موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

المعرفة العلمية .. بين الإسلام والعلمانية
د. الهادي الدرقاش



يقول المثل السائر (رب صدفة خير من ألف ميعاد) وبسبب الصدفة كان هذا المقال: لقد التقيت بصاحبي هذا في إحدى مقاهي الضواحي الشمالية تقول عنه بطاقة تعريفه التعليمية إن له شهادات جامعية نال بعضها
بالشرق وبعضها الآخر بالغرب. لقد طرقنا في حديثنا قضايا كثيرة اجتماعية ودينية، واختلفنا. وكان اختلافنا منطقياً إلا أن الذي لفت نظري هو أنني كلما اعتمدت في الاستدلال بنصوص دينية في قضايا غيبية يرفع
صاحبي عقيرته محتجاً قائلاً: ((ليس هناك مكان في هذا الحديث لهذه الأدلة بل أريد أدلة علمية وعقلية بعيدة عن قال الله تعالى أو قال الرسول محمد (ص) فأقول له إئت لي أنت بما تراه صالحاً من الأدلة العلمية
فيقول: ليس هناك دليل .. ! فأقول له إذن نحن بين أمرين إما أن نقول بالتعطيل لعدم وجود أدلة أو نؤمن بما لدينا من أدلة أثرية ونصية فيجيبني إني أرفضها على أساس العلمانية الرافضة)).
فما هي العلمانية وهل إنها تختلف في منهجيتنا أساساً مع منهجية القرآن؟
ـ مفهوم لفظة العلم:
لقد عرف العلم من طرف كثير من الباحثين والعلماء فقال بعضهم: ((هو دراسة تتعلق بمجموعة من الوقائع الملاحظة التي ترتب ثم تجمع بعضها مع بعض على نظام مخصوص ليستخرج منها قوانين عامة على أن
يقوم ذلك كله على أساليب موثوقة تمكن الدارس من اكتشاف حقائق جديدة في الناحية التي يوليها اهتمامه)) ..
وإذا كان هذا هو تعريف العلم فما هي منهجيته؟ وهل لها اتصال بمنهجية القرآن؟
ـ منهجية البحث في القرآن والعلم:
يكفي دليلاً على عناية الإسلام بالعلم مادة ومنهجاً أن ورد ذكر العلم ومشتقاته في القرآن أكثر من 850 مرة وهو لعمري تكريم للعلم لم يحظَ به في غير كتاب الله.
لقد اختص القرآن بطريقة جد قويمة في طلب العلم هي عينها الطريقة التي سلكتها منهجية البحث العلمي في عصرنا الحاضر فقد طلب القرآن من الإنسان أن ينعم النظر في نفسه وفيما حواليه ليدرك مكانه في الدائرة
الكونية الكبرى. وبذلك يتعرف على ارتباطاته بها سالكاً في ذلك بادئ ذي بدء حواسه مصداق ذلك قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) الإسراء/ 36، وبذلك
نرى أن الإسلام يرفض العلم الذي لا يكون وليد التجربة والاختبار والبرهان أو قل العلم التجريبي الذي يخضع أساساً إلى التجربة الحسية المخبرية تاركاً الحدس والتخمين جانباً وذلك لأن كل نظرية ارتكزت على
الحدس والتخمين هي ليست نظرية علمية بل هي فرضية يندر أن تكون صحيحة ثابتة ولهذا نجد القرآن يأمر الإنسان بتركيز انتباهه وبملاحظة كل شيء بدايةً من طعامه (فلينظر الإنسان إلى طعامه) بل وعليه أن
ينظر في أصل خلقته (فلينظر الإنسان ممَّ خلق) وعليه أن يدرس التاريخ ليرى ما حصل للأمم السابقة (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة) وعلى الإنسان أن يدقق
الملاحظة فيما حواليه من العوالم المشاهدة والكواكب (ألم ينظروا إلى ملكوت السماوات والأرض). ومن أجل الترغيب في البحث العلمي الدقيق نهى القرآن أفراد الأمة الإسلامية أن يكونوا مثل السابقين وهم الذين
أعرضوا عن البحث (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) وذلك لأن عدم البحث يورث البلاهة ويقضي على الخلق والإبداع من أجل بناء حضار تسبح باسم الله وتحمده على نعمة العقل والفكر.
وبذلك يكون الإنسان في القرآن مسؤولاً عن البحث والتمحيص والاستقراء والاختبار حتى يكون أرقى درجة من الأنعام.
إن استغلال الفرد لقدراته العقلية الفذة ستصل به حتماً إلى قمة الانتصار العلمي وسيتبوأ بمفعول هذه الانتصارات مركز المسؤولية كسيد للعالمين وخليفةً لله على الأرض. ولهذا نجد القرآن يولي عناية خاصة للعقل
نظراً لأنه قائد المسيرة الحضارية للإنسان فقد ذكره أكثر من خمسين مرة وبقدر ما مدح ذوي العقول شنع بمعطلي العقول حتى أه وصفهم بالدواب. قال تعالى: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)
وبذلك نرى أن المنهج القرآني هو نفسه المنهج العلمي إذ اعتمد القرآن أساساً على منهج يرتكز على الجدلية المبرهنة للوصول إلى النتائج الصحيحة القائمة على الاستقراء والمقارنة والموازنة والتمحيص استناداً إلى
المعطيات الخارجية المتفق عليها.
ـ العلمانية .. إفراز لحضارة آفلة:
العلمانية في قاموس المصطلحات العلمية هي نزعة نسبت إلى العلم مجازاً على أساس أنها تقول إن طريق المعرفة الوحيد هو التجربة والحس وكل معرفة يكون ليس هذا طريقها فهي ليست بمعرفة. هذا الكلام قلنا
يمثل ظاهر الأحبولة. وإذا سلّمنا بالتسمية جدلاً نقول لهم: قولوا لنا من يرفض المنطق العلمي ومن يكذب منهجيته، اللهم إلا إذا كان به لوثة وقد علمنا فيما سبق أن القرآن الكريم قال بالمنهجية القائمة على الأدلة
والبراهين انطلاقاً من الممارسة الفعلية للأشياء وملاحظة خصائصها واستكناه قوانينها وعند هذا الحد يأتي داخلها الذي به العذاب وذلك عندما يفرقون بين الدين والعلم بحيث يكون أحدهما نقيض الآخر معنى ذلك أن
الدين والعلم خطان متوازيان لا يلتقيان كما يقول المهندسون لماذا؟ الأمر بسيط هو أن منهجهم العلمي يقوم أساساً على العقل مع رفضه التام لسائر المصادر الأخرى للمعرفة.
ـ العلمانية مصطلح .. لا صلة له بالمنهجية العلمية:
علينا أن نفرق بين العلمانية كمصطلح تبناه بعض الغربيين اللائكيين ومن دار في فلكهم من المتمسحين بعتبات حضارتهم. والعلم بمفهومه الكلي القائم على أساس استغلال طاقات الإنسان والكون بما يفيد البشرية
ويدعم الحضارة في هذا المفهوم للعلم هو الذي يقصده القرآن حتى نجده يستعمل لفظة العلم مراراً كمصطلح على الدين. ومن هنا يصبح العلم والدين ساء في مفهوم لغة القرآن على أساس اتحادهما في المنهج قال
تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) البقرة/ 120، ويقول أيضاً: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) آل عمران/ 7، وبذلك تلتمس أهداف العلمانيين
من وراء مصطلحاتهم فادعاؤهم العلمانية على اعتبار محدودية منها ويكفي رداً على هؤلاء قول آنشتاين العالم الرياضي الشهير: ((إن بصيرتنا الدينية هي المنبع وهي الموجه لبصيرتنا العلمية))، ويقول الشيخ متولي
الشعراوي: ((إن الذين يقولون علمانية مقابل الدين نقول لهم أنتم جهلة حتى تعقدوا المقابلة. العلمانية لا تقابل الدين والعلمانية في مجالها هي مع الإسلام. إنما الإسلام ضد العلمانية في غير مجالها. إلا أنكم طرحتم
قضية العلم في قضية الأهواء والأهواء لا تعطي علماً)) قضايا اسلامية/ ص4.
ـ مصادر المعرفة في الإسلام والعلمانية:
لقد رأينا أن المعرفة العلمانية تخضع للمجال الحسي فكل ما تثبت صحته بعد تجربته فهو علم تجربة. لكن هناك معرفة لا يمكن أن تخضع الآن للتجربة وذلك ليس راجعاً لعدم وجودها بل راجع إلى العجز المعرفي.
من ذلك أن كثيراً من الجراثيم كانت غير معروفة إلى فترة قريبة ثم تعرّف عليها الإنسان فهل أن عدم معرفتها دليل على عدم وجدها. الواقع لا، لأن للمعرفة طريقين ما كان قابلاً للتجربة يكون تجريبياً وما كان غير
قابل للتجربة فطريقة إثباته هو الوحي أو غيره. هذا المصدر الذي تنكره العلمانية على أساس إنكارها للدين جملة وتفصيلاً وبذلك نرى اعتماد العلمانية في مسيرتها الحضارية على وسيلة واحدة هي العلم في ميدانه
التجريبي. وحضارة هذه وسيلتها الوحيدة حضارة عرجاء تسير على ساقٍ واحدة ولابد للأعرج أن يسقط في يوم من الأيام.
إن الإسلام وثورته العلمية بحثاً ومنهجاً ما هو إلا طريقة جادة لتركيز حضارة سليمة تسعى على رجلين سليمتين إحداهما عقل تجريبي يلاحظ ويمحص والأخرى وحي يهدي سواء السبيل عندما يتلبد أفق الحياة
بالسحب الدهماء.
إن القول بأن الدين يكذب العلم وأن العلم يرفض الدين قول يبعث السخرية في أنفسنا عل أنفسنا فهل يعقل أن يخلق الله الإنسان على أحسن صورة وأبدع تقويم وأدقه ويبعث له الرسل والأنبياء بمناهج تشذب استخدام
العقل لتجسيم قدرات الإنسان المعجزة التي يحركها هذا العقل من خلال الابتكارات التي يبتكرها الإنسان. فلو كان ذلك صحيحاً لكان الأولى أن يخلق الله الإنسان بدون عقل وبدون قدرات وتعالت أعماله عن العبث.
المصدر : العقد الحضاري في شريعة القران

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي