في اللغة هو العزم، يُقال أجمع فلان على كذا أي عزم. والإتفاق،
يُقال أجمع القوم على كذا أي إتفقوا. وفي اصطلاح الأصوليين هو
اتفاق خاص، وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد (ص) في عصر على حكم
شرعي. والمراد بالاتفاق الاشتراك في الاعتقاد أو الأقوال أو
الأفعال أو السكوت والتقرير. ويدخل فيه ما إذا أطبق البعض على
الاعتقاد والبعض على غيره مما ذكر بحيث يدل على ذلك الاعتقاد.
واحترز بلفظ المجتهدين بلام الاستغراق عن اتفاق بعضهم وعن اتفاق
غيرهم من العوام والمقلدين، فإن موافقتهم ومخالفتهم لا يُعبأ بها.
وقيد من أمة محمد للاحتراز عن اتفاق مجتهدي الشرائع السالفة. ومعنى
قولهم في عصر في زمان ما قل أو كثر، وفائدته الاشارة إلى عدم
اشتراط انقراض عصر المجمعين. ومنهم مَن قال يُشترط في الاجماع
وانعقاده حجة انقراض عصر المجمعين، فلا يكفي عنده الاتفاق في عصر
بل يجب استمراره ما بقي من المجمعين أحد، فلابد عنده من زيادة قيد
في الحد، وهو إلى انقراض العصر ليخرج اتفاقهم إذا رجع بعضهم،
والاشارة إلى دفع توهم اشتراط اجتماع كلهم في جميع الأعصار إلى يوم
القيامة. وقيد شرعي للاحتراز عن غير شرعي إذ لا فائدة للاجماع في
الأمور الدنيوية والدينية الغير الشرعية، هكذا ذكر صدر الشريعة.
وفيه نظر لأن العقلي قد يكون ظنياً، فبالاجماع يصير قطيعاً، كما في
تفضيل الصحابة وكثير من الاعتقاديات. وأيضاً الحسي الاستقبالي قد
يكون مما لم يصرح المخبر الصادق به بل استنبطه المجتهدون من نصوصه
فيفيد الاجماع قطعيته. وأطلق ابن الحاجب وغيره الأمر ليعم الأمر
الشرعي وغيره حتى يجب إتّباع إجماع آراء المجتهدين في أمر الحروب
وغيرها. ويرد عليه أن تارك الاتباع إن أثِمَ فهو أمر شرعي وإلاّ
فلا معنى للوجوب.
إعلم أنهم اختلفوا في أنه هل يجوز حصول الاجماع بعد خلاف مستقر من
حيّ أو ميّت أم لا. فقيل لا يجوز بل يمتنع مثل هذا الاجماع فإن
العادة تقتضي بامتناع الاتفاق على ما استقرّ فيه الخلاف. وقيل
يجوز. والقائلون بالجواز اختلفوا، فقال بعضهم يجوز وينعقد، وقال
بعضهم يجوز ولا ينعقد أي لا يكون إجماعاً هو حجة شرعية قطعية. فمن
قال لا يجوز أو يجوز وينعقد فلا يحتاج إلى إخراجه. أما على القول
الأول فلعدم دخوله في الجنس. وأما على الثاني فلكونه من أفراد
المحدود. وأما مَن يقول يجوز ولا ينعقد فلابدّ عنده من قيد يخرجه
بأن يزيد في الحد لم يسبقه خلاف مستقر من مجتهد.
ثم اعلم أن هذا التعريف إنما يصح على قول مَن لم يعتبر في الاجماع
موافقة العوام ومخالفتهم كما عرفت. فأما مَن اعتبر موافقتهم فيما
لا يُحتاج فيه إلى الرأي وشرط فيه اجتماع الكل، فالحد الصحيح عنده
أن يقال هو الاتفاق في عصر على أمر من الأمور من جميع مَن هو أهله
من هذه الأمة. فقوله مَن هو أهله يشتمل المجتهدين فيما يحتاج فيه
إلى الرأي دون غيرهم، ويشتمل الكل فيما لا يحتاج فيه إلى الرأي
فيصير جامعاً مانعاً. وقال الغزالي الاجماع هو اتفاق أمة محمد (ص)
على أمر ديني. قيل وليس بسديد، فإن أهل العصر ليسوا كل الأمة وليس
فيه ذكر أهل الحل والعقد أي المجتهدين، ولخروج القضية العقلية
والعُرفية المتفق عليهما. وأجيب عن الكل بالعناية، فالمراد بالأمة
الموجودون في عصر فإنه المتبادر، والاتفاق قرينة عليه، فإنه لا
يمكنُ إلا بين الموجودين. وأيضاً المراد المجتهدون لأنهم الأصول
والعوامُ أتباعهم فلا رأي للعوام. ثم الأمر الديني يتناول الأمر
العقلي والعرفي لأن المعتبر منهما ليس بخارج عن البين، فإن تعلق به
عمل أو اعتقاد فهو أمر ديني وإلا فلا يتصور حجيته فيه إذ المراد
بالإجماع المحدود الاجماع الشرعي دون العقلي والعرفي بقرينةِ أن
الاجماع حجة شرعية، فما دلَّ عليه فهو شرعي.
