موسوعة المصطلحات والمفاهيم || معجم المصطلحات

علم نفس وإجتماع : الحضارة والمدنية
علي القريشي


الحضارة:
في مفهومها الحقيقي مجموعة قيم وأفكار وأخلاقيات ومبادئ ومعتقدات تنبثق عنها جملة من النظم والتقاليد والأعراف والسلوكيات المختلفة التي تتجسد في مجتمع أو مجموعة من المجتمعات في مرحلة زمنية معينة. والحضارة بهذا المعنى تعكس موقفاً معيناً إزاء الكون والانسان والحياة. فمن فكرة (الثيوقراطية) في تشكيل حضاري معين إلى فكرة (الديموقراطية) في تشكيل آخر، ومن نظرية (الستر) لزي المرأة في الحضارة الاسلامية إلى (حرية) الأزياء النسائية في الحضارة الغربية، ومن فكرة (الاقتصاد الحر) في النظام الرأسمالي إلى فكرة (الاقتصاد الموجه) في النظام الاشتراكي. هذا وان لكل حضارة سمات معينة تميزها عن الأخرى، إلا أن هذا لا يمنع الالتقاء والتشابه المفاهيمي والتصوري في أسس من الحضارات. فالفكرة الحسية ـ مثلاً ـ التي تذهب إلى أن قوام روعة الحياة وسعادتها يتمثل بالمادة واللذة، إنما هي فكرة قامت عليها حضارات قوم عاد وثمود، كما انها من الأسس التي كانت تقوم عليها الحضارتين الرومانية واليونانية، وهي واضحة لدى الغربيين في حضاراتهم المعاصرة. والحرية الجنسية كواقع سلوكي وحضاري، تواجدت لدى قوم لوط والرومان واليونان كتواجدها ـ وبشكل مميز طبعاً ـ في ظل الحضارة الغربية. إن خطوط اللقاء في الحضارات ذات الأسس الروحية قائم أيضاً، فالفن ـ مثلاً ـ في عموم هذه الحضارات يرى أن القيمة الصادقة في الحقيقة هو ]الله[ وما يتعلق به وينبثق عنه.. وما الانسان إلا إرادته النافذة في هذه الأرض. لذا نرى أن هذا الفن يعكس عن اهتمام بارز بمعاني النبل وقيم الروح والفضيلة، يعكس ما يطرحه الفن المنبثق عن رؤيا حضارية مادية صرفة، إذ إن هذا الأخير لا يتوانى في إبراز الجوانب الغريزية وبأوضاعها الشاذة أو الانطلاق من منطق الغلبة والجبروت، إذ لا مانع لديه من تمجيد الماكر والمغتصب وإضفاء صفة الذكاء والبطولة عليهما. أما المدنية: ففي حقيقتها ليست جزء من الحضارة أو صورة من صورها أو مرادفة لها ـ كما يظن الكثير، لأنها غير مرتبطة جوهرياً بأي فكر، إنما ارتباطها يتم مع العقل المجرد، ويأتي انبثاقها عن إبداعاته التي تتسم بطبيعتها بالاستقلال عن الايديولوجيات الحضارية. فالمدنية هي كل ما يرتبط بوسائل الحياة والمتطلبات المادية التي يحتاجها الانسان في توفير سبل راحته ورفاهه. فهي بعبارة أخرى، أسلوب العيش ومواده المستعملة.. هذا والمدنية في حقيقتها ـ أيضاً ـ لم تكن وليدة زمن محدد ولا بنت مكان معين، فقد ساهمت في ظهورها جماعات وشعوب مختلفة. كما أن ظهورها لم يحدث بشكل مفاجئ، ولمرة واحدة، بل أن كثيراً من نتاجات وتوصلات العلم المادي الحديث لم يتهيء لها الظهور بأشكالها التي عليها الآن غلا بعد عمليات من النمو المطرد المستمد من مواقع مدنية سابقة. صحيح أن أكثر إبداعات العصر ظهرت لأول مرة وعن جهود فردية أكثر الأحيان، ألا أن كثيراً منها لم تكن لتظهر إلا بعد جملة من التمهيدات والمعارف والتجارب التي بدأ بها السابقون اللذين نقلوا خلال ذلك الفكرة الأساسية والتجربة الأولية للاحقين الذين استلموا بدورهم سرّ الاكتشاف وانطلقوا به نحو الإبداع والتكامل. ولا أدل على صحة ما نقوله ما هو معروف عن (المدنية الاسلامية) التي طالما مهدت وأمدت (المدنية الحديثة) بالشيء الكثير، حيث تركت لرجال الثانية النواة والركائز الأساسية في أكثر من علم وموضوع ومجال، سيما في الطب والكيمياء والجيولوجيا والرياضيات وعلوم الحيوان والنبات والجغرافيا والفلك وغير ذلك من العلوم والمعارف التي اقتبس الغربيون الكثير منها عن طرق الأندلس وجزيرة صفلية والشمال الأفريقي.. فقد كان ـ مثلاً ((وجود ابن الهيثم وجابر وغيرهما ممهداً ولازماً لظهور غاليلو ونيوتن، فلو لم يظهر ابن الهيثم لأضطر نيوتن أن يبدأ من حيث بدأ ابن الهيثم، ولو لم يظهر جابر بن حيان لبدأ غاليلو من حيث بدأ جابر)). هذا وإن لأخوان الصفا تدقيقات جيلوجية هامة في تبادل البر والبحر يراها العلماء الاختصاصيون أساساً لتكوين نظرية الصحراء ((ليوحنا وانتروش. لابل) أما أبو منصور الموفق فهو أول من أظهر فائدة عجينة ((يارليس)) في الجراحة، وأول من ميّز بين (( كربونات الصوديوم)) و ((كربونات البوتاسيوم)) وأول من استخدم الجير الحي في إزالة الشعر من الجلود. أما أبو بكر الرازي فأول من وضع كتاب في طب الأطفال ومارس الطب التجريبي. وابن سينا هو أول من قال إن المعدة تتأثر بالاضطرابات النفسية، وقد تحدث عن السرطان وكتابه ((القانون)) قد وصفه ((وليام أوسلر)) بأنه إنجيل الطب، إضافة لنظرياته الجيولوجية في تكوين الصخور والجبال والحفريات. كما قد كتب ابن رشد في الصحة الغذائية. أما ابن نفيس فإنه يعد أول مكتشف للدورة الدموية الصغرى، وقد تكلم البيروني عن النفط والصلب. هذا وإن المسلمين هم الذين اكتشفوا القلويات والحموض وبعض العقاقير. وقد حللوا مواد ممالك الطبيعة الثلاث، وحولوا المعادن السامة إلى عقاقير رقيقة مأمونة. وحاصل ما نريد قوله هنا أن هذه المدنية ـ وبشهادة علماء العصر ومؤرخيه من (ول. ديورانت وستايلتون وجوستاف لوبون وسنجرو وسيديو)) وغيرهم قد أدت دوراً كبيراً لا يستهان به في خدمة المدنية الأوروبية الحديثة. ثم حاصل ما نريد قوله ـ أولاً وأخيراً، إن المدنية ليست وليدة زمن معين أو شعب معين، بل إنها أشبه ما تكون بالكائن المتنامي يقبل التطور كلما تهيء له المناخ الصحي الباعث في أي بقعة كان أو في أي زمان. وهي لم تكن ـ مرة ثانية، في كثير من نتاجاتها وليد مباشر لبيئة أو عقلية معينة. يؤكد ذلك ـ وفي عصرنا الحالي، انصياعها وتحركها داخل أية حضارة كانت، ذلك باعتبارها ظاهرة مادية ذات هوية عالمية لا يحددها أي ارتباط ايديولوجي معين، وتتوالد عمن كان توجهه العبادي لله الواحد أو من كان توجهه لحيوان كالبقرة أو لانسان نظيره على حد سواء. إن أية حضارة بإمكانها التحكم بالمدنية وتوجيهها الوجهة التي تريد. فالطاقة الذرية ـ كاكتشاف عقلي مدني بمقدور أية حضارة أن تجعلها أداة إنعاش نفعي في مجالات الزراعة أو تحسين التربة أو الصناعة أو الطب أو تحلية المياه وفي غير ذلك، كما يكون بمقدورها في عين الوقت أن تحيلها أداة انتكاس ورجوع للانسان والانسانية معاً. فالبراءة ميزة المدنية والحضارة هي التي تتحكم فيها تبعاً لمنطقها الخاص واتجاهاتها العامة، فتحولها خيراً أرادت أمر شراً. إذن فالحضارة غير المنية، والمدنية غير الحضارة. إنما العلاقة الأساسية التي تربط بينهما تنعكس في عملية استغلال الأولى للثانية وكيفية استخدامها وتوجيهها ـ كما بينا. مثل هذا التحديد بين الحضارة والمدنية لم يكن بائناً لدى الكثير، فلطالما نجد الخلط وعدم التفريق بينهما قائماً على ساق. تعريف ديورانت: فـ ((ول ديورانت)) مثلاً يعطينا في كتابه (قصة الحضارة) تعريفاً لمصطلحها يقول فيه: ((الحضارة نظام اجتماعي يعين الانسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي.. وتتكون الحضارة من أربعة عناصر: المواد الاقتصادية والنظم السياسية والتقاليد الخلقية ومتابعة العلوم والفنون)). في مثل هذا التعريف لا يمكن فصل المدنية عن الحضارة، لكن ديورانت في مكان آخر من كتابه المذكور يفرز المدنية عن دائرة المعنى الحضاري فيقول: ((ليست تتوقف المدنية على جنس دون جنس، فقد تظهر في هذه القارة أو تلك، وقد تنشأ عن هذا اللون من البشرة أو ذاكز فقد تنهض في مدينة بكين أو دلهي.. في دافنا أو لندن.. ليست المدنية وليدة الرجل الانجليزي ولكنه هو صنيعها، فلو تهيأت لجنس بشري آخر نفس الظروف المادية ألفت نفسها تتوالد عنها)). إن ديورانت هنا لم يفته المعنى الحقيقي للمدنية، إذ أعطاه المعنى المتسع ولم يجمده في قالب محدد. فالمدنية كما يراها إذن، هي تلك التي لا يقتصر إيداعها على جنس دون جنس ولم تحد انطلاقاتها بأقليم دون غيره أو قومية دون أخرى. وانه لفهم صائب ولا شك، كما انه توضيح واسع ودقيق. لكنه ـ وكما عرفنا ـ قد أوسع في معنى الحضارة حين جعلها متضمنة لمعنى المدنية أيضاً. رأي جورج حنا: ويقع في المزج نفسه ـ ودونما استدراك ـ الدكتور جورج حنا حين يوجه انتقاده إلى الأستاذ ((ارنولد توينبي)) وذلك بصدد ما يذهب إليه هذا الأخير من أن الدين هو المرتكز الأساس في تكوين الحضارات باعتباره البارق الوضاء للإشراف الإلهي فيقول: (( الحضارة ليست عبادة، ولا تنسكاً ولا إحساناً، ولا شيئاً مثل هذا.. بل هي علم وفن وتقدم، ومجتمع قائم على العلم والفن والتقدم المادي قبل كل شيء، الذي ينبثق عنه التقدم الروحي، وعليه تتوقف الكفاءات لخلق قيم إنسانية وحضارية)). فحنا يرفض العبادة والإحسان ونحوهما كمواضيع حضارية، لأن الحضارة في نظره تقوم ـ في أسسها، على الجوانب المادية والفنية التي يؤتي ثمارها التقدم العلمي. هنا نرى التوسيع لمعنى الحضارة من جهة والحصر له من الجهة الأخرى ففي الحصر نفي للروحيات والأخلاقيات وأبعاد لهما عن الدائرة الحضارية، وفي التوسيع مزج بين الموضوعات الحضارية والموضوعات المدنية. وهذا الوهم الذي يقع فيه الدكتور جورج حنا وليد ما تراه الماركسية حين اعتقدت، وبإسراف، بأن العامل الاقتصادي وأساليب الإنتاج وحدهما الذان يحددان صورة الحياة وقيمها الاجتماعية والخلقية والسياسية وحتى الروحية! رأي المؤرخ ارنولد توينبي: وتوينبي يصف الحضارة وصفاً أقرب إلى الدقة من غيره حين يقول: ((إنها ]أي الحضارة[ حصيلة عمل الانسان في الحقل الاجتماعي والمناقبي)). فالنشاطات الاجتماعية المشتملة للأعراف والعادات والقوانين والنظم والموروثات الخلقية والفكرية، تعتبر في نظره موضوعات حضارية تعبر في أنماطها عن مفاهيم وتصورات وركائز فكرية معينة. رأي هانز كوهين والفريد ويبير: وهذا ما يبدو مفهوماً لدى هانز كوهن أيضاً من خلال حديثه عن الحضارة الشيوعية التي ينتقدها من منظور فكري حين يصفها بالانغلاق والاستبدادية فهو في هذا الوصف لا ينظر ـ كما يبدو ـ للشيوعية كحضارة تعيش تحت ظلها المدنية في أرقى تطورها، إنما ينظر إليها فقط كحضارة ذات مرتكزات فكرية واتجاهات سياسية وسلوكية اجتماعية مميزة.. كذلك العالم الاجتماعي الألماني (Alfred Weber) قد وضع تمييزاً واعياً بين الحضارة والمدنية حين (اعتبر ]الحضارة[ ظاهرة روحية، وإبداعية وحرة. أو هي ]المجموعة الحية[ في البنية الاجتماعية، بينما وصف ]المدنية[ بكونها ظاهرة عقلية، وهي تتابع جهد الانسان للسيطرة على المحيط الطبيعي والحضاري عن طريق الذكاء والعلم والصناعة..)). ويبدو هذا واضحاً أيضاً عند ميشيل عفلق عند حديثه عن التراث والعلمانية بقوله: ان مفهوم العلمانية الذي يعني به الانفصال عن الدين ]ويعني به الاسلام بشكل خاص[ أمسى عامل تشويه وخنق لانطلاقة الأمة على المستوى الحضاري والانساني.. بل يراد به نسيان الأمة لتراثها يقابل هذا النسيان ترويج وتعميم للثقافة الغربية والحضارة الغربية، أي انه كان هناك عملية احتيال. ثم يقول: ((لسنا مستعجلين في الأمور الأساسية عندما تكون المسألة مسألة ثورة عميقة أصيلة تقدم حضارة جديدة للانسانية..)) (( العربي لا بد أن يرجع إلى التراث، لا بد أن يستلهمه أمام حضارة هذا العصر، هذه الحضارة العجيبة، وعندما يكون الطموح بعثاً حضارياً للأمة العربية في هذا العصر، تعطي فيه أمتنا مساهمة جديدة متميزة للحضارة العالمية)). إذن ليس من الصواب أن نتكلم عن الحضارة والمدنية وكأنهما مفهومان لمعنى واحد، كما يفعل ديورانت وحنا وغيرهما، إنما الصحيح الذي نعتقده هو أن نتصور دائماً إن الحضارة تتعلق بالمعنويات والنظم والمبادئ، كما بينا آنفاً، وكما رأيناه عند كل من توينبي وهانز كوهن والفريد فيبر.. بينما المدنية تتعلق بالماديات من علم وصناعة واكتشافات.. هذا كما نراه، هو التمييز الصحيح الذي يقيناً بالتالي التشويش الفكري الذي يمكن أن ينتج من خلط المعنيين المذكورين.

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || معجم المصطلحات