ليس التأثير الغربي ـ الاستعماري على وجه الخصوص ـ مما يُختلف عليه
في بحث قضية المرأة، لكن الالتباس والتعقيد يكمن في تحديد اتجاهات
ومواطن هذا التأثير في قضية المرأة عند مختلف التيارات التي عنيت
بها.
على خلاف المقولة الشائعة ول خفوت وتراجع قضية المرأة إبان فترات
تفجر القضية الوطنية جاء النموذج المصري. لقد عرفت خبرة النهضة في
مصر توجهاً عكسياً تجلى في اقتران قضيتي تحرير المرأة والوطن
اقتراناً عضوياً وتجسد ذلك في تزامن لحظتي الثورة للوطن والمرأة
معاً، وخرق جدار الصمت والصبر الطويل على غبن الإثنين في ثورة
1919م. كانت تلك الثورة لحظة فاصلة نحو سيادة مفاهيم الوطنية
المصرية بلا منازع، كما كانت فارقة في الاعتراف للمرأة المصرية
(والعربية) بحق المواطنة. هكذا كانت قضية النضال ضد المحتل الغربي
من أجل الاستقلال الوطني عاملاً مساعداً لنضال ونهضة المرأة في
لحظة تاريخية بعينها. بل إن (بث بارون) تثير مسألة وعي الحركة
النسوية بهذه الرابطة، وترى أن هذا الوعي كان قائماً إلى حد توظيف
القضية الوطنية لصالح المرأة فتقول: ((لقد غطى الاحتلال البريطاني
على ما عداه من قضايا، ولم يكن هناك فرصة حقيقية لكسب تعاطف
المصريين المسلمين لصالح قضية المرأة بغير ربط دور المرأة في
المجتمع مع الكفاح من أجل الاستقلال الوطني والخطاب المعادي
للاستعمار. وهو ما استمر حتى بعد تراجع الاحتلال. فقد أدركت
الكاتبات أن النقد العنيف لتقاليد مجتمعهن لن يكون له إلا تأثير
سلبي على قضية المرأة، وكانت مسألة الخيانة الثقافية تلك دافعاً
للبحث عن حلول وطنية)).
في مقابل هذا النمط من التفاعل الضدي بين المرأة والوجود الغربي،
كان للغرب، وفي الوقت نفسه، تأثيره الآخر النقيض على حركة المرأة
متمثلاً في كون المرأة الغربية الفاعلة في بلادها البعيدة عن الوجه
الاستعماري المباشر مثلت نموذجاً ومصدراً للإلهام والاقتباس للمرأة
العربية المسلمة في حركتها الواقعية في فترة النهضة. يكشف لنا أحد
الكتاب المعاصرين لثورة 1919م عن ذلك التوجه مشيراً إلى أن نموذج
النساء الغربيات كان أحد العناصر التي ألهمت خروج المرأة الثوري
المدوي إلى الشارع خلال ثورة 1919م فيقول: ((وكن قد رأين شقيقاتهن
الأوروبيات في أثناء الحرب يناضلن ويسعين لخدمة وطنهن ومساعدة
أبنائه في الإنسانية، ويعملن لتخفيف ويلاتها وتضميد جروحها، ثم
سمعن ببلوغهن منصات النيابة واعتلاء المراتب، فهيأت هذه الهزة
نفوسهن التي تكونت وجعلتها على استعداد للانفجار والخروج من الجمود
القديم عند أول حركة أو حادثة تثير عواطفهن وتنبه أذهانهن)).
وعلى صعيد الخطاب جست العلاقة بين خطاب المرأة وخطاب الثقافة
الغربية التناقض والالتباس ذاته الذي شاب علاقة الواقع والثقافة
العربية الحديثة بالتأثير الغربي ما بين النظر للغرب كتحد ثقافي
مباشر للثقافة والهوية أو كنموذج للتقدم والفاعلية. لقد جسد التيار
القومي العلماني رغم عدائه للاستعمار موقف الانبهار الثقافي إلى حد
الاستلاب والدعوة للاندماج في النموذج الثقافي الغربي والانسلاخ عن
الذات الموروثة أو حتى عن تطويرها بدعوى مناقضتها لكل قابليات
التطوير والتفعيل المقاسة أصلاً على النموذج الغربي. وتثير (ليلى
أحمد) غرابة وفرادة هذا الخطاب الشائع والقوي في الثقافة العربية
والإسلامية منذ عهد النهضة. تلاحظ الكاتبة أنه رغم الماضي القاتم
للمرأة في تاريخ وثقافة الغرب الذي نصب له تاريخياً عدوان هما
المرأة في الداخل والمسلمين (الكفار) في الخارج، إلا أن النسويات
الغربيات لم يتبنين الرأي الداعي إلى هجر الميراث الغربي كلية
والقبول المطلق والكامل لثقافة أخرى كمصدر للإلهام، وإنما سعين إلى
التعامل والاتصال النقدي البناء مع هذا الموروث بشروطهن. ذلك أن
الانسلاخ بشكل كامل من موروث ثقافة معينة هو أمر غير معقول إن لم
يكن مستحيلاً. وتشير الكاتبة من هذا المنطلق باندهاش إلى ما عرفه
الجدل حول المرأة في العالم الإسلامي ـ كما في العديد من الثقافات
غير الغربية ـ من اتجاه هؤلاء المطالبين بتحسين وضع المرأة إلى
تبني الدعوة إلى التخلص من الممارسات المعادية للمرأة المتأصلة
وغير القابلة للإصلاح في الثقافة المحلية، وتبني العادات
والمعتقدات الأوروبية. فالهدف هنا هو الاقتراب من نموذج الغرب
والوسيلة هي الابتعاد عن الثقافة الخاصة ممثلة في الثقافة
الإسلامية. لقدت جلى هذا الاتجاه لدى العديد من الكتاب نذكر منهم
على سبيل المثال لا الحصر (سلامة موسى وإسماعيل مظهر). وإذا كان
أغلب ممثلي هذا الاتجاه قد تحرزوا من الدعوة إلى نبذ الإسلام صراحة
خشية إثارة التيار الغالب ضدهم فإنهم لجأوا إلى المراوغة عن طريق
أساليب عدة من بينها، تجهيل العدو الثقافي الذي يهاجمونه وينعتوه
بالتخلف، أو الحديث الإيجابي عن دور الإسلام في ترقية المجتمع
والمرأة ((تاريخياً))، مع التأكيد على صعوبة استمراره في القيام
بهذا الدور في ظل متغيرات العصر الحديث. وبعبارة أخرى فقد قدم
هؤلاء وجهة نظرهم على أساس ما يمكن أن نسميه بـ ((تزمين)) أو ترخنة
الإسلام بما يخرج به عن مفهومه الجوهري عند المسلمين، وهي عموم
النص القرآني وصدقيته المطلقة بوصفه نصاً ((فوق التاريخ)). ولعل
أبرز مثال على هذا الاتجاه تناول الكاتب إسماعيل مظهر وتقييمه لدور
الإسلام تجاه المرأة في كتابه ((طريدة البغاة: المرأة في عصر
الديمقراطية)).
في مقابل هذا النموذج نجد التيار الإسلامي قد اتخذ موقفاً نقدياً
من النموذج الغربي. غير أن التيار الإسلامي قد افترق بدوره إلى
مسارين بينهما خلافات أساسية في التوجه، فالتيار السلفي والتقليدي
قد تبنى الرفض الكامل للنموذج الغربي فيما يتعلق بالمرأة والشك
المطلق في كل خطاب بشأنها وتجريده من أي فضيلة، والنظر إليه كمصدر
للشرور الاجتماعية. ولعل من أبرز النماذج الدالة على ذلك كتابات
محمد طلعت حرب.
وفي مقابل هذين التيارين يقف النموذج الإصلاحي. وللنموذج الإصلاحي
موقفه الفريد من الغرب، فهو لا يتجاهله ولا ينتقص من مظاهر القوة
فيه، مع التأكيد في ذات الوقت على الفجوة الحضارية بين النموذجين
وخصوصية الهوية الإسلامية وثرائها وإمكاناتها المستقلة للنمو. لا
يشيح التيار الإصلاحي بنظره عن النموذج الغربي الفعال وإنما يضع
تجربته أمامه من منظور الغيرة لا القدوة مفارقاً بذلك نهج تيار
التغريب. وهو إن اعترف بفاعلية النموذج الغربي إلا أنه يسعى لتحليل
مصادر القوة فيه من أجل تفعيل مصادر القوة في الثقافة الإسلامية
الذاتية من قبيل الإفادة من تجربة الآخر لا اقتفاؤها.
يمكن تقصي هذه الروح الإصلاحية منذ كتاب رفاعة رافع الطهطاوي
الأشهر ((تخليص الإبريز في تلخيص باريز)) الذي حوى رؤية الناقد
الإصلاحي للذات وللغرب في مناح عدة من بينها قضية المرأة. يمتد هذا
التيار بدوره إلى إمام التيار الإصلاحي الإسلامي الحديث الإمام
محمد عبده الذي عني بدرجة أكبر بالبحث عن سبل ومكامن الضعف الذاتي
في الثقافة الإسلامية ومسالك تطويرها من خلال إحياء ثقافة وروح
الاجتهاد. غير أن بلورة الرؤية الإصلاحية لقضية المرأة وطرحها
المتميز لموقع قضية المرأة بين ثنائية الغرب/ الإسلام إنما يتجلى
في أعمال قليلين على رأسهم قاسم أمين وأعمال الرائدات النسويات.