موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

الاسلام والعروبة بنظر الأفغاني
سمير أبو حمدان



مثلما استطاع جمال الدين أن يوفق بين تفكيره الإسلاموي وتفكيره القومي استطاع , بالمثل , أن يوجد نوعاً من الروح المشتركة التي تجمع فيما بين الاسلام والعروبة .
وانسجاماً مع هذا الموقف حمل جمال الدين لواء الدفاع عن اللغة العربية لكونها الرابط الذي لابديل منه بين أفراد الأمة . فهي تؤدي الى التحام , ورأي التحام , في نسيج الأمة وبنيتها . وأكثر من ذلك حيث شاهد أن ( الجامعة اللغوية ),وهي التسمية التي أطلقها الأفغاني على وحدة اللسان العربي , تنطوي على ما هو أخطر من تلك الصيغ والتعابير والمفردات اللغوية . فهي ( الجامعة )التي تحفظ تراث الأمة وآدابها وحضارتها وتاريخها , كما أنها – وهذا شيء مهم بذاته – تنطق بقرآنها .
( ولم يكن جمال الدين , في دفاعه عن اللغة العربية , ينطلق من فراغ , وإنما انطلق في ذلك الوقت من حالة كانت سائدة في بلدان المشرق العربي, وهي حالة العجمة في اللسان العربي . وقد أفرزتها سياسة التتريك التي كانت متبعة آنذاك في بلدان المشرق.) فثمة تيار مستعجم , محتقر للغة العربية وآدابها وتراثها , راح يطل برأسه , وكان " اسلوباً عجيباً لإضعاف لغة القوم , والتدرج بقتل التعليم القومي "كما يصفه الأفغاني .وقد رفع الصوت منبهاً دور التعليم والقيمين عليها الى هذا الخطر المحدق بالعرب الذين باتوا مستهدفين لا في أوطانهم وحسب وإنما أيضاً في تراثهم وحضارتهم وآدابهم , والأهم أنهم باتوا مستهدفين في قرآنهم .
ولعل أكثر ما كان يقزز نفس الأفغاني مشاهدته لواحد من العرب وهو يرطن في لغته ويتباهى بازدرائها . ومما أثار حفيظته أن ظاهرتي الرطانة وازدراء اللغة انتشرتا بشكل لم يسبق له مثيل في أوساط المثقفين والأدباء . وهذا ما حدا الأفغاني , على التأسيس لتيار من المنشئين والأدباء المتمسكين بأصول لغتهم وتقاليدها , والرافضين لأي رطانة أعجمية أو سجع أو تزويق لغوي مبالغ فيه , وهي أمراض ثلاثة كانت تعث في جسد اللغة العربية وتحيله الى جسد رخو , ميت ,ولا حياة فيه .
وفي كل ذلك كان الافغاني يصدر عن خطة واعية إذ أن اللغة العربية هي العمود الفقري للثقافة العربية , وأن القضاء على الأولى يعني القضاء على الثانية . وأكثر من ذلك حيث أن لاشيء يجمع فيما بين العرب مثلما تجمع بينهم لغتهم. فهي عنصر أول وأساس في وحدتهم وجمع شملهم . وحفاظاً على هذه الوحدة يجب أن تنهض نخبة من الأدباء والمثقفين للذود عن لغة الضاد . ليس هذا وحسب وبل لتطوير وتحديث أساليب الكتابة الأدبية والفكرية بحيث تصبح اللغة العربية لغة عصرية بمكنتها استيعاب وهضم كل ما يجد على صعيد الأدب والفكر والعلم . وعندها يسقط أي ادعاء آخر بقصور اللغة العربية وبعدم قدرتها على هضم المعارف الحديثة , وعندها أيضاً – وهذا الأهم – يحافظ العرب على وحدتهم الثقافية والسياسية " فلا جامعة ( وحدة ) لقوم لالسان لهم – يقول الافغاني – ولا لسان لقوم لاآداب لهم , ولا عز لقوم لا تاريخ لهم , ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم وتنسج على منوالهم ".
إن قراءة متمهلة لنصوص الأفغاني , وليس لنصوص اولئك الذين فسروه وفقاً لأمزجتهم وميولهم , سوف توضح لنا وبما لا يرقى اليه الشك , أن هذا الرجل يتميز ممن جايلوه أو جاءوا بعده , بتلك الومضات الفكرية التي تنم عن ثقافة مترامية يندر أن نجد مثيلاً لها في الشخصيات النهوضية التي عرفها القرن التاسع عشر . ولعلنا نستطيع أن نتلمس هذه الثقافة المترامية في عدد من المسائل والإشكاليات التي تطارحها في حياته وعالجها بكثير من العمق وبذهنية حضارية نادرة. ومن هذه المسائل مسألة اللغة .
فالافغاني , وهو ينكب على مسألتي التعريب والتتريك منبهاً الى أهمية الحفاظ على اللغة العربية وصونها , يضع بين أيدينا نظرية في اللغة على درجة من الأهمية والخطورة . ولعل هذه النظرية تلتقي مع النظريات اللغوية الحديثة التي ما فتيء رجال الفكر واللغة يتحفوننا بأجمل الآراء حولها .
فاللغة , عند الأفغاني , بنية أخلاقية , وذلك بما تنتجه من آداب . وتقوم هذه الآداب بدورها بإبراز خصائص الأمة النفسية والثقافية والأخلاقية , مثلما أنها تبرز قيمها وعاداتها ومناقبها والأعراف التي تواضعت عليها .ومن هنا ذهاب الأفغاني الى أن " لكل لسان آداب " , ومن هذه الآداب تحصل ( ملكة الأخلاق ) ".
مكلة أخلاق !... هذه هي النقطة التي نجد ضرورة التوقف عندها , وهي تنهض دليلاً على ما كان جمال الدين يمتلكه من ثقافة لغوية مميزة . فاللغة , على هذا الأساس , لم تعد مجرد صياغات ومفردات وتعابير وإنما هي ( المكان ) الذي تختزن فيه أمة ما تجاربها ومناقبها كما تختزن القيم السامية فيها , وهي الى ذلك المصدر الذي تتكون فيه الأخلاق وتتبلور .
إن هذه النظرية تلتقي مع كبرى النظريات اللغوية المعاصرة . ولعل أهميتها تكمن في أن جمال الدين الأفغاني عندما أطلقها ما كان الفكر اللغوي الحديث , بعد , قد شق طريقه الى البقعة العربية – الاسلامية .
وهنا نستطيع , وبكل ثقة , أن نعقد نوعاً من المقارنة بين جمال الدين الأفغاني والمفكر الألماني هردر الذي يمكن أن نعتبره " من الرواد الأوائل الذين انصرفوا في العصر الحديث , بقسط وافر من جهودهم العلمية الى محاولة ضبط الرائد الأول للنظرية التي تعزو دوراً أساسياً للغة في تشكيل نظرة الإنسان ( الأخلاقية ) الى الكون ".
لقد رأى هردر أن اللغة ليست مجرد أداة للتعبير عن الأفكار وأيضاً التعبير عن القيم والمبادىء والعادات والتقاليد , وإنما هي ( القالب ) الذي تتقولب فيه مثل هذه الأفكار والقيم والمبادىء ... الخ .ومن هنا فقد أوجد هذه الرجل علاقة وثيقة بين خصائص اللغة وخصائص الأمة التي تتكلمها وتكتبها وتقرأ بها , الى حد أن كل أمة "تتكلم مثلما تفكر وتفكر مثلما تتكلم ". ولم تتوقف نظرية هردر عند هذا الحد وإنما ذهبت الى أن اللغة , أي لغة , بمثابة الذاكرة التي تختزن فيها أمة ما تجاربها ومعاناتها وآلامها وآمالها , فتنتقل هذه من جيل الى جيل لتقدم للأجيال اللاحقة العبر والدروس من الأجيال السابقة . من هنا فإن الخطأ أو الصواب في تجارب الماضي ينتقل – عبر اللغة – الى تجارب الحاضر والمستقبل . وعلى هذا الأساس فإن اللغة تحدد نظرة الإنسان ( الأخلاقية ) الى نفسه والى الآخرين والى كل مايحيط به من ظواهر وأشياء وموجودات.ووفق هذه النظرية لهردر فإن اللغة أصبحت , مثلما شاهدها الأفغاني ,( ملكة أخلاق ).
وليس هردر وحده من تبنى هذه النظرية وروج لها في الدراسات اللغوية الحديثة . فهناك آخرون غيره من مثل آدم شاف وإدوار سابير اللذين عرفا اللغة على أنها تلك الأداة التي تنظم تجارب الأمة وتحتفظ بالخصائص الخلقية والنفسية والفكرية لها .ويلخص آدم شاف مختلف الآراء التي تمحورت حول علاقة اللغة بالفكر , واللغة كأداة للتعبيرعن الخصائص الأخلاقية والنفسية , فيقول :" ابتداء من هردر ووليام فون همبولد على الأقل تبنت الدراسات اللغوية مرات عديدة الأطروحة القائلة بأن منظومة لغوية ما تؤثر في طريقة رؤية أهلها للعالم , وفي كيفية مفصلتهم له , وبالتالي في طريقة تفكيرهم ".ويضيف شاف :" إننا نفكر كما نتكلم , الشيء الذي يعني أن اللغة التي تحدد قدرتنا على الكلام هي نفسها التي تحدد قدرتنا على التفكير .
إذن , فإن الأفغاني كان سباقاً , وفي البقعة العربية – الاسلامية تحديداً , الى ادراك أهمية اللغة لكونها ( المكان ) الذي تختزن فيه الأمة معارفها وعلومها وتجاربها وأشياءها الحضارية . وانطلاقاً من هذه النظرة المتقدمة كان دفاعه الشرس عن اللغة العربية التي اعتبرها بمثابة ( العصبية المشروعة ) القادرة وحدها على لم شمل العرب وتحقيق وحدتهم .
وفي هذا الاطار يعقد الأفغاني مقارنة بين العرب الذين عرفوا " آداب اللسان " أي اللغة , وبين الأتراك الذين لم يعرفوا غير "آداب الحرب ".ولهذا السبب كان للعرب حضارة ومدنية , عكس الأتراك الذين " لم يحسنوا من أعمال هذه الدنيا غير الحرب ".ومن خلال هذا الطرح نستطيع أن نتلمس طريقنا نحو حديث آخر , وهو حديث العلاقة بين العروبة والاسلام .فمن الصعوبة بمكان , ولعله من المستحيل , إحداث فصل نهائي وحاد بين الاثنين .فالواحد منهما مدمج بالآخر وعلى اشد مايكون الاندماج .وعلى هذا فان الحضارة الاسلامية ذات جوهر ومضمون عربيين ومرد ذلك الى اللغة التي مكنت العرب من فهم أحكام القرآن والعمل بآدابه , على حين اقتصرت علاقة الآخرين بالاسلام , وعلى رأسهم الأتراك , على مسألة التدين والتعبد , فظلوا دون فهم أحكامه والعمل بمقتضى آدابه , وهذا الشيء " لايتم إلا باللسان , وهو أهم الأركان ".وبناءً عليه , فإن جمال الدين ذهب الى أن ثمة طابعاً عربياً للدين الاسلامي , وأن الحضارة الاسلامية نفسها – في جوهرها – عربية.
ولعل تركيز الأفغاني على رابطة اللسان عند العرب كان لها خلفية فكرية وسياسية . فالمطلوب من العرب أن يتوحدوا على أساس رابطتهم اللغوية وعلى أن تكون وحدتهم , من ثمت , قدرة ومثالاً للاحتذاء من سائر المسلمين ,ويقدم لنا الأفغاني عدداً من الأمثلة على ما كان لرابطة اللغة من تأثير على تحقيق الوحدة في أقطار مختلفة بينها إيطاليا وألمانيا.
وعن مدى هذا التأثير يتحدث , فيقول :"إنه من أكبر الجوامع التي تجمع الشتات , وتنزل من الأمة منزلة أكبر المفاخر .فكم رأينا من دول اغتصب ملكها الغير , فحافظت على لسانها محكومة , وترقبت الفرص , ونهضت بعد دهر فردت مليكها , وجمعت من ينطق بلسانها اليها , والعامل في ذلك انما هو اللسان ( = اللغة) قبل كل ما سواه , ولوفقدوا لسانهم لفقدوا تاريخهم ونسوا مجدهم , وظلوا في الاستعباد ما شاء الله ".
ولأن اللسان العربي هو " لسان الدين الطاهر " والأدب الباهر , وديوان الفضائل والمفاخر " فإن الأفغاني حض العرب على أن يكونوا سيفاً مسلولاً في وجه سياسة التتريك التي شملت كلاً من اللغة والثقافة . حتى أن الأفغاني دعا العثمانيين أنفسهم الى أن ( يتعربوا ) ويصبحوا أهلاً للمساهمة في صنع الحضارة العربية الاسلامية . وفي هذه الناحية بالذات تميز الأفغاني من المفكرين العرب القوميين المجايلين له .فهؤلاء طالبوا الأتراك العثمانيين بالتخلي عن سياسة التتريك وبأن يدعوا العرب وشأنهم , كلغة وحضارة .
ويمكن أن نلخص مطالب الحركة القومية العربية في ذلك الحين بمطلبين رئيسيين:
الأول : اعتماد ( اللامركزية ) في الادارة والحكم.
الثاني: أن تعتمد اللغة العربية , في الولايات العربية بالذات , كلغة رسمية وأساسية في برامج التعليم والتربية.
لكن الأفغاني , المفكر الذي عرف بجذريته , تجاوز هذين المطلبين داعياً العثمانيين أنفسهم الى أن يتعربوا فيصبحوا " أعز جانباً وأمنع حوزة " .وهو يقول : "... لو تعربت ( وهويعني الدولة العثمانية ) وانتفى من بين الأمتين بالعربية والتركية من النعرة القومية وزال داعي النفور والانقسام " بالتركي والعربي " وصاروا ( أمة عربية ) بكل ما في اللسان من معنى , وفي الدين الإسلامي من عدل , وفي سيرة أفاضل العرب من أخلاق , وفي مكارمهم من عادات , لكان إعادة عصر الرشيد الى المسلمين ميسوراً".
ويضيف أنه "لو أنصف الأتراك أنفسهم , وأخذوا بالحزم و( استعربوا )وترأسوا ذلك الملك وعدلوا في أهله وجروا على سنن الرشيد , أو المأمون على الأقل , ولا نقول على سنن وسيرة الخلفاء الراشدين , فما كان من دول الأرض أغنى منهم مملكة وأعز جانباً وأمنع حوزة ؟".
وبعد , فإن جمال الدين الأفغاني استطاع أن يوجد نوعاً من العلاقة الجدلية فيما بين العروبة والاسلام .وقد حصل ذلك في وقت كان الصدام محتدماً وعلى أشده بين المنادين بالرابطة الاسلامية والمنادين بالرابطة القومية العربية .
ولئن كان قد رفع شعار الجامعة الإسلامية ولم يتنكر له حتى آخر لحظة من حياته , غير أنه آمن حتى العظم بأن الدور الريادي , أو منصب القيادة , يجب أن يعطى للعرب في هذه الجامعة . فالعرب يمتلكون ( لسان الدين ) الذي يعتبره الأفغاني ( أهم الأركان ) . كما أن لهم تاريخاً وحضارة ومدنية لم تتوفر لغيرهم . ولعل هذه المعطيات , بالإضافة الى المعطى الأهم والأبرز المتمثل في الجوهر العربي للدين الاسلامي , يمحضهم حقاً شرعياً في أن يكونوا العنصر الفاعل والقيادي في الاسلام والمسلمين .
المصدر :موسوعة عصر النهضة ( جمال الدين الأفغاني وفلسفة الجامعة الاسلامية ).

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي