اعلم أن النائم غير كامل العقل، لأن النوم ضرب من السهو والسهو
ينفي العلوم.
ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة لنقصان عقله، وفقد علومه.
وجميع المنامات، إنما هي اعتقادات يبتدأ بها النائم في نفسه، ولا
يجوز أن يكون من فعل غيره فيه، لأن مَن عداه من المحدثين ـ سواء
كان بشراً أو ملائكة أو جناً ـ أجسام، والجسم لا يقدر أن يفعل في
غيره اعتقاداً بل
ابتداءً.
ولا شيئاً من الأجناس على هذا الوجه، وإنما يفعل ذلك في نفسه على
سبيل الابتداء.
وإنما قلنا: إنه لا يفعل في غيره جنس الاعتقادات متولداً، لأن الذي
تعدى الفعل عن محل القدرة إلى غيرها من الأسباب إنما هو الاعتمادات،
وليس في أجناس الاعتمادات ما يولد الاعتقادات (ولذا لو اعتمد أحدنا
على
قلب غيره الدهر الطويل ما تولد فيه شيء من الاعتقادات).
والقديم تعالى هو القادر على أن يفعل في قلوبنا ابتداءً من غير سبب
أجناس الاعتقادات فلا يجوز أن يفعل في قلب النائم اعتقاداً، لأن
أكثر اعتقادات النائم جهلاً.
ويتناول الشيء على خلاف ما هو به (لأنه يعتقد أنه يرى ويمشي، وانه
راكب وعلى صفات كثيرة وكل ذلك على خلاف ما هو به).
وهو تعالى لا يفعل الجهل. فلم يبق غلا أن الاعتقادات كلها من جهة
النائم.
وقد ذكر المفيد في المقالات ان المعروف (بصالح قُبّة) كان يذهب إلى
أن كل ما يراه النائم في منامه على الحقيقة.
وهذا جهل منه أيضاً هي جهل السوفسطائية، لأن النائم يرى ان رأسه
مقطوع، وانه قد مات، وانه قد صعد إلى السماء، ونحن نعلم ضرورة خلاف
ذلك كله.
وإذا جاز عند (صالح) هذا أن يعتقد اليقظان في السراب انه ماء، وفي
المروي إذا كان في الماء انه مكسور، وهو على الحقيقة صحيح لضرب من
الشبهة واللبس.
وإلا جاز ذلك من النائم وهو من الكمال أبعد، وإلى النقصان أقرب.
ـ أقسام التخيل في النوم:
وينبغي أن يقسم ما يتخيل النائم لأنه يراه إلى أقسام ثلاثة: منها
ما يكون من غير سبب يقتضيه، ولا داع يدعو إليه فيكون اعتقاداً
مبتداءً.
ومنها أما يكون من وساوس الشيطان (ومعنى هذه الوسوسة أن الشيطان)
يفعل في داخل سمعه كلاماً خفياً يتضمن أشياء مخصوصة، يعتقد النائم
انه إذا سمع ذلك الكلام انه يراه فقد نجد كثيراً من النيام يسمعون
حديث
مَن يتحدث منهم بالقرب فيعتقدن انهم يرونه معنى ذلك الحديث في
منامهم.
ومنها: ما يكون سببه والداعي إليه خاطراً يفعله الله تعالى، أو
يأمر بعض الملائكة بفعله ومعنى هذا الخاطر أيضاً أن يكون كلاماً
يفعل في داخل سمعه فيعتقد النائم أيضاً انه يرى ما يتضمن ذلك
الكلام.
والمنامات الداعية إلى الخير والفلاح في الدين، يجب أن يكون إلى
هذا الوجه مضروبة.
كما ان ما يقتضي الشر منها الأولى أن يكون إلى وساوس الشيطان
مصروفه، وقد يجوز على هذا في ما يراه النائم في منامه ثم يصح ذلك
حتى يراه في يقظته على حد ما يراه في منامه.
وكل منام يصح تأويله أن يكون سبب صحته أن الله تعالى يفعل كلاماً
في سمعه لضرب من المصلحة.
فإن شيئاً يكون أو قد كان على بعض الصفات فيعتقد النائم ان الذي
يسمعه هو يراه.
فإذا صح تأويله على ما يراه، فلما ذكرنا إن لم يكن مما يجوز أن
تتفق فيه المصلحة اتفاقاً، فإن في المنامات ما يجوز أن يصح باتفاق،
وما يضيق فيه مجال نسبته إلى الاتفاق فهذا الذي ذكرناه يمكن أن
يكون وجهاً فيه.
فإن قيل: أفليس قد قال: أبو علي الجبائي في بعض كلامه في المنامات:
ان الطبائع لا تجوز أن يكون مؤثرة فيه، لأن الطبائع لا تجوز على
المذاهب الصحيحة أن تؤثر في شيء، وانه غير ممتنع مع ذلك أن يكون
بعض المأكولات، يكثر عندها المنامات، فالعادة كم أن فيها ما يكثر
عنده بالعادة يخيل للانسان وهو مستيقظ لما أصل له.
قلنا: وقد قال ذلك أبو علي: وهو خطأ، لأن تأثير المآكل يجري العادة
على المذاهب الصحيحة، إ ذا لم تكن مضافاً إلى الطبائع فهو من فعل
الله تعالى.
فكيف تضيف التخيل الباطل والاعتقاد الفاسد إلى فعل الله تعالى.
فأما المستيقظ الذي استشهد به فالكلام فيه، والكلام في النائم
واحد، ولا يجوز أن يضيف التخيل الباطل إلى فعل الله تعالى في نائم،
ولا يقظان، فأما مَن يتخيل الفاسد وهو غير نائم، فلابد من أن يكون
ناقض العقل في
الحال، وفاقد التميز لسهو وما جرى مجراه فيبتدي الاعتقادات التي لا
اصل لها كما قلناه في النائم.
فإن قيل: فما قولكم في منامات الأنبياء (ع)، وما السبب في صحتها
حتى عد ما يرونه من المنام مم ضاهياً لما يسمعونه من الوحي؟
قلنا: الأخبار الواردة بهذا الجنس غير مقطوع على صحتها، ولا هي مما
توجب العلم، وقد يمكن أن يكون الله تعالى أعلم النبي (ص) بوحي
يسمعه منا لملك على الوجه الموجب للعلم: إني سأريك في منامك في وقت
كذا.
ما يجب فنعمل عليه، ونقطع على صحته من هذا الوجه لا بمجرد رؤيته له
في المنام.
وعلى هذا الوجه يحمل منام ابراهيم (ع) في رؤية ذبح ابنه.
ولولا ما أشرنا إليه كيف كان يقطع ابراهيم (ع) بأنه متعبد بذبح
ابنه؟
فإن قيل: فما تأويل ما يروي عنه (ع) من قوله: ((مَن رآني فقد رني
فإن الشيطان لا يتمثل بي)).
وقد علمنا ان المبطل والمحق والمؤمن والكافر: فقد يرون النبي في
النوم، ويخبر كل واحد منهم عنه، بضد ما يخبر به الآخر فكيف يكون
رائياً لهم في الحقيقة مع هذا؟
قلنا: هذا خبر واحد ضعيف، ومن أضعف أخبار الآحاد، ولا معول على مثل
ذلك على أنه يمكن مع تسليم صحته أن يكون المراد به مَن رآني في
اليقظة فقد رآني على الحقيقة. لأن الشيطان لا يتمثل بي لليقظان.
فقد قيل: أن الشيطان ربما تمثل بصورة البشر.
وهذا التأويل أشبه بظاهر ألفاظ الخبر، لأنه قال: ((مَن رآني فقد
رآني))، فأثبت غيره رائياً له، ويفسد مرئية، وفي النوم. لا رأي له
في الحقيقة ولا مريء، وإنما ذلك في اليقظة (ولو حملناه على النوم،
لكان تقدير
الكلام مَن اعتقد انه يراني في منامه، وان كان غير رآي له في
الحقيقة) فهو في الحكم كأنه قد رأني وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر
وتبديل الصيغة.
وهذا الذي رأيناه في المنامات، وقسمناه أشد تحقيقاً من كل شيء قيل
في أسباب المنامات، وما سطر في ذلك معروف غير محصل ولا محقق فإما
ما يهدي به الفلاسفة (في هذا الباب) فهو مما يضحك الثكلى لأنهم
ينسبون ما صح من المنامات لما أعيتهم الحيل في ذكر سببه ((إلى أن
النفس اطلعت إلى عالمها فأشرقت على ما يكون)).
وهذا الذي يذهبون إليه من حقيقة النفس غير مفهوم، ولا مضبوط. وكيف
إذا أضيف إليه الاطلاع إلى عالمها.
وما هذا الاطلاع، وإلى أي شيء يشيرون بعالم النفس، ولم يجب أن نعرف
الكنايات عند هذا الاطلاع، وكل هذا زخرفة ومخرقة، وتهاويل لا يصح
منها شيء.
وقول ((وصالح قُبة)) مع انه بجاهل محض أقرب إلى أن يكون مفهوماً من
قول الفلاسفة، لأن ((صالحاً)) ادعى ان النائم يرى على الحقيقة ما
ليس يراه فلم يشير إلى أمر غير معقول ولا مفهوم.
بل ادعى ما ليس بصحيح، وإن كان مفهوماً وهؤلاء عولوا على ما لا
يفهم مع الاجتهاد ولا يعقل مع قوة التأمل والتبين والفرق بينها
واضح.
فأما سبب الإنزال، فيجب أن يبنى على تحقيق سبب الإنزال في اليقظة،
(وقد علمنا ان سبب الإنزال في اليقظة مع الجماع) ليس هو ما يهدي به
أصحاب الطبائع.
لأنه قد بينا في غير موضع ان الطبع لا أصل له، وان الإحالة فيه على
سراب لا يتحصل، وإنما سبب الإنزال ان الله تعالى أجرى العادة
بإخراج الماء من ظهر الرجل عند هذه الحركة المخصوص (وليس يمتنع أن
يجري الله تعالى العادة بأن يخرج هذا الماء من الظهر) عند اعتقاد
النائم انه يجامع. وإن كان هذا الاعتقاد باطلاً.
المصدر : مسائل المرتضى