تُطلَق هذه التسميةُ في العادة على الصوفية الذين يَلتزمون بآداب
مُعيّنة ورياضيات روحية مخصوصة، ولهم حَظّ من التأمل والتفكر في
آيات الخالق يُريدون بذلك اختراقَ حُجُب الحقيقة الكونية والكشف عن
أسرارها بلغة خاصة ومصطلحات معلومة عندهم، ورموز وإشارات
يتداولونها فيما بينهم، ويظنّون أنهم يَملكون مغالقها ومفاتحها من
حيث ينظرون إلى الموجودات بعين الباطن، ويتلمسون طريق الخلاص
بالانقطاع إلى العبادة وإيثار الخلوة والزهد في الدنيا. وعلماءُ
الحقيقة الذين يعنينا أمرهم هنا هم أولئك الذين لهم جولات فكرية
وتجليات روحية في مسائل التوحيد والإبداع والخلق وتقلب أحوال
الدنيا ومآل الموجودات من غير ابتعاد عن نهج الشريعة، وأما
المتصوفة من زمرة الدراويش وأتباع الطرق، وحفاظ الأوراد، والضاربين
في بيداء الكرامات والمكاشفات، والمولعين بالشطح والجذب، لهؤلاء
جميعاً خارجون عن نطاق اهتمامنا الذي ينصب على الفكر الصوفي المودع
في المؤلفات المعتمدة التي وصلت إلينا وأمكننا الاطلاع عليها.
ذكر التهاوني في (كَشّاف مصطلحات الفنون) أن التصوف هو تصفية القلب
عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات
البشرية، ومجانبة الدعاوي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية،
والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على السرمدية،
والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله ـ تعالى ـ على الحقيقة، واتباع
رسوله (ص) في الشريعة.
ولما كان أبو حامد الغزالي قد خاض تجربة أمكنته من الموازنة بين
مختلف المعارف وتقدير مبلغ قيمتها وفعلها في خلاص الانسان واستقرار
طمأنينته النفسية، فإن هذه التجربة التي توغل فيها حجّة الإسلام
بفكره وقلبه وأحاسيسه قادته إلى غاية كشف عنها في ( المنقذ من
الضلال) بقوله: (وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا
بالتقوى وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله قطع القلب عن الدنيا،
بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه
الهمة على الله ـ تعالى ـ وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه
والمال والهرب من الشواغل والعلائق)، فهذا هو المسلك الذي أوله علم
ووسطه عمل وآخره موهبة من الله.
يقسم ابو نصرالسراج الطوسي صاحب كتاب (اللمع) علوم الشريعة إلى
أربعة أقسام هي: 1ـ علم الرواية والآثار والأخبار. 2 ـ علم الدراية
(الفقه والأحكام). 3 ـ علم القياس والنظر والاحتجاج على المخالفين
(الأصول). 4 ـ علم الحقائق والمنازلات ـ أي التصوف ـ وهو عنده
أعلاها وأشرفها، والعلوم المذكورة يمكن ـ في نظر الطوسي ـ أن توجد
كلها في أهل الحقائق ولا يمكن أن يوجد علم الحقائق في هؤلاء إلا ما
شاء الله، يعني الفقهاء ورواة الحديث والأصوليين الذين يؤاخذهم
الطوسي بالنزوع إلى إنكار علوم أهل الحقائق مع أن هؤلاء لا ينكرون
علوم غيرهم.
لقد كان الطوسي حريصاً على أن يجعل أصحاب الحديث والفقهاء والصوفية
في رتبة واحدة ومنزلة متساوية لأنهم جميعاً أولوا العلم وورثة
الأنبياء، وجملة علوم الدين عنده لا تخرج عن ثلاث: آيات من كتاب
الله، أو خبر عن رسول الله، أو حكمة مستنبطة خطرت على قلب ولي من
أولياء الله، والعلم مقرون بالعمل، والعمل مقرون بالإخلاص،
والإخلاص أن يريد العبد بعلمه وعمله وجه الله تعالى. ولا أحد من
هؤلاء العلماء يبلغ إلى كمال يحوي جميع العلوم والأحوال، وكل واحد
فمقامه حيث وقفه الله ـ تعالى ـ ومحله حيث حبسه الله.