ما هي العوامل العامة التي تؤدي بشكل أو بآخر الى فتور الحس الغيبي
عند الانسان ؟
يمكن أن نتصور تلك العوامل في مجموع أمور , إما باجتماعها معاً أو
على سبيل منع الخلو , وهي :
1) غلو العامي في تعاطيه مع الغيب . فمع أن الغيب حقيقة قائمة
ومؤثرة , وأن المطلوب من الانسان التعويل عليها , لكن قد يحدث خاصة
في أوساط العوام من الناس إفراط في العلاقة مع الغيب , إما من خلال
التعويل المطلق عليه والتوقف عن النشاط والحركة . ولا شك أن هذا
منهج خاطيء لايرضى به الدين ونهى عنه في مواقع عديدة ... فقد روي
أنه لما نزل قوله تعالى : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه
من حيث لايحتسب )) , انقطع رجال من الصحابة في بيوتهم واشتغلوا
بالعبادة وثوقاً بما يضمن الله لهم , فعلم النبي ( ص ) بذلك فعاب
مافعلوه , وقال : إني لأبغض الرجل فاغراً فاه الى ربه , اللهم
ارزقني ويترك الطلب )) , كما أن الامام علي ( ع ) مر يوماً على قوم
فرآهم أصحاء جالسين في زاوية المسجد فقال ( ع ) : من أنتم ؟ قالوا
نحن المتوكلون , قال ( ع ) لا , بل أنتم المتأكلة , فإن كنتم
متوكلين فما بلغ بكم توكلكم ؟ قالوا : إذا وجدنا أكلنا , وإذا
فقدنا صبرنا , قال ( ع ) :
هكذا تفعل الكلاب عندنا ! قالوا : كيف تفعل ؟ قال : إذا وجدنا
بذلنا , وإذا فقدنا شكرنا , فرغم أن هذه الطريقة منبوذة , إلا أنها
قد تظهر مرات عديدة في وسط العوام في صور لاشعرية , وهذه حالة من
حالات الإفراط في التعاطي مع الغيب . وقد تظهر حالة الافراط أيضاً
في التقديس اللامحدود والتسليم الجنوبي لبعض الصالحين الاحياء من
غير المعصومين , بحيث يتم كل ذلك من منطلق غيبي , أي ينظر الى
الرجل الصالح على أنه متصل بالغيب وبالتالي فإن كل تصرفاته تامة
الصحة ولا يمكن تصور الخطأ فيها .
ولاشبهة في أن هذا المنهج خاطىء دينياً , فالتصويب المطلق لغير
المعصوم ( ع ) مستنكر في الدين , فقد روي أبو حمزة الثمالي قال :
قال أبو عبد الله الصادق ( ع ) : إياك والرئاسة , وإياك أن تطأ
أعقاب الرجال . فقلت : جعلت فداك , فأما الرئاسة فقد عرفتها , وأما
أن أطأ أعقاب الرجال , فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب
الرجال ؟ فقال ( ع ) : ليس حيث تذهب , إياك أن تنصب رجلاً دون
الحجة فتصدقه في كل ماقال .
هذه صور لغلو العامي في التعاطي مع الغيب , وهناك أمثال عديدة ,
يمكن أن تلحظ في تفاصيل الحياة اليومية لعموم الناس , في أقوالهم
وأفعالهم وتصوراتهم . والشاهد في ذلك أن البعض حين يبصر هذه
التصرفات الخاطئة تنشأ لديه إنطباعات سلبية على ذات التصرفات في
البدء , ثم تتدرج عنده هذه الحالة – كما هو شأن كل المواقف النفسية
التي تتعاظم إذا أرخي لها العنان – الى أن تدفعه الى الرفض المطلق
لتلك التصرفات بما فيها من مساويء ومحاسن , فيرتكب بذلك خطأ من حيث
لايشعر . وليس هذا محض ادعاء وإنما هو حالة فعلية نشأت واقعاً عن
الكثير , ولوحظت عند العديد من النقاد , حيث كانت ردود أفعالهم
شاملة لمجرد استنكارهم لبعض الأخطاء النسبية .
فحيث إنه يرفض بعض الممارسات الروحية الخاطئة , تجده فيما بعد
يرفضها كلاً , وحيث أنه يشكل على التعويل المطلق على الغيب , تجده
أيضاً يرفض ذلك كلاً ويتمحض في التعويل على المادة , وبما أنه
لايرى صحة الإفراط في الاعتماد على الاستخارة مثلاً , ترى أنه
يرفضها رفضاً مطلقاً ويمضي عنها بلا عودة , وهكذا في سائر الأمور .
حيث تكون ردود الأفعال على مجموع الملاحظات السلبية سبباً في
استغفال تجليات الغيب الواقعية .
2) التباشر المستمر مع منكري الغيب . إن جملة من منكري الأمور
الغيبية , خاصة الذين لايجدون أي حرج في التصريح بذلك , عادة
مايمارسون أساليب استفزازية من شأنها تثبيط من يعتقد بها – الأمور
الغيبية - , إما عبر الاستهزاء واستصغار ما يقال أمامهم ووصمه
بالجهل والتخلف , أو بتعمد التجاهل وعدم إيلاء أي اهتمام له , وكل
ذلك لإيجاد كابح نفسي عند الآخر .
وهذه منهجية ليست جديدة , وإنما هي قديمة قدم الانسان , فالإنسان
غير المؤمن لأنه لا يستطيع أن يعبر عن آرائه بصور علمية , فإنه
يلجأ الى اعتماد السخرية والاستهزاء والتقليل من شأن الغير . يقول
تعالى : " ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما
كانوا به يستهزئون "( الأنعام / 10 )." زين للذين كفروا الحياة
الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة
...." ( البقرة / 212 ) .
وإنما يعمد هؤلاء للاستهزاء والسخرية , ليثبطوا عزيمة المؤمن
ويدفعوه إما للتشكيك فيما يعتقد أو لعدم التجاهر به , وقد يتأثر
البعض فعلاً من ذلك , في حين أن الموقف الصحيح للإنسان المؤمن في
مثل هذه الحالات هو عدم التزعزع , ومحاولة التترس العلمي بالمستوى
الذي يثبته على يقينياته ومبادئه من جهة , ومن جهة أخرى ينبغي
اعتماد منهج الهجوم العلمي على أمثال هؤلاء .
وهذا هو تماماً ما كان يمارسه الرسل وأوصياؤهم , فما إن يروا جمعاً
أو أفراداً من أمثال هؤلاء , إلا ويهاجموهم ويعلنوا أمامهم قيم
الدين بكل جرأة وشجاعة وباعتزاز تام لاحياء فيه . ولهذا نجد عشرات
الآيات في القرآن الكريم يرد فيها " ياقوم " كما في قوله تعالى : "
قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره " ( الأعراف / 65 ) .
فيؤثرون ولايتأثرون وإنما يبقوا على ما هم عليه من الايمان : " قال
ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة
الدار إنه لايفلح الظالمون " ( الأنعام / 135 ) . فأنتم اعملوا ما
شئتم , ولكن عملكم لن يؤثر فينا , لأننا سنبقى نعمل ما نراه صواباً
, والمستقبل كفيل بايضاح النتيجة . هكذا يكون موقف الإنسان المؤمن
. لكن مما يلفت النظر أن البعض بفعل احتكاكهم المستمر , إما
الاحتكاك المباشر أو غير المباشر , قد يجدون في أنفسهم في كثير من
الأحيان شيئاً من الخجل حين يهموا باظهار ما يعتقدون به , مما
يضطرهم الى التراجع وإيجاد مبرر علمي لذلك التراجع وهو ضرورة
مراعاة الأجواء ونفسية المخاطب .
لكن هذا الخجل يجعل الانسان هو بذاته مع الزمن متقهقراً في تعاطيه
مع معتقداته وأحدها الغيب , فهو إما ينشأ لديه تشكيك – وهذه هي
أسوء الحالات – أو برود وجفاء على أقل تقدير . لهذا قال الإمام علي
( ع ) لا: " من اشتبه عليكم أمره , ولم تعرفوا دينه , فانظروا الى
خلطائه ".
ولأهمية هذا الأمر فإننا نجد أن الدين أوصى كثيراً على ضرورة
اختيار المناسبة التي تحافظ على عقل الإنسان المؤمن . حتى أنك تجد
بعض الآيات القرآنية والروايات الشريفة تحرض المؤمن على الهروب من
الأجواء الفاسدة لما لها من أثر على العقل والذي عادة ينساب بشكل
خفي . يقول تعالى : " يوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت
مع الرسول سبيلاً , ياويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً , لقد
أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً " (
الفرقان 27- 29 ) . وقال الإمام علي ( ع ) : " قارن أهل الخير تكن
منهم , وباين أهل الشر تبن عنهم ".
فهذا هو وجه ما قصدته من التباشر المستمر مع منكري الغيب , وكيف
أنه يشكل سبباً مهماً لزرع التحفظات في نفسية وعقلية الإنسان , إذ
إنه بفعل مواصلته المستمرة معهم يتراجع عملياً عن التصريح
بمعتقداته الغيبية , ثم ما يلبث ذلك أن يؤثر فعلاً عليه حيث يكبح
اندفاعه النفسي ويؤثر على إيمانه العقلي . وهذا ماحدث ويحدث في
كثير من الأوساط الثقافية .
3) المقايسة غير المتكافئة بين عالمنا المتأخر – الذي هو على صلة
وثيقة مع القضايا الغيبية – والعالم الآخر المتقدم – المنقطع فعلاً
عن الغيب – ( إن هذه المقايسة أشعرت الكثيرين خاصة الذين توغلوا في
الانتفاح على الغرب والشرق , بأن لاجدوائية ترجى من الغيب والمعيار
الفعلي لنجاح الإنسان وفشله هو العمل فقط . فيكون لسان حالهم آنئذ
أن الغيب لاشك موجود لكن لا أثر له ولا حاكمية , وإنما الحاكمية
الفعلية للإنتاج , وما يقال في الأجواء المتدينة من شرطية التوفيق
ضرب من الخيال واللاواقعية .)
ويبدو أن الرحلة الفكرية والسياسية نحو العالم الآخر – الغربي
والشرقي – بدأت من هنا , حيث أخذ الكثير من مثقفي العالم الإسلامي
يقيسون بين نموذجين , نموذج متقدم وآخر متخلف , وحيث إن المتقدم هو
الأكثر جاذبية فقد أخذت الأنظار تتجه اليه .
ولايخفى أن الإنسان عندما ينبهر بشيء يربط نجاحه بمجموع الأفكار
والقيم والمعتقدات الحاكمة في وسطه , وفي نفس الوقت يربط فشل غيره
بمجموع الأفكار الرائجة في وسطه أيضاً , فيحدث على إثر ذلك الكسر
والانكسار, حيث تهمش قيم الثاني وينظر اليها على أنها مظهر وسبب
للتخلف , ويرفع من شأن الأولى لدرجة ينظر اليها على أنها السبب
الأوحد للتقدم والازدهار .
وهذا ما يفسر لنا دعوات الكثير من مثقفي عالمنا , الذين كانوا
يتبنون وبشكل صارخ فكرة أن التقدم لايمر إلا عبر الغرب , معلنين
بصراحة أن العالم الإسلامي لن يكتب له التقدم إلا إذا فعل ما فعله
الغرب , فانفك عن قيوده الدينية وتجاوز المتبينات الماورائية وتمرد
على المؤسسة الدينية , وما الى ذلك , فكما حدث هناك ينبغي أن يحدث
هنا . وهذا هو تماماً عين ما يبحث اجتماعياً ونفسياً تحت عنوان "
مشكلة التداخل بين الغالب والمغلوب " .
هذا على المستوى الكلي – كما هو ملاحظ تاريخياً - , وعلى المستوى
الجزئي ما نحن فيه , حيث إن الإعجاب والتفوق الحاصل لدى الآخر ينظر
اليه من خلال هذا العنصر وهو الاعتماد على الماورائيات , أي أنهم
يربطون بين تقدمهم وبين ابتعادهم عن الغيب , فتكون النتيجة هنا
الربط بين التأخر وبين القرب من الغيب .
وكل ذلك طبعاً ينشأ بسبب عدم القراءة العلمية للآخر , حيث تقتصر
القراءة على عناصرالابهار الحالية , وتتناسى العناصر الأخرى , التي
تحتاج الى قارىء نافذ البصيرة , كالذي توقع سقوط الشرق – المنظومة
الشيوعية – قبل عشرات السنين , لا الذين انجرفوا وراءه كالمجانين .
ولو نظروا الى الواقع اليوم لاكتشفوا أي الفريقين أصح .
إن قراءة الآخر ينبغي أن تكون علمية لا عاطفية , وبرؤية مستقبلية
لا آنية . كما أن قراءة الذات ينبغي أن تكون كذلك . ولأن الحالة
العاطفية الآنية قد تؤثر في الغالب الأغلب , نجد القرآن الكريم
يؤكد على ذلك مرات عديدة , فينهى المؤمنين الأوائل عن النظر بعين
جذاء قاصرة الى تقدم غيرهم . فقد قال تعالى : " قل هل يستوي الخبيث
والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ... " ( المائدة / 100 ) . " فلا
تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم في الحياة
الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " ( التوبة / 55 ) . إذاً
فالمقايسة اللامتكافئة في بعض صورها تؤثر سلباً على الأفق الفكري
للمقيس , فتلقي بظلالها على قناعاته وتصوراته , وهي هنا تكون سبباً
للتحفظ على الأمور الغيبية .
المصدر : عن ثقافة النهضة ( مؤسسة الانتشار العربي )