موسوعة المصطلحات والمفاهيم || معجم المصطلحات

فلسفة :خلود النفس
عبدالرحمن بدوي


خلود النفس هو بقاؤها بعد الموت.
ومشكلة خلود النفس شغلت الإنسان منذ وجوده، لأنه يعز عليه أن يكون الموت هو نهاية وجوده. لهذا عنيت بها الأديان والفلسفات المختلفة على مدى تاريخ البشرية. وارتبطت بهذه المسألة معان أخلاقية تتعلق بالعقاب والثواب إذ عز على الإنسان ألا ينال المذنب أو الظالم عقاباً عن مظالمه وجرائمه في عالم آخر بعد أن أفلت منه في الدنيا كما هو مشاع بالنسبة إلى معظم المذنبين والظالمين: فالغالبية العظمى منهم تموت دون أن تحاسب وتعاقب. لهذا كان على الإنسان أن يتصور أن عاقبهم سيكون في ((عالم آخر). ولابد من أجل ذلك أن تظل نفوسهم باقية بعد الموت لتنال العقاب الوفاق. كذلك الشأن بالنسبة إلى المحسنين الذين لم ينالوا في الحياة ثواباً عن أفعالهم الخيرة، لابد أن يفترض أنهم سينالونه في حياة ((أخرى)). ومن أجل ذل لابد أن تظل نفوسهم باقية بعد الموت لتنعم بالثواب والمكافأة الحسنة عما قامت به من أعمال خيّرة. وسواء أكانت الدواعي للاعتقاد في خلود النفس وجودية، أو أخلاقية، فلابد أن يتوافر عنصران في معنى هذا الخلود: الأول هو أن يكون بقاء النفس بعد الموت أبداً، وليس لفترة محدودة فقط. والثاني أن يكون الشخص نفسه بهويته الجوهرية هو الذي يبقى ويخلد. ولهذا يقول أمانويل كنت في تعريفه لخلود النفس: ((خلود النفس معناه أن يستمر الموجود العاقل وشخصيته استمراراً لا نهائياً)). والمقصود بالشخصية هنا الوحدة العقلي الواعية التي تربط معاً سنوات حياة الكائن على الأرض. والخلود معناه استمرار هذا الوعي العقلي إلى أبد الآبدين استمراراً لا متناهياً، على أن يكون مستوى الوعي هو على الأقل نفس مستوى الوعي في حياة الدنيا. وهذا يعني أن (كَنت) لا يستبعد إمكان نمو هذه الشخصية وهذا الوعي في حياته بعد الموت. ولهذا ينبغي ألا نخلط بين هذا المعنى لخلود النفس وبين أمرين كثيراً ما يحدث الخلط بينهما وبينه: الأمر الأول: هو فهم خلود النفس بمعنى خلود الجنس البشري أو النوع الإنساني، أو بقاء تأثير فكر الإنسان في الأجيال التالية إلى غير نهاية. فليس هذا أبداً هو المقصود بخلود النفس. والأمر الثاني: هو فهم هذا الخلود بمعنى المشاركة في حياة إلهية دائمة، لأننا هنا بإزاء تحول شخصية الإنسان إلى جوهر آخر فوق إنساني، والخلود إذن لم يكن للشخصية الإنسانية التي قضت مدة زمنية محدودة في الحياة الدنيا. ولتصور إمكان خلود النفس هناك ثلاثة اتجاهات: الأول: يقول إن الإنسان مركب من جسم وروح، وأن الروح تقوم بنفسها جوهراً يستقل في وجوده عن البدن، وما البدن إلا بمثابة محل تحل فيه الروح، ثم تتركه عند الموت، أو على حد تعبير أفلاطون: البدن سجن للروح أو النفس، تنطلق منه عند الموت. وهذا هو مذهب أفلاطون. والثاني: يقول أن الشخص هو نوع من الشبح أو الظل للإنسان، وهذا الشبح أو الظل يفر من البدن عند الموت. وهذا الرأي نجده عند بعض آباء الكنيسة مثل ترتليانوس في كتابه ((في النفس)). وبعض الروحانيين المعاصرين يقولون بقول شبيه بهذا حين يتحدثون عن البدن الكوكبي astral body الذي ينفصل عند الموت ليقوم ((برحلة إلى بلاد الصيف)) joutney of the Summerland. والثالث: القول بوجود نوع من العقل في النفس هو العقل الفعال، مرتبط بفلك القمر، وهو وحده الجزء الخالد في الإنسان، وهذا هو رأي الاسكندر الافروديسي والفارابي وابن سينا وابن رشد. فإذا نظرنا الآن في الحجج التي ساقها أنصار القول بخلود النفس، كان عينا أن نبدأ بأفلاطون الذي أولى هذه المسألة اهتماماً بالغاً. وقد ساق أفلاطون في محاورة ((فيدون)) الحجج الثلاث التالية: 1 ـ هناك اعتقاد قديم يقول إن الأرواح تذهب من هنا إلى عالم آخر، ومن ذلك العالم الآخر تعود إلى عالمنا من جديد. هذه حالة خاصة من المبدأ العام الذي يقول إن كل الأشياء تتولد من أضدادها. فالأرواح الحية تتولد من الأرواح التي ماتت، والتي ماتت تتولد من التي كانت حية. 2 ـ أما الحجة الثانية فتقوم على أساس مذهب التذكر، أي أن كل معرفة هي تذكر لمعرفة سابقة حصلتها النفس في حياة سابقة على حياتها في البدن. فإذا أقررنا بأن الصور (المثل) موجودة وأن المعرفة هي تذكر للصور بمناسبة المحسوسات المشاركة للصور، فإنه ينتج عن هذا بالضرورة أن النفس كانت موجودة قبل حياتها هنا، فإن كانت موجودة مثل هذه الحياة، فإنها ستوجد بعد الموت، على أساس الحجة الأولى التي تقول أن الأضداد تنشأ من أضدادها. 3 ـ والحجة الثالثة تقوم أيضاً على نظرية الصور. فما دمنا نقر بوجود الصور، وما دامت النفس صورة الحياة، فهي أزلية أبدية شأنها شأن سائر الصور. ثم يأتي في المقالة العاشرة من محاورة ((السياسة)) فيسوق حجة رابعة، ومفادها أن لكل شيء خيره وشره: فالرمد شر العين، والمرض شر الجسم. فإن وجدنا شيئاً لا يتحطم بواسطة الشر الخالص به، فلابد أن يكون خالداً. والنفس في هذه الحالة، لأنها لا تتحطم بواسطة شرورها مثل الظلم، والشهوة، والجبن، والجهل (التي هي أضداد الفضائل الأربع: العدل، العفة، الشجاعة، الحكمة). إن نفس الإنسان لا يمكن أن يحطمها الشر، إذ الإنسان الشرير يستمر في الحياة والوجود. ولهذا فإن النفس خالدة، إذ المرض الجسماني خاص بالجسم وبالتالي يقتل الجسم، لكنه لا يقتل الروح. وقد اختلف المؤرخون في قيمة هذه الحجج الأربع عند أفلاطون، وأرجح الآراء هو أن الحجة الثالثة هي الأقوى في نظره. وكل الذين أخذوا بمذهب أفلاطون من بعده، حتى القرن الماضي قالوا بخلود النفس. أما أرسطو فإن صريح مذهبه يقضي بفناء النفس مع فناء البدن، لأن النفس صورة البدن، والصورة توجد مع هيولاها: وتفنى بفناء هيولاها. بيد أن أرسطو مع ذلك أشار إشارة غامضة إلى جزء خالد في النفس، هو العقل الفعال، وذلك حين قال عن هذا العقل: (( ولست أقول أنه مرة يفعل، ومرة لا يفعل، بل هو بعد ما فارقه على حال ما كان، وبذلك صار روحانياً)). وهذه الإشارة الغامضة تلقفها بعض شراحه وأنصاره في العصر الهليني والعصر الوسيط (الإسلامي والمسيحي على سواء) فاستنتجوا منها أن أرسطو يقول بخلود جزء من النفس هو العقل الفعال. وقد غالى الاسكندر الأفروديسي في وصف هذا العقل الفعال فقال إنه بمثابة النور الذي يضيء لنا المعقولات وأنه هو الله، وأنه خالد غير فاسد، قديم. لكن هذا العقل يوجد خارج الإنسان، وأنه واحد من حيث مصدره، وكثير من حيث الأفراد الذين يشاركون فيه. وبهذا الرأي أخذ ابن سينا. وفي العصر الوسيط في أوربا جاء البرتس الكبير، فقال: ((إن العقل الفعال يفعل باستمرار ... وهو صورة جميع المعقولات)). لكن ابن سينا يقرر صراحة أن ((النفس الإنسانية)) جوهر غير مخالط للمادة، بريء عن الأجسام، منفرد الذات بالقوام والعقل. أما في العصر الحديث فإننا نجد لكنت موقفاً خاصاً من مسألة خلود النفس إذ يقرر أن من غير الممكن البرهنة عقلياً وببراهين نظرية على خلود النفس، كما لا يمكن نظرياً وببراهين عقلية إثبات عدم خلودها. ونقد الحجة التي ساقها مندلزون في كتابه (( فيدون)) ومفادها أن النفس جوهر بسيط، وما هو جوهر بسيط لا يمكن أن يفنى، إذ هو بوصفه بسيطاً فإنه لا ينحل وبالتالي لا يمكن أن يفنى، إذ هو بوصفه بسيطاً فإنه لا ينحل وبالتالي لا يمكن أن يفنى. وقد رد كنت على هذا البرهان قائلاً إنه لو صح أن النفس ليست مركبة، أي لا تحتوي على مقدرا ممتد، فإنها مع ذلك ذات مقدار من حيث الشدة وهذه الشدة يمكن أن تتناقص شيئاً فشيئاً إلى درجة الزوال. لكن من ناحية العقل العملي يمكن ـ هكذا يقرر كنت ـ افتراض أن النفس خالدة ويدعونا إلى وضع هذه المصادرة في الأخلاق: ((إن تحقيق الخبر الأسمى في العالم هو الموضوع الضروري للإرادة التي يمكن أن تعين بالقانون الأخلاقي. لكن في هذه الاردة التوافق التام بين النيات وبين القانون الأخلاقي هو الشرط الأعلى للخير الأسمى. فيجب أن يكون ممكناً هو وموضوعه، لأنه متضمن في نظام تحقيق هذا الموضوع. لكن التوافق التام للإرادة مع القانون الأخلاقي هو القداسة وهي كمال لا يقدر على بلوغه أي كائن عاقل في العالم المحسوس، في أية لحظة من لحظات وجوده. بيد أنه لما كان أمراً ضرورياً من الناحية العملية، فإنه لا يمكن بلوغه إلا في تقدم يستمر إلى غير نهاية نحو هذا التوافق التام، ووفقاً لمبادئ العقل المحض العملي. ولهذا من الضروري أن تقر بوجود تقدم عملي مثل هذا، بوصفه موضوعاً حقيقياً لارادتنا. ومثل هذا التقدم اللامتناهي لا يكون ممكناً إلا بافتراض وجود وشخصية للكائن العاقل باقيين أبداً إلى غير نهاية (وهذا ما يسمى: خلود النفس). وإذن فإن الخير الأسمى ليس ممكناً عملياً إلا بافتراض خلود النفس. وتبعاً لذلك فإن خلود النفس ـ بوصفه لا ينفصل عن القانون الأخلاقي ـ هو مصادرة للعقل المحض العملي)). إذن خلد النفس مصادرة ـ أي أمر يطلب التسليم به تسليماً، لكن لا يمكن البرهنة عليه عقلياً ـ ما دام لا يؤدي إلى تناقض. ـ الحجج ضد خلود النفس: وفي مقابل هذه الحجج لإثبات خلود النفس، نجد حججاً مضادة لإنكار خلودها. ويمكن تلخيصها في ثلاث حجج: أ‌) لا يوجد دليل على قدرة الشخصية الإنسانية على البقاء بعد موت البدن. ب‌) من المستحيل إثبات بقاء النفس ببراهين علمية. ت‌) وحتى لو أمكن ذلك، لما كانت له قيمة أخلاقية. ولنفصل القول في الحجة الثانية، وتسمى أيضاً بحجة ((اعتماد النفس والبدن كل منهما على الآخر)). ويشرحها برترند رسل (لماذا أنا لست مسيحياً؟ ص51، نيويورك، سنة 1957) هكذا: ((نحن نعلم أن المخ ليس خالداً، وأن الطاقة المنظمة لجسم حي تصير كما لو كانت مسرحة عند الموت، وبالتالي ليست مهيأة للعمل الجماعي. وكل الدلائل تدل على أن ما نعتبره حياتنا العقلية مرتبط بتركيب المخ وطاقة الجسم المنظمة. لهذا فإنه من المعقول أن نفترض أن الحياة العقلية تتوقف عندما تتوقف الحياة الجسمية. والحجة هاهنا احتمالية فحسب، لكنها من القوة بالقدر الذي عليه تقوم معظم النتائج العلمية)). وكان الرائد في هذا المجال هو ديفيد هيوم في الفصل الذي عقده في ((لا مادية الروح)) وفيه حاول أن يثبت أن النفس (أو الروح) ليست جوهراً بسيطاً وليست لا مادية. لقد وجد أمامه اتجاهين لاثبات خلود النفس: الأول هو الذي سار فيه بعض أنصار ديكارت واللاهوتيون، ويقوم على التمييز بين جوهرين مختلفين تماماً: أحدهما ممتد وقابل للانقسام، وهو المادة، والآخر غير ممتد وغير قابل للانقسام وهو النفس أو الروح، والثاني هو اتجاه باركلي الذي رد المادة الميتة إلى مجرد توال للمشاعر feelings وباستباده للمادة ظن أنه أثبت لا مادية الروح. فجاء هيوم وضرب التيارين الواحد بالآخر. فأقرّ قول باركلي برد المحسوسات إلى الإحساسات، مقرراً أن إحساساتنا لا تمثل موضوعات ممتدة، لكننا لا نستطيع ـ هكذا يستنتج هيوم ـ أن نقر بهذا دون أن نقرر في نفس الوقت أن بعض انطباعاتنا ـ مثل انطباعات البصر واللمس ـ هي نفسها ممتدة. إن الفكر هو توالي الانطباعات: وبعضها، وعدده قليل، ممتدة بالفعل. لكن وجود انطباعات لا ممتدة لا يسمح لنا بأن نؤكد وجود جوهر لا مادي. ومن ناحية أخرى، استشهد هيوم بما يحدث لسائر الأحياء في الطبيعة، واستنتج أن النفس الإنسانية مائتة فانية هي الأخرى شأنها شأن سائر نفوس الكائنات الحية.
 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || معجم المصطلحات