موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

منطق فهم الدين
علي أكبر رشاد



بين يدي الموضوعة:
هل يمكن اكتشاف الدين؟ هل يمكن استيعاب حقيقة الدين بكاملها؟ وإذا ما كانت للدين قابلية للاكتشاف، فما هي مصادر فهم الدين؟ هل تسير عملية اكتشاف الدين الحق على سكة منطق محدد؟ وإذا كان اكتشاف حقيقة الدين أو الدين الحقيقي أمراً ممكناً وممنطقاً، فما هي عوامل تنوع وتطور الفهم الديني؟ هل تنوع الأفهام وتطورها ذو طبيعة عضوية وبالجملة، أم أنه في الجملة؟ هل تحول فهم الدين عرضي متعارض أم طولي متكامل؟ وهل تعددية الفهم الديني تقتضي النسبية في فهم الدين أم لا؟ هل يمكن تصنيف الفهم إلى صائب وغير صائب؟ وإذا كان هذا التصنيف جائزاً، فما هي أدوات تمييز الفهم الصحيح من الفهم الملتبس؟ وهل يجب استقاء إجابات الأسئلة الواردة أعلاه من الدين ذاته أم من خارج الدين؟ أم من كلا الطريقين؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة وما شاكلها تحتم استنبات علم مستقل يمكن تسميته ((منطق فهم الدين)). كما تستلزم الإجابة المجملة على الأسئلة المطروحة دراسة المدارات التالية:
1 ـ تعريف المفردات المفتاحية.
2 ـ المنهج في منطق فهم الدين.
3 ـ مقدمات قابلية الدين للاكتشاف.
4 ـ شروط فهم الدين (صفات مَن يريد فهم الدين وصلاحياته).
5 ـ منهجية اكتشاف الدين.
6 ـ استحقاقات نظرية ((قابلية الدين للقراءة)).
7 ـ الأدوات اللازمة لتقييم فهم الدين.
وفيما يلي إلماحات مقتضبة لهذه المدارات:
1 ـ تعريف المفردات:
لا مناص من دراسة وتعريف مفردات أساسية في هذا المجال من قبيل الدين، النص الديني (المقدس)، فهم الدين، التفسير، التأويل، الهرمنوطيقا، القراءة، المعرفة الدينية، لغة الدين، منطق فهم الدين، المناهج والتوجهات في تفسير النص الديني (وخصوصاً القرآن)، بيد أنني لن أتناول في هذه العجالة سوى مفردات ((الدين)) و ((فهم الدين)) و ((القابلية للقراءة)) و ((الهرمنوطيقا)) باختصار.
2 ـ فهم الدين عبارة عن اكتشاف منطقي ((ممنطق) للقضايا والتعاليم الدينية من مصادرها كما هي. والعلاقة بين فهم الدين والدين ذاته من سنخ العلاقة بين العلم والمعلوم. لذا حتى لو أخطأ بعض علماء الدين في فهمه، ما يفضي إلى استخلاص أكثر من تصور للعبارة الدينية الواحدة، بيد أن هذه تعد حالات نادرة مقارنة بالتصورات المتوافق عليها التي ترتسم في أذهان علماء الدين للعبارات الدينية. ومجرد وجود أفهام متعددة لا يدل على كونها صحيحة وصائبة. فبالإمكان فرز الفهم الصائب من الفهم الخاطئ.
3 ـ القابلية للقراءة معناها أن النص (بما في ذلك النص الديني المقدس) يحتمل عدة معانٍ عند تفسيره وقراءته، بفعل طبيعة البنية الذهنية للإنسان، والتأثير الحاسم لذهنية وشخصية المفسر في فهمه للنصوص من ناحية، وبسبب كون النص صامتاً أو تاريخانياً من ناحية أخرى. حتى يمكن انتزاع تفاسير عضوية متفاوتة جداً بل متناقضة من النص الواحد، وتمتاز كل هذه التفاسير والأفهام بالحجية والأهمية المتساوية.
4 ـ الهرمنوطيقا،وهي علم إجتاز تاريخاً حافلاً بالمنعطفات وتفرع اليوم إلى شعب متعددة منها هرمنوطيقا النص. وباتت بعض نظريات هرمنوطيقا النص حجر الزاوية لفكرة قابلية الدين للقراءة. ويتاح لنا تقسيم هرمنوطيقي النص إلى ثلاثة تيارات رئيسة:
أ: تيار ((أصالة المؤلف)) وهم مَن يرون أن رسالة المفسر لا تتعدى كشف مراد المؤلف أو صاحب النص والإفصاح عن مقاصده مراميه.
ب: تيار ((أصالة النص)) وهم الذين يعدون التفسير ((معننة)) النص واستنطاقه باعتباره صامتاً لا يتكلم، بصرف النظر عن مراد مبدع النص ومقاصده. لذلك يمكن في رأيهم تحميل النصوص معانٍ متعددة ومتباينة.
ج: تيار ((أصالة المفسر)) وهم المعتقدون بأن شخصية المفسر (أو المتلقي) وتصوراته لها الدور الأول في عملية التفسير. ولهذا ينبغي التدقيق في تطلعات المفسر وميوله لأهميتها الكبيرة في إظهار النص إلى النور. وتتضاعف عندهم مكانة المفسر إلى درجة أنه يكشف بتفسيره عن نفسه لا عن النص وصاحبه. والواقع أن النص والمفسر يتبادلان المكان عندهم.
النقطة الجديرة بالذكر هي ضرورة الفصل بين المراد من النص، ومعناه (الاستعمالي) ومفهومه (معانيه المتصورة).
2 ـ المنهج في منطق فهم الدين:
هل ينبغي استخلاص منهجية كشف الدين من الدين ذاته أم من خارجه؟ هذه المسألة تعد من التحديات الطليعية في علم فهم الدين، وهي قضية عميقة تتطلب فرصة مناسبة لتمحيصها والتفصيل فيها. ولا يتسع المجال هنا سوى للإشارة إلى أن المنهج التركيبي (بين ما هو ديني وما هو خارج الدين) يبدو الأفضل والانجع في مواجهة المشكلة وليس المنهج الأحادي. بل لعله المنهج السليم الوحيد في هذا الباب.
3 ـ مقدمات قابلية الدين للاكتشاف:
تنهض قابلية الدين للاكتشاف على مقدمتين أساسيتين:
الأولى: اكتشاف الدين وفهمه ممكن وضروري (مبدأ قابلية النصوص الدينية للفهم).
1 ـ ألمحنا إلى أن الدين مجموعة قضايا تعاليم أنزلها الله لهداية البشر صوب الكمال والسعادة. وإذا لم تكن النصوص الدينية قابلة للفهم لوجب كونها لغواً من القول. واللغو قبيح لا يمكن أن ينسب للخالق الحكيم. ولمزيد من الإيضاح نقول:
أ: لأن عموم الناس هم مخاطبو الباري عزوجل، فإن لغة الدين لغة عرفية (العرف العام) والمراد من عرفية لغة الدين أنها عامة غير تخصصية (مثلما هي لغة الفلسفة أو العلوم أو اللغة الرمزية) ولا تقتصر على زمان أو مكان محددين. ذلك أن احتباس لغة الدين بزمان ومكان معينين بحيث لا يمكن فهمها في زمان ومكان آخرين، يتعارض والغاية الأبدية العالمية من الدين الإسلامي، وهي حالة تفضي بالتالي إلى اللغو والعبث.
ب: القابلية للقراءة وإمكانية تعدد القراءات العضوية تستوجب حيرة الإنسان ونقض أغراض الرسالة، وتفيد عبثية الدين.
ج: الأنواع الذوقية المختلفة من الفهم (الفلسفية، العلمية، العرفانية و ... الخ وهي جميعاً سبل موازية للسبيل الديني) ليست تصورات إسلامية بالضرورة، على الرغم من أن معطياتها قد تتطابق والتعاليم الدينية كلياً أو جزئياً.
2 ـ عبارات النصوص الدينية من زاوية قصد الشارع، إما ((نصوص)) أو ((ظواهر)) أو ((متشابهات)). أما النصوص فإن العقل والوجدان يدلان على حجيتها وكشفها لمراد الشارع. وأما الظواهر فسيرة العقلاء تؤكد حجيتها واعتبارها (ما لم يثبت خلافه). والمتشابهات يمكن تفسيرها وهمها في أغلب الحالات بالرجوع إلى النصوص والظواهر (المحكمات).
3 ـ النصوص الدينية تصرح بوضوح الدين وإمكانية فهمه وفهم نصوصه:
أ: (كاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود/ 1.
ب: ((فمن زعم أن كتاب الله مبهم فقد هلك وأهلك)) بحار الأنوار 80 ص90.
ج: ((هو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل وليس بالهزل، وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ... إن هذا القرآن نور مبين)) حديث نبوي.
4 ـ القرآن الكريم (وهو النص الإسلامي الأول) يصف نفسه بالبين أو ما شاكل في آيات كثيرة منها:
أ: (تلك آيات الكتاب المبين) يوسف/ 1.
ب: (نزلنا عليك تبياناً لكل شيء) النحل/ 89.
ج: (يا أهل الكتاب .. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) المائدة/ 15.
د: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر/ 17، 22 و 32.
هـ : ((وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعي لسانه)) نهج البلاغة/ الخطبة 133.
5 ـ تعاليم أئمة الدين المتكررة بالالتزام بالنصوص الدينية من قرآن وسنة تستوجب كون هذه النصوص مفهومة ولها حجيتها:
أ: ((إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ... )).
ب: ((إذا التبست عليكم الفتن فعليكم بالقرآن)) أصول الكافي 80 ج801 ص88.
6 ـ قعّد أئمة الدين العديد من القواعد للاستقاء من النصوص الدينية وفي هذا دليل على إمكانية فهمها وحجيتها.
7 ـ سير أئمة الدين تبتني على الاجتهاد في النصوص والاحتجاج بها.
8 ـ السيرة العملية والارتكاز الذهني للمسلمين وغير المسلمين يفيد فهم وتفهيم مضامين النصوص الدينية، ما يشير إلى عدم ترددهم أو تشكيكهم في قابلية النص الديني للفهم.
9 ـ قابلية النصوص الدينية للفهم تتسم بوضوح وجداني، فنحن نجد في داخلنا بكل جلاء أننا والآلاف غيرنا نفهم معاني الآيات والروايات، بل ونفهمها فهماً واحداً. وهذا شاهد آخر على قابلية هذه النصوص للفهم وقيمتها الاحتجاجية.
المقدمة الثانية: فهم الدين عملية ممنهجة (مبدأ استناد عملية اكتشاف الدين إلى منطق واضح).
1 ـ الدين ((حقيقة)) منزلة، ولها وجودها الحقيقي بغض النظر عن عقيدتنا بها وانحيازنا لها، وفهمها لا يتأتى مصادفةً أو حسب الأذواق والنزعات، ذلك أن احتمال انطباق الفهم الذوقي مع نفس الأمر الديني قريب من الصفر. كما إن حصيلة التفسير ستكون إسقاطاً لأذواقنا وليست انعكاساً لحقيقة الدين.
2 ـ النصوص الدينية تشهد بصراحة لصالح منهجية تفسير القرآن.
3 ـ حدد النبي (ص) والأئمة (ع) عدة قواعد ومناهج لفهم الدين منها:
أ: منهج ((تفسير القرآن بالقرآن)).
ب: قاعدة ((إرجاع المتشابه إلى المحكم)).
ج: قاعدة ((تقدم الدلالة القرآنية على الدلالة الروائية)).
د: قاعدة ((التعادل والتراجيح)) الروايات العلاجية.
4 ـ سيرة أئمة الدين زاخرة بالتدبر الممنهج في النصوص الدينية.
5 ـ السيرة العملية والارتكاز الذهني للمسلمين يدل هو الآخر على أسلوب ممنهج في فهم الدين.
4 ـ الشروط المسبقة لفهم الدين:
من أجل فهم الدين، يتحتم على الفاهم التحلي بصفات خارجية وباطنية وصلاحيات علمية عديدة، ليتمكن من فهم الدين أولاً، وليكون فهمه صحيحاً صائباً بالدرجة الثانية، ومن هذه الصلاحيات:
1 ـ العلم والبصيرة بالهوية الوحيانية والعقلانية للدين والنصوص الدينية.
2 ـ طهارة الروح.
3 ـ تمحض الذهن.
4 ـ الرسوخ في العلم.
5 ـ التوفر على علوم ايهابية.
6 ـ التبحر في استخدام منطق فهم الدين.
7 ـ المعرفة بكل نصوص الوحي المقدسة.
8 ـ الاستئناس بنصوص الشارع والمعرفة بمقاصد الشريعة.
9 ـ معرفة السبك والبنية اللغوية للدين.
10 ـ المعرفة بلغة عصر نزول الآيات، وصدور الأحاديث.
11 ـ التعمق الكافي في الأدب العربي وعلوم اللغة.
12 ـ الاضطلاع الوافي بالعلوم النقلية.
13 ـ التبحر المجزي بالعلوم العقلية.
14 ـ المعرفة بالعصر والإلمام بعلمه حسب الحاجة.
5 ـ منهجية فهم الدين:
لا يتسنى الفهم الصحيح للدين إلا إذا توفرت الشروط اللازمة في ثلاثة ((مثلثات)) كما يلي:
أ: الاستخدام الصحيح لمثلث المصادر الدينية:
بما أن ((العقل)) و ((القرآن)) و ((السنة)) حجج إلهية، لذا ينبغي اعتمادها بشكل مناسب في عملية اكتشاف حقيقة الدين وفهمه. وبالتالي ستكون قراءة هذه المصادر الثلاثة واستلهامها كفيلة بصحة فهم الدين وحجيته (ولابد من ملاحظة الانسجام الداخلي لكل واحدة من الحجج).
ومما تلزم الإشارة إليه في هذا المضمار:
1 ـ يجب مراعاة مجموعة القواعد الأصولية في استخدام العقل واعتماد النقل (الثقلين) في مقام تفهيم الدين، لتكفل صحة الفهم (ومن ذلك الالتفات إلى الاطلاقات والمقيدات، والعمومات والتخصيصات، والناسخ والمنسوخ، والتعادل والتراجيح، وشروط السندن والصدور، والدلالة و ... الخ) عند الاستشهاد بالآيات والروايات.
2 ـ لأن كلاً من العقل والقرآن والسنة حجة، فلو تعارضت مداليلها وجب ترجيح الدلالة القطعية لأحدها على الدلالة الظنية للآخر.
3 ـ يتسم التعارض بين المصادر الثلاثة بالواقعية والأهمية، إذا إذا كان مركز تعارضها واحداً من كل النواحي، وبغير ذلك لا يكون التعارض حقيقياً.
ومن المعروف أن التناقض لا يكون تناقضاً إذا اشترك المتناقضان في ثمانية أمور هي ((الموضوع)) و ((المحمول)) و ((المكان)) و ((الشرط)) و ((الاضافة)) و ((الكل والجزء)) و ((القوة والفعل)) و ((الزمان)).
ب ـ الملاحظة الدقيقة لمثلث الخطاب الديني:
فالدين والنصوص الدينية بصفتها خطاباً لها ثلاثة أطراف هي: ((الآمر الحكيم)) و ((المصحف الأبدي)) و ((المخاطب المكلف)). ولابد من تجنب التطرف في تحديد نصيب كل واحد من هذه الأطراف الثلاثة في تشكيل معاني النصوص المقدسة، كما ينبغي احتراز استبدال طرف بآخر، وإنما يجب تشخيص دور كل منها بشكل دقيق ومعقول. أضف إلى ذلك أنه يتوجب الالتفات إلى أن آمر الدين ((حكيم)) والنص الديني ((أبدي خالد))، ومخاطب الدين ((إنسان مكلّف)). وكل هذه الصفات لها استحقاقاتها ولوازمها المعقولة، وإذا ما تم أخذها بنظر الاعتبار عملت على تيسير عملية فهم الدين وإضفاء صبغة عقلانية على الفهم الديني.
ج: التأكد من انسجام أضلاع مثلث المعارف الدينية:
الدين مجموعة معرفية عضوية متماسكة، تتألف من ثلاثة أركان هي القضايا والدساتير (ما يجب وما يحرم = الأحكام) والقيم (ما يليق وما لا يليق = الأخلاق). ولا مناص من أن يكون فهمنا للدين منتظماً متناسقاً لا يناقض بعضه بعضاً.
الجدير بالذكر أن مراعاة النقاط الآنفة فيما يتعلق بمثلث المصادر الدينية ومثلث أطراف الخطاب الديني، ومثلث المعارف، لا تتسنى إلا في إطار عملية دقيقة تنظم علم فهم الدين. ونظراً لورود احتمال الخطأ والالتباس تنقسم الأفهام إلى: 1 ـ محقة صائبة 2 ـ محقة حجة 3 ـ غير محقة غير حجة.
6 ـ استحقاقات نظرية ((قابلية النص الديني للقراءة)):
1 ـ ((قابلية النص للقراءة)) هي بدورها قراءة في مضمار هوية فهم النص والمعرفة الدينية ولا تكتسب معنىً أو حجية إلا للمؤمنين بها.
2 ـ إذا تبنّينا هذه النظرية واعتبرناها صائبة، لزمنا الاعتراف بصحة وحجية النظرية المقابلة لها والقائلة بضرورة فهم الدين فهماً واحداً وبأن فهم الدين إما أن يكون صحيحاً أو خاطئاً، لأن هذه النظرية بدورها قراءة من القراءات. إذاً ففكرة القابلية للقراءة تناقض نفسها وتتسم بالمفارقة.
3 ـ لا أحد ينكر إمكانية تفاسير متفاوتة لبعض المفاهيم الدينية، إلا أن أنصار تعدد القراءات يكتفون بعدة أمثلة على نظريتهم، فيقعون في مغالطة تعميم القضية الجزئية إلى كلية.
4 ـ قابلية الدين للقراءة فكرة تستند إلى استقراء ناقص، والاستقراء الناقص ليس بحجة. والاستقراء التام إما غير ممكن، أو أنه يدل على خلاف ما تزعمه النظرية. وبالتالي لن تخرج من دائرة التقديس إلا الأفهام والتفاسير الجلية التهافت.
5 ـ الهرمنوطيقون متناقضون في الأفكار والأفعال. فكما يدعي غادامر: ((لا يمكننا تشخيص مفردات تدل على شيء دلالة قطعية)) وبهذا سيعود التفهيم والتفهم غير ممكنين أو لا يمكن الوثوق بهما. إذاً فلماذا يحاولون تفهيم أفكارهم للآخرين أصلاً؟ ولماذا يكتبون وينتجون النصوص؟ فبحسب تصورات غادامر وأضرابه يتساوى الكلام والسكوت وتتعادل الكتابة وعدمها.
6 ـ اعتبار النص صامتاً والقول بقابليته لقراءات مختلفة، تنكرُ للوجدان البديهي الصريح الذي يسود محاورات البشر اليومية. أضف إلى ذلك أنه من الشطط بمكان إنكار وجود أفهام عامة ودائمية لنصوص دينية وغير دينية في كافة المجتمعات البشرية، وهي أفهام وتفاسير ليست بالقليلة دون مراء.
7 ـ القابلية للقراءة خلاف سيرة العقلاء الذين ما فتئوا يتحاورون ويتفاهمون ويضعون القوانين ويبلغونها ويدونون اللغة والآداب ويدرسونها ويألفون الكتب ويترجمونها ويتنازعون ويدافعون و ... الخ متوكئين في كل ذلك على ما تعنيه الأقوال والنصوص، وواثقين بوجود مفاهيم مشتركة بين الأذهان. وبغير هذا لكانت كل المحاورات والأحكام والاختلافات والوفاقات لغواً وعبثاً لا تدل على أي شيء.
8 ـ القابلية للقراءة، لا سيما في صيغتها المتطرفة تقتضي اجتماع النقيضين، فهي تبارك فهمين متناقضين لعبارة واحدة.
7 ـ الأدوات اللازمة لتقويم فهم الدين:
لتشخيص الأفهام الصحيحة من الخاطئة، واكتشاف الآفات التي قد تكتنفها التصورات والأفهام، هناك جملة مناهج وأساليب يمكن التوسل بها، ومنها على سبيل المثال:
أ: تمحيص الصفات والصلاحيات التي يتمتع بها المتلقي. وقد أسلفنا ذكر جانب منها وهو:
1 ـ صفات وشروط باطنية من قبيل التحلي بالبصيرة في فهم هوية الدين والنص الديني، وطهارة الروح، وتمحض الذهن، والرسوخ في العلم، والتوفر على معارف إيهابية.
2 ـ الصلاحيات العلمية من قبيل التبحّر في استخدام منطق فهم الدين، والاضطلاع في النص المراد تفسيره بكامله، والاستئناس بنصوص الشارع ومقاصد الشريعة، والمعرفة بسبك وبنية لغة النص، والاضطلاع في لغة عصر النزول والصدور، والتمكن من العلوم اللغوية والأدب العربي، والمعرفة الكافية بالعلوم العقلية، والتمرس في العلوم النقلية، والعلم بالزمان والإلمام ببعض العلوم الأخرى بحسب الحاجة.
ب: إعادة دراسة وتقويم الأفهام بطريقة منهجية عبر:
1 ـ العرض على منطق التفكير البشري (علم المنطق).
2 ـ التقييم بلحاظ صحة استخدام المنطق وقواعد فهم الدين.
ج: من المهم جداً إجراء تقويمات أولية لتفاسير النصوص، وشرح مؤشرات فهم الدين، وإيضاح منطق التنظيم. وهذه بدورها مهمات تستلزم مجالاً أوسع مما نحن فيه.
ثمة مداخل عديدة إلى نصوص الدين لتمحيصها ومعرفة تفاسيرها الصحيحة، تشير أدناه إلى ثمانية منها:
1 ـ التمحيص والاختبار من زاوية ملائمة التصورات للفطرة وعدم تعارضها مع الطبع السليم.
2 ـ عدم تعارض الأفهام والتصورات مع أحكام العقل القطعية.
3 ـ مقارنة الأفهام بسيرة العقلاء المستمرة (الممضاة من قبل المعصوم).
4 ـ عرض الأفهام والتصورات على مبادئ الدين العقدية والانثروبولوجية.
5 ـ مقارنة التصورات المستخلصة من النص بمسلمات الوحي ومحكماته.
6 ـ تقويم الأفهام والتفاسير في ضوء مقاصد الشريعة وروحها.
7 ـ مقارنتها بارتكاز المسلمين.
8 ـ فحصها من حيث عملانيتها وكفاءتها.
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي