موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفكر الإسلامي

مثبّطات التوجه نحو الغيب
فيصل العوامي



ما هي العوامل العامة التي تؤدي بشكل أو بآخر الى فتور الحس الغيبي عند الانسان ؟
يمكن أن نتصور تلك العوامل في مجموع أمور , إما باجتماعها معاً أو على سبيل منع الخلو , وهي :
1) غلو العامي في تعاطيه مع الغيب . فمع أن الغيب حقيقة قائمة ومؤثرة , وأن المطلوب من الانسان التعويل عليها , لكن قد يحدث خاصة في أوساط العوام من الناس إفراط في العلاقة مع الغيب , إما من خلال التعويل المطلق عليه والتوقف عن النشاط والحركة . ولا شك أن هذا منهج خاطيء لايرضى به الدين ونهى عنه في مواقع عديدة ... فقد روي أنه لما نزل قوله تعالى : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب )) , انقطع رجال من الصحابة في بيوتهم واشتغلوا بالعبادة وثوقاً بما يضمن الله لهم , فعلم النبي ( ص ) بذلك فعاب مافعلوه , وقال : إني لأبغض الرجل فاغراً فاه الى ربه , اللهم ارزقني ويترك الطلب )) , كما أن الامام علي ( ع ) مر يوماً على قوم فرآهم أصحاء جالسين في زاوية المسجد فقال ( ع ) : من أنتم ؟ قالوا نحن المتوكلون , قال ( ع ) لا , بل أنتم المتأكلة , فإن كنتم متوكلين فما بلغ بكم توكلكم ؟ قالوا : إذا وجدنا أكلنا , وإذا فقدنا صبرنا , قال ( ع ) :
هكذا تفعل الكلاب عندنا ! قالوا : كيف تفعل ؟ قال : إذا وجدنا بذلنا , وإذا فقدنا شكرنا , فرغم أن هذه الطريقة منبوذة , إلا أنها قد تظهر مرات عديدة في وسط العوام في صور لاشعرية , وهذه حالة من حالات الإفراط في التعاطي مع الغيب . وقد تظهر حالة الافراط أيضاً في التقديس اللامحدود والتسليم الجنوبي لبعض الصالحين الاحياء من غير المعصومين , بحيث يتم كل ذلك من منطلق غيبي , أي ينظر الى الرجل الصالح على أنه متصل بالغيب وبالتالي فإن كل تصرفاته تامة الصحة ولا يمكن تصور الخطأ فيها .
ولاشبهة في أن هذا المنهج خاطىء دينياً , فالتصويب المطلق لغير المعصوم ( ع ) مستنكر في الدين , فقد روي أبو حمزة الثمالي قال : قال أبو عبد الله الصادق ( ع ) : إياك والرئاسة , وإياك أن تطأ أعقاب الرجال . فقلت : جعلت فداك , فأما الرئاسة فقد عرفتها , وأما أن أطأ أعقاب الرجال , فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال ؟ فقال ( ع ) : ليس حيث تذهب , إياك أن تنصب رجلاً دون الحجة فتصدقه في كل ماقال .
هذه صور لغلو العامي في التعاطي مع الغيب , وهناك أمثال عديدة , يمكن أن تلحظ في تفاصيل الحياة اليومية لعموم الناس , في أقوالهم وأفعالهم وتصوراتهم . والشاهد في ذلك أن البعض حين يبصر هذه التصرفات الخاطئة تنشأ لديه إنطباعات سلبية على ذات التصرفات في البدء , ثم تتدرج عنده هذه الحالة – كما هو شأن كل المواقف النفسية التي تتعاظم إذا أرخي لها العنان – الى أن تدفعه الى الرفض المطلق لتلك التصرفات بما فيها من مساويء ومحاسن , فيرتكب بذلك خطأ من حيث لايشعر . وليس هذا محض ادعاء وإنما هو حالة فعلية نشأت واقعاً عن الكثير , ولوحظت عند العديد من النقاد , حيث كانت ردود أفعالهم شاملة لمجرد استنكارهم لبعض الأخطاء النسبية .
فحيث إنه يرفض بعض الممارسات الروحية الخاطئة , تجده فيما بعد يرفضها كلاً , وحيث أنه يشكل على التعويل المطلق على الغيب , تجده أيضاً يرفض ذلك كلاً ويتمحض في التعويل على المادة , وبما أنه لايرى صحة الإفراط في الاعتماد على الاستخارة مثلاً , ترى أنه يرفضها رفضاً مطلقاً ويمضي عنها بلا عودة , وهكذا في سائر الأمور . حيث تكون ردود الأفعال على مجموع الملاحظات السلبية سبباً في استغفال تجليات الغيب الواقعية .
2) التباشر المستمر مع منكري الغيب . إن جملة من منكري الأمور الغيبية , خاصة الذين لايجدون أي حرج في التصريح بذلك , عادة مايمارسون أساليب استفزازية من شأنها تثبيط من يعتقد بها – الأمور الغيبية - , إما عبر الاستهزاء واستصغار ما يقال أمامهم ووصمه بالجهل والتخلف , أو بتعمد التجاهل وعدم إيلاء أي اهتمام له , وكل ذلك لإيجاد كابح نفسي عند الآخر .
وهذه منهجية ليست جديدة , وإنما هي قديمة قدم الانسان , فالإنسان غير المؤمن لأنه لا يستطيع أن يعبر عن آرائه بصور علمية , فإنه يلجأ الى اعتماد السخرية والاستهزاء والتقليل من شأن الغير . يقول تعالى : " ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون "( الأنعام / 10 )." زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ...." ( البقرة / 212 ) .
وإنما يعمد هؤلاء للاستهزاء والسخرية , ليثبطوا عزيمة المؤمن ويدفعوه إما للتشكيك فيما يعتقد أو لعدم التجاهر به , وقد يتأثر البعض فعلاً من ذلك , في حين أن الموقف الصحيح للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات هو عدم التزعزع , ومحاولة التترس العلمي بالمستوى الذي يثبته على يقينياته ومبادئه من جهة , ومن جهة أخرى ينبغي اعتماد منهج الهجوم العلمي على أمثال هؤلاء .
وهذا هو تماماً ما كان يمارسه الرسل وأوصياؤهم , فما إن يروا جمعاً أو أفراداً من أمثال هؤلاء , إلا ويهاجموهم ويعلنوا أمامهم قيم الدين بكل جرأة وشجاعة وباعتزاز تام لاحياء فيه . ولهذا نجد عشرات الآيات في القرآن الكريم يرد فيها " ياقوم " كما في قوله تعالى : " قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره " ( الأعراف / 65 ) . فيؤثرون ولايتأثرون وإنما يبقوا على ما هم عليه من الايمان : " قال ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لايفلح الظالمون " ( الأنعام / 135 ) . فأنتم اعملوا ما شئتم , ولكن عملكم لن يؤثر فينا , لأننا سنبقى نعمل ما نراه صواباً , والمستقبل كفيل بايضاح النتيجة . هكذا يكون موقف الإنسان المؤمن . لكن مما يلفت النظر أن البعض بفعل احتكاكهم المستمر , إما الاحتكاك المباشر أو غير المباشر , قد يجدون في أنفسهم في كثير من الأحيان شيئاً من الخجل حين يهموا باظهار ما يعتقدون به , مما يضطرهم الى التراجع وإيجاد مبرر علمي لذلك التراجع وهو ضرورة مراعاة الأجواء ونفسية المخاطب .
لكن هذا الخجل يجعل الانسان هو بذاته مع الزمن متقهقراً في تعاطيه مع معتقداته وأحدها الغيب , فهو إما ينشأ لديه تشكيك – وهذه هي أسوء الحالات – أو برود وجفاء على أقل تقدير . لهذا قال الإمام علي ( ع ) لا: " من اشتبه عليكم أمره , ولم تعرفوا دينه , فانظروا الى خلطائه ".
ولأهمية هذا الأمر فإننا نجد أن الدين أوصى كثيراً على ضرورة اختيار المناسبة التي تحافظ على عقل الإنسان المؤمن . حتى أنك تجد بعض الآيات القرآنية والروايات الشريفة تحرض المؤمن على الهروب من الأجواء الفاسدة لما لها من أثر على العقل والذي عادة ينساب بشكل خفي . يقول تعالى : " يوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً , ياويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً , لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً " ( الفرقان 27- 29 ) . وقال الإمام علي ( ع ) : " قارن أهل الخير تكن منهم , وباين أهل الشر تبن عنهم ".
فهذا هو وجه ما قصدته من التباشر المستمر مع منكري الغيب , وكيف أنه يشكل سبباً مهماً لزرع التحفظات في نفسية وعقلية الإنسان , إذ إنه بفعل مواصلته المستمرة معهم يتراجع عملياً عن التصريح بمعتقداته الغيبية , ثم ما يلبث ذلك أن يؤثر فعلاً عليه حيث يكبح اندفاعه النفسي ويؤثر على إيمانه العقلي . وهذا ماحدث ويحدث في كثير من الأوساط الثقافية .
3) المقايسة غير المتكافئة بين عالمنا المتأخر – الذي هو على صلة وثيقة مع القضايا الغيبية – والعالم الآخر المتقدم – المنقطع فعلاً عن الغيب – ( إن هذه المقايسة أشعرت الكثيرين خاصة الذين توغلوا في الانتفاح على الغرب والشرق , بأن لاجدوائية ترجى من الغيب والمعيار الفعلي لنجاح الإنسان وفشله هو العمل فقط . فيكون لسان حالهم آنئذ أن الغيب لاشك موجود لكن لا أثر له ولا حاكمية , وإنما الحاكمية الفعلية للإنتاج , وما يقال في الأجواء المتدينة من شرطية التوفيق ضرب من الخيال واللاواقعية .)
ويبدو أن الرحلة الفكرية والسياسية نحو العالم الآخر – الغربي والشرقي – بدأت من هنا , حيث أخذ الكثير من مثقفي العالم الإسلامي يقيسون بين نموذجين , نموذج متقدم وآخر متخلف , وحيث إن المتقدم هو الأكثر جاذبية فقد أخذت الأنظار تتجه اليه .
ولايخفى أن الإنسان عندما ينبهر بشيء يربط نجاحه بمجموع الأفكار والقيم والمعتقدات الحاكمة في وسطه , وفي نفس الوقت يربط فشل غيره بمجموع الأفكار الرائجة في وسطه أيضاً , فيحدث على إثر ذلك الكسر والانكسار, حيث تهمش قيم الثاني وينظر اليها على أنها مظهر وسبب للتخلف , ويرفع من شأن الأولى لدرجة ينظر اليها على أنها السبب الأوحد للتقدم والازدهار .
وهذا ما يفسر لنا دعوات الكثير من مثقفي عالمنا , الذين كانوا يتبنون وبشكل صارخ فكرة أن التقدم لايمر إلا عبر الغرب , معلنين بصراحة أن العالم الإسلامي لن يكتب له التقدم إلا إذا فعل ما فعله الغرب , فانفك عن قيوده الدينية وتجاوز المتبينات الماورائية وتمرد على المؤسسة الدينية , وما الى ذلك , فكما حدث هناك ينبغي أن يحدث هنا . وهذا هو تماماً عين ما يبحث اجتماعياً ونفسياً تحت عنوان " مشكلة التداخل بين الغالب والمغلوب " .
هذا على المستوى الكلي – كما هو ملاحظ تاريخياً - , وعلى المستوى الجزئي ما نحن فيه , حيث إن الإعجاب والتفوق الحاصل لدى الآخر ينظر اليه من خلال هذا العنصر وهو الاعتماد على الماورائيات , أي أنهم يربطون بين تقدمهم وبين ابتعادهم عن الغيب , فتكون النتيجة هنا الربط بين التأخر وبين القرب من الغيب .
وكل ذلك طبعاً ينشأ بسبب عدم القراءة العلمية للآخر , حيث تقتصر القراءة على عناصرالابهار الحالية , وتتناسى العناصر الأخرى , التي تحتاج الى قارىء نافذ البصيرة , كالذي توقع سقوط الشرق – المنظومة الشيوعية – قبل عشرات السنين , لا الذين انجرفوا وراءه كالمجانين . ولو نظروا الى الواقع اليوم لاكتشفوا أي الفريقين أصح .
إن قراءة الآخر ينبغي أن تكون علمية لا عاطفية , وبرؤية مستقبلية لا آنية . كما أن قراءة الذات ينبغي أن تكون كذلك . ولأن الحالة العاطفية الآنية قد تؤثر في الغالب الأغلب , نجد القرآن الكريم يؤكد على ذلك مرات عديدة , فينهى المؤمنين الأوائل عن النظر بعين جذاء قاصرة الى تقدم غيرهم . فقد قال تعالى : " قل هل يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ... " ( المائدة / 100 ) . " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " ( التوبة / 55 ) . إذاً فالمقايسة اللامتكافئة في بعض صورها تؤثر سلباً على الأفق الفكري للمقيس , فتلقي بظلالها على قناعاته وتصوراته , وهي هنا تكون سبباً للتحفظ على الأمور الغيبية .
المصدر : عن ثقافة النهضة ( مؤسسة الانتشار العربي )

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفكر الإسلامي