موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

تطبيق نظرية الإسلام عن الليل والنهار:
علي الكوراني



تنوف الآيات القرآنية التي تضمنت ذكر الليل والنهار على الستين آية، ولكن الآيات التي اختصت بالليل والنهار أو تضمنت التركيز عليهما تنوف على الثلاثين.. وهي تنقسم إلى فئتين: الفئة الأولى منها تتناول
الجانب التكويني لظاهرتي الليل والنهار، فتبين للناس مختلف أوجه الحكمة والرحمة في تكوين الليل والنهار.. في اصل خلقهما، وفي تقليب كل منهما وتكويره على الآخر، وفي ثبات نظامهما الدقيق وارتباطه بحاجة
البشر الحياتية، وفي مسيرة الليل الدائبة وراء النهار على مدار الكرة (يطلبه حثيثاً) فلا يدركه... وتدعوهم الى استيعاب الدلالة والحكمة والرحمة في هاتين الظاهرتين اللتين قُصدتا قصداً في تكوين الأرض وإعدادها
لحياتهم..
من هذه الفئة قوله عز وجل (وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة)(الاسراء _ 12).
وقوله تعالى (ان ربكم الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثا.. والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره. الا له الخلق والامر. تبارك الله رب العالمين)(
الاعراف _ 54).
وقوله تعالى: (أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة..؟ من إله غير الله يأتيكم بضياء؟ أفلا تسمعون) .
(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة..! من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ أفلا تبصرون؟).
(ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار: لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون)(القصص/ 31_33).
وقوله تعالى: (ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)(آل عمران/ 190).
والفئة الثانية تتناول الجانب الوظيفي لليّل والنهار، وتدعو الناس لأن يجعلوا حياتهم منسجمة مع الوظيفة الطبيعية لكل منهما.
قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتا، وجعل النهار نشورا)(الفرقان _ 47).
وغرضنا في هذا القسم. أن نتبين منه رأي الاسلام في الجانب الوظيفي لليل والنهار ثم نتبين مدى فاعلية توقيت الصلاة في تطبيق هذا الرأي.
وخير صياغة لرأي الإسلام عن وظيفة الليل والنهار على ضوء هذه الآيات، هذا المطلع البليغ من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام.
"الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوّته، وميّز بينهما بقدرته، وجعل لكل واحد منهما حداً محدوداً، وأمداً ممدوداً.. يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به وينشؤهم عليه -
فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب، وجعله لباساً ليلبسوا من راحته ومنامه فيكون ذلك لهم جماعا وقوة، ولينالوا به لذة وشهوة.
وخلق لهم النهار مبصرا ليبتغوا من فضله وليتسببوا الى رزقه ويسرحوا في أرضه طلباً لما فيه نيل العاجل من دنياهم ودرك الآجل في أخراهم.
بكل ذلك يصلح شأنهم، ويبلوا أخبارهم، وينظر كيف هم في أوقات طاعته ومنازل فروضه ومواقع أحكامه.. ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.. عدلا منه تقدست أسماؤه وتظاهرت
آلاؤه..".
فالجانب الوظيفي لليل في رأي الاسلام هو السكن لهذا الجهاز الانساني، أما الحركة فهي اضطرار مخالف لوظيفة الليل الطبيعية.
والجانب الوظيفي للنهار هو العمل والنشور _السرح في الأرض _ أما السكون فهو مخالف لوظيفة النهار الطبيعية، اللهم إلا راحة الظهيرة القصيرة التي تنص عليها الآية 58 من سورة النور (يا أيها الذين آمنوا
ليستئذنكم الذين ملكت ايمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات في اليوم... وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) ، والتي تكون بحكم الاكتفاء بسكن الليل ارتياحا موجزاً لتجديد النشاط عقب شوط العمل..
وقد تمثل جانب التوعية النظرية بتقرير الإسلام رأيه عن الجانب التكويني والجانب الوظيفي لليل والنهار وتركيزه والتأكيد عليه، وهو ما تكفلت به الفئتان من الآيات التي أشرنا اليها والعديد من نصوص السنة التي
فصلت النظرية وشرحتها، كقوله (ص) "لا سهر إلا في ثلاثة، تهجد بالقرآن، أو في طلب العلم، أو عروس تهدى إلى زوجها" رواه في الخصال.
وأما الجانب التشريعي لمعالجة هذه الناحية من حياة الناس فأراه يتمثل أكثر ما يتمثل في توقيت الصلاة الصباحية والمسائية.. فقد فرض الله عز وجل على الناس أن يستيقظوا قبل طلوع الشمس ليؤدوا صلاتهم بين
يديه سبحانه إيذاناً ببدء النشور وانتهاء السبات، كما فرض عليهم أن يؤدوا صلاة أخرى في المساء إعلاناً بختام فترة النشور ودخول فترة السكون.
إن صلاة الصباح والمساء إذ تحددان بصورة طبيعية وأكيدة بدء العمل ونهايته لترسمان لنا صورة المجتمع المسلم، المسلم إرادته لله عز وجل.
مجتمع يهب مع الفجر على انسياب الأذان بصوت الإعلان الخالد (الله أكبر) يهب للماء يفتح به نشاطه بعد استجمام ويمثل بين يدي الرب الرحيم، بادئاً يومه الجديد باسمه وبعونه وبهدايته وفي طريقه..
مجتمع يتنفس أناسه مع تنفس الطبيعة الرائع وتتفتح قلوبهم باشراقة الصلاة مع تفتح قلب الطبيعة باشراقة التسبيح، فيمتزج ابتهال الإنسان في موكب سعيد من تغريد وثغاء وأريج وهديل يعم المدن والقرى والسهول
والسفوح والقمم فرحة بيوم جديد وبأمل جديد.. ثم ينطلق هذا الموكب في نشاطه بعين الله وبعونه يقيم حياته ويعمر أرضه ويصرف شؤونه.. حتى إذا نثرت عليه الشمس ثمالة أشعتها وعسعس الليل مؤذناً بالسكون
عسعس موكب الحياة المبارك إلى مهاد أمن الله في ختام رائع يلتف فيه حنان الثغاء بزقزقة الأوكار وإياب النسيم بارتياح الزهور وتنزل الملائكة بصلاة الختام، حيث يعود الناس من سرحهم وكدحهم إلى بيوت الله
يشكرونه على توفيق يومهم ويعتذرون اليه لما فرط منهم ويستهدونه لأيامهم المقبلة ويستمدون منه المعونة للسير في المهمة التي خلقهم من أجلها وهداهم اليها، ثم ليسكنوا إلى أهليهم من حركات التعب ونهضات
النصب ليكون ذلك لهم جماعاً وقوة وسعادة..
ولافتتاح النهار أثر كبير في سلوك الإنسان فان المفهوم الذي تفتتح به نشاطك والشعور الذي تتلقاه في الصباح ينعكسان على عملك في النهار بشعور أو لا شعور. وماذا أبلغ من أن يفتتح المجتمع البشري نشاطهم في
أرضهم بصلاة بين يدي رب الأرض والوجود عز وجل يستهدونه الطريق ويستعينونه على الأهداف ثم ليسرحوا في أرضه ويبتغوا من فضله..
وختام النهار كافتتاحه أو هو أشد حاجة لعودة إلى الله ووقفة تضع الناس بحصيلة نهارهم بين يديه ليباركوا نتاجهم الخيّر وجهدهم المبرور وينفضوا عنهم أوضار النهار وأثقاله وآثامه..
وماذا باستطاعة حضارة الإنفصام عن الله، أن تحقق للناس غير انفصالهم عن الطبيعة وعن أنفسهم؟
لو كان الناس أكفاء لإسعاد أنفسهم في الدنيا بدون هدى الله لانتظموا مع الطبيعة في منهج البكور والعودة على الأقل!
تحديد شوط العمل بصلاة الظهر:
إذا بلغ النهار منتصفه وجب على الناس أن يؤدوا صلاة الظهر، وفي هذا التوقيت علاج لمسألتين مهمتين في حياة الناس:
الاولى: تصفية الشوائب التي تعلق بنفس الإنسان من غمرة الحركة. فإن باستطاعتك أن تدرس فردا أو أفراد من الناس لترى الفرق الكبير بين حالتهم النفسية في الصباح حينما توجهوا الى أعمالهم باسم الله وعلى
بركته، وبين حالتهم النفسية قرابة الظهر وقد قطعوا شوطا من العمل في طلب الرزق..
سترى مجتمعا استغرق في حركة السعي لرزقه حتى كاد ينسى مفهومه عن السعي، وسترى الروح الفردية قد تسربت في افراده حتى ليكاد الواحد منهم أن ينحصر في جوه ومشاغله الخاصة ناسياً بذلك وجوده
المجموعي ومسؤولياته في ذلك..
فحركة العمل بطبيعة كونها ارتباطا بكسب وشؤون شخصية تشد الإنسان إلى أن يعيش في إطاره الشخصي ويحرص على صغير الحطام وتبعده عن فهمه الواسع للحياة واحساسه بموقفه منها..
انه داء النسيان يعاود الانسان في غمرة علائقه بالدنيا فيتهدد مفهومه عن المال والذات ويتهدد هدفه من كدحه وسرحه حتى تكاد تنفذ من قلبه شحنة المشاعر الجيدة التي تلقاها في الصباح فلا يعيده إليها الاّ نداء يأتي
من مختلف الجنبات معلناً (الله أكبر) لتتجاوب معه أعماق الضمير قائلة: نعم، الله أكبر.. نداء وكأنه يد الغيب الرفيقة تمتد فتنتشل الناس من نسيانهم لتضعهم بين يدي ربهم الأكبر عز وجل، أمام مفاهيمهم ومشاعرهم
وأهدافهم من حياتهم الدنيا.. وحياتهم العليا..
والمسألة الثانية: التي يعالجها توقيت الصلاة بانتصاف النهار: مسألة تحديد شوط العمل فمن الواضح من صورة المجتمع الإسلامي أن أذان الظهر يعلن انتهاء شوط العمل الصباحي فيه، ويدعو الناس لأداء فريضتهم
وتناول غذائهم..
لقد أحكم الله سبحانه بقدرته خلق الإنسان فجعل نفسه وجسده يحتاجان إلى الطاقة في آن، فما أن تبلغ الشمس كبد السماء حتى تحتاج النفس إلى استعادة معطى الاسلام من المفاهيم والاهداف في صلاة بين يدي الله
تبارك وتعالى، ويحتاج الجسم الى وجبة الغذاء وقليل من الراحة.
إن الصورة الاسلامية المفضلة للعمل في الأرض أن يكون انتصاف النهار نهاية لشوط الصباح وبملاحظة البكور في النشور الذي تفرضه صلاة الفجر فإن الدوام الرسمي يكون فترة واحدة تنتهي بصلاة الظهر، أم
الأعمال الحرة فتكون على فترتين تبدأ أولاهما بطلوع الشمس أو بعده بقليل وتنتهي بصلاة الظهر، وتبدأ الثانية بعد راحة الظهيرة وصلاة العصر وتنتهي بصلاة المغرب.. ثم يكون السكون والاستجمام.
ونلمس حرص الاسلام على هذه الصورة لمجتمعه من تأكيده بشكل خاص على الصلاة الوسطى، صلاة الظهر، فقد ورد في تفسير قوله تعالى (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) ان الصلاة الوسطى هي
صلاة الظهر.
فلسفة الصلاة

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي