القضية النسائية قضية سياسية، خاضعة لكل خصوصيات النظام القائم في
منطقة من المناطق بقدر ما هي قضية اجتماعية وإيديولوجية وتربوية.
وردت عند مونتسكيو ال عبارة التالية:
"كل أسرة خاصة يجب أن يسيطر عليها رسم الأسرة الكبرى التي تشمل
عليها جميعاً وإذا وجد للشعب في مجموعة مبدأ فإنه يكون للأجزاء
التي يتألف منها مبدأ أيضاً"1 منسجم تمام الانسجام، مع السمات
العامة المكونة للنظام السياسي، وإذ تسعى الأسرة دون وعي منها
للالتزام بما يتلاءم مع الأبعاد القانونية الرسمية، لا بد أن تحيط
بالأفراد الاستعدادات التلقائية الناجمة عن خط الدولة ونهجها
العام، كأن تغذى عقد الخوف في الدولة الاستبدادية لتحل الصراحة وحب
الفضيلة في البلاد ذات الأنظمة الديمقراطية والمتحررة.
والخوف في الحكومات المستبدة ينشأ من تلقاء نفسه بين الوعيد
والعقاب والشرق في الملكيات يعزز بالعواطف2.
ذلك لأن روح الاعتدال لابد أن تسود روح الأفراد عندما تسود روح
المشترع فالخير السياسي كالخير الخلقي3.
ولابد للقوانين الحديثة من أن تتبع القوانين السياسية وذلك لأنها
وضعت في سبيل المجتمع دائماً4.
والمرأة لابد أن تكون ظاهرة من الظواهر الاجتماعية القادرة على أن
تعكس ما يسيطر على مجتمعاتها من عدل وحرية ومساواة.
لقد وجد علي مبارك للتخلف النسائي عنواناً كبيراً تنضوي تحته جهالة
أمة كاملة: "إن استحكام الجهالة وإلغاء مدارسة الديانة وترك بناء
الأعمال على أحكامها وانقطاع المواعظ الحسنة النافعة والمقيدة بين
الرجال والنساء تولد معه العود إلى مقتضيات الطبائع من الضجر
والمحاسدة وحب الاستئثار والاسترسال مع الشهوات والدخول في الأمور
من غير تقدير للحاجة ونظر للعاقبة فأختل قانون الازدواج ولحقه
الفساد وقامت المشاقة5 فعندما يصيب الجهل أمة لن يقتصر الضرر على
الفساد دون الرجال وإنما سيشترك فيه الطرفان ولن يكون مقتصراً على
مجالات دون وغيرها، بل سنراه عميماً شاملاً، وهذا ما دعا مفكرونا
إلى محاربته في القرن التاسع عشر، كخطوة أولى على طريق تحرير
المرأة ومقدمة حتمية لتحرير المجتمع.
"فإن سعادة الممالك وشقاوتها في أمورها الدنيوية إنما تكون بقدر ما
تيسر لملوكها في ذلك وبقدر ما لها من التنظيمات السياسية على
العدل6.
نتيجة لذلك يبدو من المستحيل الحديث عن حرية فردية اعنينا بها
نسائية أم ذكورية ما لم يكن العدل ديدناً وقانوناً تسير وفقه
الأمم.
"والحركة النسائية في كل تنوعها، تدعم وتشمل جميع أشكال التحرير،
فالنساء العاملات المكافحات اللواتي يقدن صراع الطبقات يتجاوزنه
ومجموعات النساء الكورسيكيات والنساء الجزائريات ونساء أميركا
اللاتينية، كل في بلدهن يحملن على الشعور بحدود حركات التحرير، إذا
لم تأخذ في الحساب، في مجال اكتساب الهوية الثقافية، مطالبة النساء
بهويتهن ونداء الاستغاثة الصادر عن النساء المغتصبات أو عن عصبة
حقوق الإنسان7.
لقد قضت ظروف كثيرة باحتلال المرأة مرتبة متدنية وصدف ألا يوكل
إليها بأية رئاسة مهما بلغت محدوديتها وبساطتها باستثناء بعض
الشواذات التي لا يمكن الاعتماد على نسبتها الضئيلة في تقرير واقع
عام إضافة إلى الجهود الفردية التي طبعت نضالات هذا العدد المحدود
من النساء اللواتي كسرن الطوق المعهود.
اتصل الرق المدني في مختلف العصور التي ازدهر فيها بالرق السياسي
وأثبتت الأبحاث عمق الصلة القائمة، بين عبودية الأفراد
والديكتاتورية السياسية المعتمدة على الأنظمة الاستبدادية "إن
إعلان الاستقلال الأميركي بعد أن أكد بطريقة احتفالية مساواة جميع
الكائنات الإنسانية أمام الله، ولم يلغ الرق، وهو مخالفة فاضحة
للمبادئ وقد أطلق عليه بحياء اسم المؤسسة الخاصة، كذلك فإن الجمعية
التأسيسية بعدما أعلنت أن جميع الرجال يولدون أحراراً ومتساوين في
الحقوق صدقت ملكية مستعمري جزر "الانتي" للعبيد السود ولم تعترف
للنساء بحق الملكية لأملاكهن ولا بحق التصويت ولا بحق ارتقاء
الوظائف القيادية في أي مجال8.
وإذا انطلقنا من مبدأ يقر بأنه "ليس لدى الشعوب البسيطة غير رق
حقيقي لقيام نسائها وأولادها بالأعمال المنزلية9 ـ كما يقول
مونتسكيو.
لابد من أن نتساءل عن إمكانية سحب هذا المنظور على بعض الشعوب غير
البسيطة وفي فترات متطورة من التصنيع والاقتصاد لاعتبار استخدام
النساء في المنازل وجهاً وامتداداً لأحد أشكال الرق؟
"وفي منزلها يسحقها العبء ويصر الرجل على أن تبقى في ذلك الوضع
ليظل ضامنا عدم تجاوزها على وظائفه وعلى ألقابه"10.
ذاك هو واقع المرأة في شطري الكرة الأرضية الغربي منها والشرقي.
لقد قضت الأعراف الاجتماعية في جميع أنحاء العالم بالتزام المرأة
منزلها وارتهان نفسها لخدمة الزوج ومتطلبات الأولاد وعلى هذا تم
تركيز وجهة النظر الاجتماعية الذكورية ومنذ القديس بولس الذي ثبت
التقليد الحاخامي الأكثر عداء للمرأة والذي قال: الرجل لم يخلق
لأجل المرأة ولكن المرأة خلقت لأجل الرجل، إلى القديس توما
الاكويني الذي جزم بأن المرأة بطبيعتها خاضعة للرجل لأن الرجل
يتمتع بشكل اكثر وفرة ببصيرة العقل. وهكذا من جهة أخرى وكما تلاحظ
"فرانس كير" كان مجرد صدى للقديس اغطينوس الذي كتب قبل عشرة قرون
أنه من ضمن النظام الطبيعي عند بني الإنسان أن تكون النساء خاضعات
للرجال والأولاد لأهلهم لأن من مقتضيات العدل أن يخضع العقل الأضعف
للعقل الأقوى11.
واستناداً إلى ذلك أحيطت المرأة بجميع الاستلابات الجسدية
والنفسية12 فهل استطاعت منطلقات مونتسكيو الإشارة إلى ما يمكن أن
يكون حالا عامة تجمع بين الشرق والغرب الأمر الذي نرى انعكاساته
على المجالات الخلقية والسياسية.
أما الملاحظة التي لابد من إبرازها هنا، فقد تفيد بانتفاء الرؤية
المنطقية والمنظار السليم فكان أن وقفنا مع مونتسكيو على بعض
النتائج الجزئية إذ قال "لا ينبغي للنساء أن يفصلن عن الرجال بسياج
المنزل فقط، بل يجب أن يفصلن ضمن هذا السياج أيضاً. فيؤلفن أسرة
خاصة في الأسرة ثم يشتق مبدأ الأخلاق للنساء أي الحياء والعفاف
والرصانة والصمت والسلام والطاعة والاحترام والحب13.
ولا يقف الاستبداد في دول الشرق عند الحد المتعلق بالنساء ولكنه
يشملهن كظاهرة من الجو العام الذي يجب أن نلتزم به.
"ويجب أن تكون السلطة مستبدة في آسية دائما وذلك لأن العبودية إذا
لم تكن متناهية فيها فإن أول ما يقع حدوث قسمة لا يمكن لطبيعة
البلدان تحملها.. وتسود آسية روح عبودية لم تتركها قط فيتعذر أن
تجد في جمع تواريخ هذا البلد علامة واحدة دالة على نفس حرة ولا تجد
فيها غير بطولة العبودية14.
وإذ تختلف دول أوروبا وأميركا عن تلك المميزات يصبح من حق أفرادها
ونسائها فقط التمتع بالحرية.
لقد دحضت مواقف روادنا في القرن التاسع عشر باعتمادها على الحقائق
التاريخية والتراثية دور الطبيعة الجغرافية في إخضاع النساء عندنا
للذل والمهانة، كما أكدت عدم التعارض بين الإسلام كجوهر والمد
الحضاري المتطور والحقيقة التي لابد من إبرازها على صعيد الخصائص
في اجتذاب أنظار المستعمرين العاملين على إبقاء الخمول والقهر
قاعدة سارية المفعول، والكلام عن أثر طبيعي جغرافي، محاولة أخرى
تدخل في إطار الاستلاب الحضاري والفكري.
"لقد اعترف الإسلام للمرأة بوضعية حقوقية مانحاً إياها حقوقاً
وواجبات، سمح لها بأن تحتفظ باسم أبيها بعد الزواج، ونالت شخصية
قانونية ـ المهر أصبح ملكاً للزوجة وحدها، بحيث أصبح الزواج عقداً
بين الزوج والمرأة بدلاً أن يكون عقداً بين الزوج والوصي على
الخطيبة تكون فيه المرأة موضوع البيع"15.
لقد كتب الكثير عن العلاقات الاجتماعية في المشرق العربي وشوهت
النماذج المقدمة في ألف ليلة وليلة مثلاً صورة المرأة الشرقية
المتزنة، فمشكلة التاريخ أنه كتب من وجهة نظر الحكام لا المحكومين
فجاء معبراً عن مصالح الطبقات الحاكمة ضد الأغلبية من الكادحين16.
فأهملت الأسباب الحقيقية التي فرضت على المرأة الالتزام بمرتبة
متدنية لأن القهر الواقع على المرأة من جانبين: جانب الدولة وجانب
الزوج والأسرة الأبوية من هنا يبدو من المستحيل الربط بين الواقع
المتخلف والديانة الإسلامية كنتيجة ومقدمات فقد ابتلي المسلمون في
أيام ضعفهم بسطوة الطامعين فيهم وعداوة القادرين عليهم فلا تعرف
دولة من الدول الطاغية المتغلبة لم تفتح بلداً من بلدان المسلمين
أو تدخله بالحيلة والمكيدة17.
إضافة إلى أنه لا يوجد أي معطى علمي طبيعي عن قصورها أو دونيتها،
فإخضاعها كان عملية قهر تاريخية وحضارية، إنه أرخص وأقبح وجوه تقدم
الإنسان وحضارته وثقافته18.
فلابد إذن من قاعدة فكرية تعمل على تحرير المرأة ومن ضمن القاعدة
نفسها العاملة على تطوير المجتمع وتحديثه، خاصة وأن هناك تشابهاً
كما اتضح بين أوضاع النساء في جميع أنحاء العالم من حيث هي نتاج
قطاع أبوي ذكوري لا علاقة له بالتأثيرات الإقليمية.
القاعدة الفكرية العاملة على تحرير المرأة
تلعب الإيديولوجية الفكرية دوراً أساسياً في إطار أية عملية تحديث
وترتكز في بنائها على نظريات تتنوع بين الاقتصاد والاجتماع
والثقافة والقضاء، لتعبر بشكل شامل عن أقصى الطموح الذي تهدف إليه
أمة من الأمم.
فإذا حاولنا تطبيق ذلك، على ما تسمى المرأة لتحديثه والحصول عليه،
فهل يمكننا ملاحظة إيديولوجية فكرية تجمع في حيثياتها ومنطلقاتها
رؤية عالمية ونسائية موحدة، تأخذ بعين الاعتبار والخصوصيات
الإقليمية والاستراتيجيات الطبقية؟ والمصالح الأساسية التي تربط
كفاحها بكفاح الفئات العمالية والفلاحية الساعية إلى رفع الظلم
والاضطهاد؟
للمرأة في العالم الثالث خصوصية شديدة الصلة بالواقع السياسي،
وبالظروف التاريخية التي خضع فيها للهيمنة الاستعمارية.
فهل بالإمكان اعتبار المرأة العربية صورة صادقة للنساء في العالم
الثالث بصورة عامة؟ خاصة وأن ظروفاً سياسية واقتصادية تجمع بين
المنطقتين!
لقد نجح الاستعمار بإحداث شرخ بين الماضي العريق للأمة العربية،
وحاضرها ومستقبلها، منتزعاً الكثير من عوامل ثقتها بنفسها سواء على
صعيد الجماعات أم الأفراد، والمرأة، فريق من بين جميع الفرقاء
الذين يئسوا بل واستسلموا للفشل الأبدي الذي الصق بهم زيفاً
وتزويراً.
"في المساواة الإنسانية لا يخرج كل "إنسان" عن الوحدة الأخلاقية
وإن اختلف إقليم وجوده وقطره وأحوال معيشته وفطانته، فهذا إنسان
يعني حيواناً ناطقاً يستوي أفراده وأنواعه في الحيوانية والناطقية
كما يشترك الفرس في أنواعه بالنسبة للحيوانية والصاهلية"19.
لقد مارس الاستعمار في الفترة المتأخرة من القرن التاسع عشر حرباً
نفسية أبرزت التناقضات الطائفية والرغبات المتزايدة في الهروب
والمتمثلة في الأرتماء بين أحضان الماضي أو الانقطاع عنه، هذه
الهجرة النفسية، الحضارية هي أول ما يستوجب المعالجة أنها حالة
مرضية كان يجب أن يعالجها الرواد.
ولأن هذه المعانات النفسية تبلغ حدها في نفسية المرأة العربية كما
في نفسية الرجل. فقد تشكل بياناً جلياً لإبعاد المشكلة النسائية
العربية على الصعيد القومي إذ تشير قناعة المرأة بجدوى النضال إلى
قناعة الأمة ككل باستخدام مختلف الأسلحة المتوفرة في هذه المعركة
القاسية، وعلى ذلك النحو تعالج مشكلة تخلف المرأة على "كافة
الأصعدة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، من أخطر العراقيل التي
تناهض مسيرة التطور وبالتالي فإن العمل على تأمين حقوق وتأمين
فرصها في العمل والإبداع والتحرر هو من أساسات تفكيرنا.. لإجراء
التغييرات الثورية في المجتمع وردم كل مصدر للخلل فيه.
----------------
عن كتاب ( المرأة والحياة الاجتماعية في الإسلام )
1 روح الشرائع ج1ـ ب4ـ ف3ـ ص56.
2 المصدر نفسه ف5ـ ص58.
3 المصدر نفسه ب29ـ ف1ـ ص369.
4 المصدر نفسه ف13ـ ص382؛
5 مبارك، علي، الأعمال الكاملة، ج1ـ المؤسسة العربية للدراسات،
بيروت ط 1ـ سنة 1979،ص279.
6 الطهطاوي، ج2، ص441.
7 غارودي، روجيه، ـ في سبيل ارتقاء المرأة ـ دار الآداب، بيروت ـ
ط1. 1982 ص87.
8 غارودي، روجيه، في سبيل ارتقاء المرأة، دار الآداب، بيروت ط1 ـ
1982 ص38.
9 روح الشرائع، ج1ـ ف10ـ ص359.
10 لويز ميشال، مذكرات، منشورات مسبيرور ـ باريس 1979ص85-84.
11 غارودي، روجيه، في سبيل ارتقاء المرأة، دار الآداب ط1 ـ 1982
ص16.
12 زيعور، على المصدر المذكور ص65.
13 روح الشرائع، ج1ـ ب16ـ ف1ـ ص382؛
14 المصدر نفسه ب17ـ ف6ـ ص398؛
15 منسى، جوليت، المرأة في العالم العربي، دار الحقيقة بيروت 1981
ص32.
16 منسى، جوليت، المرأة في العالم العربي، دار الحقيقة، بيروت ط1
ومن سنة 1981 ص20.
17 السعداوي، الوجه العاري للمرأة العربية ص302.
18 العقاد، عباس محمود، المرأة في القرآن، دار الكتاب العربي، ط3
سنة 1969 ص185.
19 الطهطاوي ـ ج2ـ ص309.