موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

الاجتهاد واجب وعصمة الأمة ضَمَانُهُ
سعيد بنسعيد العلوي



نظرا لمحدوديه النصوص والاجماع وديمومه الوقائع فإنه لابد من إعمال العقل والنظر في القضايا والحوادث الطارئة التي تعرض للفرد المسلم، أو لجماعة المسلمين، بغية إيجاد الحلول الدينية لها وتقديم الأجوبة
الشرعية عليها؛ حيث لم يثبت ورود نص صريح من كتاب أو قول للنبي أو فعل منه (أو ما في معناه)، ولم يحصل إجماع. وبعبارة أخرى، إذا كانت للحياة سنتها من التبدل والتحول، وكان ينتج عن ذلك تغير في
صور العلاقات بين الناس وتحول في نمط وجودهم، فإنه لابد للدين من تقديم الأجوبة الملائمة التي يطرحها هذا التغير والتبدل، ذلك أن صلب العقيدة هو التسليم بملاءمة الدين للحياة في تبدلها وقدرته على تلك
المواكبة. وإعمال العقل الفقهي، من أجل هذه الغاية، هو "الاجتهاد". والفئة أو الأشخاص المعنيون (وحدهم دون غيرهم) بهذا الإعمال للعقل والمطالبون باستخلاص الحكم الشرعي في المستجدات التي يطرحها
الوجود الاجتماعي للبشر هم "المجتهدون". وإذ كنا نقول، ونكرر القول، إن الجهل بالأولويات ينتج عنه في حياتنا الإسلامية ما نراه من تخبط وتشوش في سلوكنا وممارساتنا الاجتماعية، بل ومن قلق واضطراب في
حياتنا الروحية، فإن فهم معنى "الاجتهاد" من جانب أول، وإدراك من هم "المجتهدون" من جانب ثان، يدخل في عداد تلك الحقائق الأولى التي لا يصح الجهل بها.
يُقرر علماء الأصول أن الاجتهاد هو الأصل الرابع من أصول أدلة الأحكام التي تشكل أصول التشريع الإسلامي. أو لنقل أيضاً إذا شئنا، سعياً لتقريب الفهم بلغة حديثة، إنها "روح القوانين" الإسلامية، ويذكرون في
تعريف الاجتهاد أنه "عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلا في ما فيه كلفة وجهد فيقال: اجتهد في حمل الرحى، ولا يقال اجتهد في حمل خردلة". والمعني بالقول، المطالب
ببذل المجهود، هو (حسب مبدأ التميز بين "الخاصة" و"العامة") من أهل الخاصة، والجهد المطلوب كبير لأن ممارسة الاجتهاد تقتضي معرفة ثقيلة وتتطلب مراعاة شروط شاقة مضنية؛ ذلك أن "الاجتهاد" يأتي في
نظام المعرفة الدينية في الإسلام، تتويجاً لتلك المعرفة وإجادة لها. ودون أن نخوض في الشروط التي يلزم توافرها في المجتهد، ودون أن نغوص في تفاصيل علم أصول الفقه ولغته وتقنياته، نذكر بعضاً مما يستدعيه
من علم، فنجد أنه الإحاطة بكتاب الله تعالى (معرفة أسباب النزول، الناسخ والمنسوخ، الأحكام..)، وبالسنة النبوية ثانياً (الأخبار، متواترها وآحادها، مصطلح الحديث، التعديل والتجريح في الرواة، أفعال النبي
الكريم، وما سكت عنه..) فمعرفة ما كان موقع إجماع من المتقدمين ومواطن الاختلاف بينهم في تفسير بعض آيات الأحكام والسنة. ثم إن الاجتهاد يقتضي، مع هذا كله، إتقاناً لعلوم اللغة العربية وآدابها، واطلاعاً على
تاريخ الإسلام وما قضى به السابقون في أحوال مماثلة من آراء وأحكام. وهذا كله مع القدرة على إعمال القياس، والتعليل والترجيح بين قولين أو موقفين، كلاهما جائز أو ممكن في القضية الواحدة.
الاجتهاد إفتاء شرعي في حالة جديدة تعرض على "المفتي"، ولا يعرف لها مثل أو شبيه في أحوال متقدمة، ثم فيها إقرار حكم شرعي بالنظر إلى تبدل الأزمنة والأحوال وحصول الجديد باستمرار، لذلك فإن المفتي
يكون، في أحوال غالبة، في حاجة إلى استشارة "الخبراء" بالشؤون التجارية والمهنية الاقتصادية المختلفة، ولا تكون الفتوى مكتملة لشروط الصحة إلا متى كانت تتوسل في الفهم، قبل إصدار الحكم،، بآراء أولئك
الخبراء. ثم إن في الاجتهاد احتمالاً للتوفيق والإصابة، فتكون الفتوى الصادرة عن إعمال العقل الفقهي مستكملة لشروط الصحة متوافقة مع ما يريده الشرع، كما أن في الاجتهاد احتمالاً للفشل والخطأ. ولما كان
الاجتهاد يعني في الحالين معاً، بذل جهد مضن من صاحبه (شبهه علماء الأصول بالجهد الذي يبذله من يحمل فردة رحى، كناية عن الشيء الثقيل الوزن)، فقد كان صاحبه مأجوراً وكان للمجتهد المصيب أجران اثنان
كما يخبر بذلك الحديث النبوي المعلوم، وحيث أن المجتهد مهما اجتهد فإنه "ربما بخبر عن ظنه" كما يقول الغزالي، فقد كان الاختلاف بين المجتهدين أمراً وارداً، لا بل إنه كان مطلوباً محبباً رأفة بالأمة ورحمة بها
(في اختلاف الأئمة رحمة).
الاجتهاد هو إعمال العقل الفقهي (وهو عقل بشري أولاً وأخيراً)، وممارسة نظرية يقوم المجتهد فيها بعمل الربط المستمر بين مقتضيات الشرع من جهة أولى، ومتطلبات الحياة الإنسانية في تبدلها ومستجداتها من
جهة ثانية. لكن هذا العقل يجد ضمانته في الشرع، في حقيقة الأمر، ما دام في الحديث النبوي ما يفيد عصمة الأمة وتنزيهها عن الضلال: "أمتي لا تجتمع على ضلال"، وغني عن البيان أن في هذا الحديث شرطاً
ضمنياً هو تحقيق الإجماع، والإجماع لا يعتد فيه إلا بقول "الخاصة" ونظرها "فلا شك أن العوام (...) ليسوا من أهل الإجماع، فلا يعتبر خلافهم ولا يؤثر وفاقهم"، كما يقول عبد المالك الجويني. وإذن، فإن القصد
الخفي أو البعيد منن قول النبي هو أن سلطة الاجتهاد في الإسلام تستمد من سلطة "الأمة" في كليتها وقد قررت لها "خاصتها" ما يلزمها اتباعه والأخذ بمقتضياته.
من كل ما سبق نخلص إلى نتيجتين اثنتين متلازمتين: أولاهما، أن القول في الدين برأي أو الاجتهاد في التشريع لمستجدات الحياة أو "النوازل"، لا يكون إلا لمن كان قادراً على ذلك، حقيقة لا وهماً، بحكم امتلاكه
للقدرات المعرفية والشرعية اللازمة لذلك. وثاني النتيجتين، أن الاجتهاد الحق، ذلك الذي يستحق أصحابه الأجر مضاعفاً من جهة أولى، ويرتقون عن طريقه،، من جهة ثانية، إلى مرتبة المجددين في الدين، لا يتحقق
إلا متى كان استفراغاً للجهد والطاقة في النظر وفي الموازنة بين الأحكام المختلفة الممكنة، وهو لا يكون كذلك إلا متى كان طلباً لاستكناه الأسباب أو "المقاصد" الخفية التي يريدها الشارع من العباد، ويريد لهم أن
يسعوا إليها ما وسعهم السعي.
-------------------------------
المصدر : عن الإسلام وأسئلة الحاضر.

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي