون أي قيد أو شرط. وأما حديث "إعقلها
وتوكل" فإنه ليس قيداً لهذه الآيات والأحاديث ولا بياناً لها، فإنها غير مجملة حتى تحتاج إلى بيان، وإنما جاء هذا الحديث في موضوع آخر هو الاخذ بالأسباب والمسببات. فهو تعليم لأعرابي حين فهم أن التوكل يعني
ترك الأخذ بالأسباب والمسببات. فعلَّمه الرسول أن التوكل لا يعني ترك الأسباب والمسببات. فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام للإعرابي لم يأتِ ناسخاً لأدلَّة الأخذ بالأسباب والمسببات، بل هو موضوع آخر غيرها،
فهو أمر بالاخذ بالأسباب والمسببات مع التوكل وتبيان أن التوكل لا ينفي الاخذ بالأسباب والمسببات. ولهذا لم يكن هذا الحديث قيداً لأدلَّة التوكل بأي وجه من الوجوه. فالتوكل على الله واجب بغضّ النظر عن
الأسباب والمسببات. ومسألة الأخذ بالأسباب والمسببات مسألة اخرى غير مسألة التوكل وأدلتها غير أدلة التوكل فلا يصحّ أن تُحشّر معه أو تكون مقيدة له. فكما يجب على المسلمين أن يأخذوا بالأسباب والمسببات
كما ثبت ذلك بالأدلّة الشرعية كذلك يجب عليهم أن يتوكّلوا على الله تعالى كما ثبت بالأدلة الشرعية ولا يقيد أحد هذين الأمرين الآخر بأي شرط أو قيد ولهذا يجب على المسلمين أن يتوكلوا على الله توكلاً مطلقاً ومَن
لم يتوكَّل على الله فهو آثمٌ. ومع أنه لا يوجد في المسلمين من المؤمنين بالإسلام مَن ينكر التوكل فإن جمهرتهم تفهم التوكل فهماً مغلوطاً، تفهمه على أساس (اعمل وتوكل)، ولكنه في حقيقته ليس كذلك بل هو (توكّل
واعمل)، وهناك فرق شاسع بين هذين الفهمَين. فمفهوم (اعمل وتوكل) يجعل التوكل أمراً شكليّاً ثانوياً لا أثر له في نفس العامل الذي يزعم أنه توكل، ولكن مفهوم (توكّل واعمل) يجعل التوكل أساساً فيكون له في
النفس الأثر الكبير ويبثُّ فيها قوة غير عادية قادرة على الاضطلاع بالمهام العظام. فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل إعقلها ثمَّ توكل بل قال إعقلها وتوكّل وإن الواو هنا لا تفيد الترتيب فلو قال (ثمَّ توكل) لأفادت
الترتيب والأولوية، ولذلك فإن التوكل على الله يجب أن يكون سابقاً لفعل العبد ومصاحباً له ومستمراً بعده، مع وجوب الأخذ بالأسباب والمسببات. فالفلاح المؤمن يتوكّل على الله قبل الحرث والبذر، ويتوكّل على الله
وهو يفلح ويبذر، ويتوكّل على الله عندما يجني الثمار. فالتوكل على الله من أساسيات العقيدة عند المسلم لأنه يؤمن بأن الله هو الذي ينبت الزرع أو يمحل الأرض، وهو الذي ينزل الغيث من السماء والصواعق وما
إلى ذلك، فهو يحمد الله في السراء والضراء ويتوكّل عليه دائماً، ويربط الأسباب بالمسببات كحكم شرعي واجب، وبنفس الوقت يتلقى النتائج برضى سواء حدثت النتيجة التي بذل من أجلها العمل أم لم تحدث لأنه لا
يعلم أين الخير بعد أن بذل الوسع (وعسى أن تَكرَهُوا شيئاً وهوَ خيرٌ لَكُم وعسى أن تُحِبوا شيئاً وهُوَ شَرٌ لكُم) (البقرة/ 216). وبذلك نكون قد فرقنا بين التوكّل الذي يصاحبه بذل الوسع والذي هو عامل من عوامل
إنهاض الأمة، وبين التواكل الغيبي الذي هو عامل من عوامل انحطاط الأمم واندثارها.
------------------------------------
المصدر : تهافت القراءة المعاصرة

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي