التوحيد هي الفكرة الدينية التي تعتبر أحدية الله أساس ومناط
الوجود. والله الأحد هو الكائن الأكبر الذي يجسد أحدية الحقيقية،
إثباتاً، ولا تعددية الآلهة، نفياً. ومع كون وحدانية الله عمومية
تشمل الموجودات وتحيطها،
فإن الله وفق فكرة التوحيد، "خارج" العالم، ويبدعه (أي العالم) من
العدم. وذلك بعكس وحدة الوجود التي تضع الأحدية في هوية واحدة
قوامها التحايث والتعلية، الحق والحقيقة، الوجود والشهود، وفي
الاعتقادات
الدينية القديمة كان الاعتقاد بالكائن الأسمى شائعاً، وكان
الاعتقاد بالتوحيد فيها أقرب إلى مفهوم التوحيد الجِهَوي (إله
القبيلة، إله الجماعة الأمية).
والعقيدة التوحيدية اليهودية لا تقوم على مبدأ الواحد، وإنما على
مبدأ الوحيد أو الفريد. وفي "العهد القديم" نجد أن الألوهيم (الله)
هو إله لشعب وحيد ـ ومن هنا طابع التوحيد ـ القومي لليهودية: شعب
فريد/ إله وحيد.
والله وفق هذا التصور هو "إله اليهود". ولذا يجيء في التوراة "إسمع
يا إسرائيل": يهوى إلهنا، يهوى إله واحد" (التوراة 17).
والتوحيد الإنجيلي توحيد أقنومي: (وحدة الأب، والابن (السيد
المسيح)، والروح القدس، فالتوحيدية المسيحية توحيدية ـ تثليثية،
حيث الله واحد يقبل التعداد ولكنه لا يقبل التعدد، فالجوهر الواحد،
الكائن الإلهي، واحد
من حيث الطبيعة متعدد في تعددية شخوصه، أي أن الله وحيد في الطبيعة
لا في العدد باعتباره منزه عن الكمية ولا يقبل القسمة، وهو عدد
متعالي (ترانسندنتالي) لا يتضايف مع الكائن، والمسيح وفق عقدة
التثليث أو
بالأحرى التوحيد ـ التثليثي هو الابن الفريد لأب فريد (الله).
والتوحيد في الإسلام هو المرادف للوحدانية. والأحدية إذا جاءت في
صفات الله، فمعناها الذي لا ثاني له في ألوهيته ولا في ذاته ولا في
صفاته: (الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً
أحد) (سورة
الإخلاص/ 112). وهو واحد بمعنى لا ثاني له في ذاته وصفاته ولا
أفعاله. والواحد هو الذي لا يتبدل وإن تكرّر وتعددت أفراده، إذ هو
الواحد بوحدة نوعه.
وفي تأكيد الإسلام على الوحدانية ونفي التعدد والوساطة يضفي على
الوحدانية صفة مطلقة. ولكونه توحيداً مطلقاً (لا أقنومات ولا توحيد
ـ قومي) فالإسلام، رغم طابعه التوحيدي الثنائي كبقية أديان التوحيد
يتميز
بخاصية أنطولوجية منفتحة على الماوراء. وجدليته الخاصة تقوم على
مبدأي القضاء (الجبر) والقدر (الاختيار) وذلك هو المظهر التراجيكي
(والخلاّق) لعقيدته التوحيدية. فالله أحد، والواحد ـ لُغوياً ـ لا
يتبدل بنوعه
وإن تعدد بكمه. وفي التوحيد الإسلامي لا يوجد فرق بين الوحدانية
والوحدة. والله واحد ووحيد وفريد في الوقت (لا إله إلا الله)، وما
يعزز الطابع الأنطولوجي الإسلامي طابعه اللاكهنوتي (لا كهنوت في
الإسلام).
ومع أن القرآن كتاب عربي مبين فإنه لا يتضمن صفة توحيدية ـ إثنية،
كالدين اليهودي، وهو عدا إنفتاحه على شرع ما قبله دين موجه إلى
الإنسان.
وذلك الأمر لا ينفي، بل يعزز، الدور الكبير الذي أدته الدعوة
الإسلامية في تعميم التعريب اللغوي، وفي خلق شخصية قومية عربية
مشتركة. بل إن المأثرة الأولى للدعوة التأسيسية الإسلامية أنها
نقلت الجزيرة
العربية من طور البداوة إلى الطور الحضري. وإذا لم تتمكن من القضاء
على النزعة العصبية بشكل مبرم، فقد قيدتها وحاربتها، بإدخالها على
المجتمع الذي كان خاضعاً لرابطة العادة فكرة الحق والشريعة. أي
أنها
أحلّت بدل الروابط الطبيعية القائمة على العرق والنسب روابط أخرى
سياسية تحل فكرة "الأمة" مكان سلطة القبيلة، وتؤكد على الوحدة
السياسية مقابل التجزؤ العشائري، في إطار ديني تتصدر فيه فكرة
التوحيد
الإلهي مكان فكرة التعدد الوثني (الشرك).
وكالأديان التوحيدية السابقة، أكد الإسلام على آداب ومبادئ أخلاقية
جديدة، ترسخ معنى الأخوة بين أفراد الجماعة، وتؤكد على مسؤولية
الفرد عن أعماله، مقابل المسؤولية الجماعية الشاملة في نظام
القبيلة.
لقد ولد الإسلام ولا ريب في وسط بدوي، مما سحب بعض الآثار على
طابعه (العقد والبيعة والعصبية)، ولكنه أتى بأدبية جديدة ترجح
الأخوة الإنسانية بين أفراد الجماعة الجديدة. وبدل الشعور بالذات
الأنانية القبلية،
القائمة على التمحور ـ القَبَلي، أخذ الفرد يعي ذاته كجزء من
"أمة"، وأصبح كفرد أحد، مسؤولاً عن أعماله تجاه الجماعة، وتجاه
الله الكائن ـ الأحد. أي أصبح يستمد أحديته من أحدية المطلق
الإلهي، المتعالية.
وحين نحلل الأواليات الإجتماعية للإجتماع الإسلامي، يظهر إلى
العيان أن العقلية التجارية (عقلية التبادل والتراكم) ـ وهي عقلية
العرب المكيين ـ والنبي التاجر، هي التي تطغى في النتيجة على عقلية
التبذير
والإكتناز، طابع العقلية البدوية. وهذا ما يفسر، بدوره عملية
التداخل والتراكم الثقافي الكبرى التي حصلت في حضارة الإسلام
الأولى، حيث كان المجتمع الإسلامي مسرحاً لأخصب عملية تبادل
ومثاقفة فكرية، إذ لم
تنقل هذه الحضارة التراث الأغريقي ـ الفارسي الهندي فحسب، ذلك
التراث الذي تأثل في حضارة الإسلام، بل كان بمثابة خميرة للنهضة
الأوروبية نفسها عبر دور الوساطة الذي لعبته حركة الثقافة العربية
ـ
الإسلامية، التي شكلت بدورها النهضة الأولى، وأعطت حضارة إنسانية
ألفية جديدة.
------------------------
المصدر : مقدمة في نقد الفكر العربي المعاصر (من الماهية إلى
الوجود)