إعلم أنه إذا اختلف الصحابة في قولين يكونُ إجماعاً على نفي قول
ثالث عند أبي حنيفة (ره). وقال بعض المتأخرين أي الآمدي المختار هو
التفصيل، وهو أن القول الثالث إن كان يستلزم إبطال ما أجمعوا عليه
فهو ممتنع، وإلا فلا إذ ليس فيه خرق الاجماع، حيث وافق كل واحد من
القولين من وجه، وإن خالفه من وجه. فمثال الأول أنهم اختلفوا في
عدة حامل توفي عنها زوجها، فعند البعض تعتد بأبعد الأجلين وعند
البعض بوضع الحمل. فعدم الاكتفاء بالأشهر قبل وضع الحمل مجمع عليه.
فالقول بالاكتفاء بالأشهر قبل الوضع قول ثالث لم يقل به أحد لأن
الواجب إما أبعدُ الأجلين أو وضع الحمل، ومثل هذا يسمى إجماعاً
مركباً. ومثال الثاني أنهم اختلفوا في فسخ النكاح بالعيوب الخمسة
وهي الجُذام والبرص والجنون في أحد الزوجين والجَبُّ والعِنَّة في
الزوج والرَّتْق والقَرْن في الزوجة. فعند البعض لا فسخ في شيء
منها وعند البعض حق الفسخ ثابت في الكل. فالفسخ في البعض دون البعض
قول ثالث لم يقل به أحد ويعبر عن هذا بعدم القائل بالفصل وإجماع
المركب أيضاً.
وبالجملة فالإجماع المركب أعمّ مطلقاً من عدم القائل بالفصل لأنه
يشتمل على ما إذا كان أحدهما أي أحد القائلين قائلاً بالثبوت في
إحدى الصورتين فقط والآخر بالثبوت فيهما أو بالعدم فيهما، على ما
إذا كان أحدهما قائلاً بالثبوت في الصورتين والآخر بالعدم في
الصورتين وعدم القائل بالفصل هذه الصورة الأخيرة. وإن شئت زيادة
التحقيق فارجع إلى التوضيح والتلويح. وقال الجلبي في حاشية
التلويح: وقيل الاجماع المركب الاتفاق في الحكم مع الاختلاف في
العلة، وعدم القول بالفصل هو الاجماع المركب الذي يكون القول
الثالث فيه موافقاً لكل من القولين من وجه كما في فسخ النكاح
بالعيوب الخمسة، فكأنهم عنوا بالفصل التفصيل، انتهى. وفي معدن
الغرائب الاجماع على قسمين مركب وغير مركب. فالمركب إجماع اجتمع
عليه الآراء على حكم حادثة مع وجود الاختلاف في العلة، وغير المركب
هو ما اجتمع عليه الآراء من غير اختلاف في العلة. مثال الأول أي
المركب من علتين الاجماع على وجود الانتقاض عند القيء ومسّ المرأة.
أما عندنا معاشر الحنفية فبناءً على أن العلة هي القيء. وأما عند
الشافعي فبناءً على أنها المسّ. ثم هذا النوع من الاجماع لا يبقى
حجةً بعد ظهور الفساد في أحد المأخذين أي العلتين، حتى لو ثَبَتَ
أن القيء غير ناقض فأبو حنيفة لا يقول بالانتقاض. ولو ثبت أن المس
غير ناقض فالشافعي لا يقول بالانتقاض لفساد العلة المبني عليها
الحكم. ثم الفساد متوهم في الطرفين لجواز أن يكون أبو حنيفة مصيباً
في مسألة المس مخطئاً في مسألة القيء والشافعي مصيباً في مسألة
القيء مخطئاً في مسألة المسّ، فلا يؤدي هذا الاجماع إلى وجود
الاجماع على الباطل. وبالجملة فارتفاع هذا الاجماع جائز بخلاف
الاجماع الغير المركب.
ثم قال: ومن الاجماع قسم آخر يُسمى عدم القائل بالفصل وهو أن تكون
المسألتان مُخْتَلَفَاً فيهما، فإذا ثبت أحدهما على الخصم ثبت
الآخر لأن المسألتين إما ثابتتان معاً أو منفيّتان معاً، وهو نوع
من الاجماع المركب. وله نوعان أحدهما ما إذا كان منشأ الخلاف في
المسألتين واحداً كما إذا خرج العلماء من أصل واحد مسائل مختلفة،
ونظيره إذا أثبتنا أن النهي عن الصفات الشرعية كالصلوة والبيع
يوجبُ تقريرها، قلنا يصح النذرُ بصوم يوم النحر والبيع الفاسد
ويفيد الملك عند القبض بعدم القائل بالفصل لأن مَن قال بصحة النذر
قال بإفادة المِلك عند القبض بعدم القائل بالفصل لأن مَن قال بصحة
النذر قال بإفادة المِلك كما قال أصحابنا. فإذا أثبتنا الأول ثبت
الآخَر إذ لم يقل أحد بصحة النذر وعدم إفادة الملك، ومنشأ الخلاف
واحد وهو أن النهي عن التصرفات الشرعية يوجب تقريرها. والثاني ما
إذا كان منشأ الخلاف مختلفاً وهو ليس بحجة كما إذا قلنا القيء ناقض
فيكون البيع الفاسد مفيداً للمِلك بعدم القائل بالفصل، ومنشأ
الخلاف مختلف فإن حكم القيء ثابت بالأصل المختلف فيه، وهو أن غير
الخارج من السبيلين ينقض الوضوء عندنا بالحدث، وحكم البيع الفاسد
متفرع على أن النهي عن التصرفات الشرعية يوجبُ تقريرها.