موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

د. محمد سعيد رمضان البوطي
نظام الحكم في المجتمع الاسلامي

ينعت المجتمع بكونه إسلامياً، عندما يكون وضعه التركيبي العام قائماً على النهج الاسلامي المتمثل في أحكامه وشرائعه المختلفة، المنسقة لعلاقات الناس بعضهم ببعض على النحو الذي يرضي الله عز وجل.
ومن شأن المجتمع إذا أصبح إسلامياً أن ييسر لأفراده سبل الاستقامة على الطاعات، وأن يعينهم على تجنب المعاصي والمحرمات، وأن يغذيهم بروح التربية الاسلامية المثلى، وبالأخلاق الانسانية الفاضلة.
كما أن من شأن المجتمع إذا لم يكن إسلامياً، أن يعرقل سبيل أفراده إلى الاستقامة على الطاعاتن وأن يغريهم باقتراف الآثام والمحرمات، وأن يجعلهم فقراء في تربيتهم السلوكية وأخلاقهم الانسانية.
لذا كان جل اهتمام الشريعة الإسلامية، متجهاً إلى إقامة المجتمع الاسلامي. إذ هو المدار والمعتمد في إصلاح الأفراد وتقويم أخلاقهم وسلوكهم. يتضح لك هذا إذا استعرضت أحكام الشريعة الاسلامية المتنوعة، فسترى أن جل هذه الأحكام تتعلق بإصلاح الوضع الاجتماعي ورعايته، في حين أن سائرها (وهو قليل) يتعلق بالوضع السلوكي أو الشخصي لكل من أفراد المسلمين على حده.
وبيان ذلك أن جملة الأحكام الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول منها يسمى أحكام الإمامة أو السياسة الشرعية، وهو يتناول طائفة كبيرة من الأحكام المتكفلة بحماية المجتمع الاسلامي ورعايته سواء في داخل بنيانه أو من خارجه. من ذلك، الأحكام المتعلقة بتجييش الجيوش ووضع الدواوين، وإعلان الحرب والسلم، ورسم العلاقات التي يجب أن تقوم بين المسلمين وغيرهم من حرب وصلح وهدنة، وموادعة واستئمان وذمة.. والأحكام التي تتناول تصنيف الجنايات والجنح، وتضع العقوبات المناسبة لكل منها. وكثير من الأحكام التي تتناول السياسات المالية، وشؤون الرقابة والحسبة ونحوها.
القسم الثاني أحكام القضاء. وهي تتناول كل ما يتعلق بفض النزاعات وإنهاء الخصومات، وترسم السبيل العادل إلى إعطاء كل ذي حق حقه، كما تتناول البينات والحجاج التي تيسر السبيل إلى تطبيق موازين العدالة بين الناس. وهذه الأحكام ذات صلة وثقى بالشؤون المالية، والأحوال الشخصية، والجنايات المختلفة، وبكثير من المشكلات التي تنشأ عن علاقات الناس بعضهم ببعض.
القسم الثالث: أحكام الفتيا. ويراد بها، لدى مقابلتها بالقسمين السابقين، تلك الأحكام التي تتناول واقع كل فرد من المسلمين على حدة، بحيث لا يتوقف تطبيقها على وضع اجتماعي معين، ولا يقصد بتطبيقها حل مشكلة مباشرة قائمة بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو بين المسلمين وغيرهم. وإن كانت هذه الأحكام، من ناحية أخرى، لا بد أن تترك صبغتها وتأثيراه في المجتمع، بشكل غير مباشر، أي عن طريق ممارسة الأفراد لها وانضوائهم تحت سلطانها.
من هذه الأحكام، العبادات المختلفة، وكثير من أحكام المعاملات والعقود. وسائر المبادئ الأخلاقية التي جاءت بها شرائع الاسلام.
فهذه الأحكام أمثالها، إنما يتلقاها كل فرد على حدة، من رسول الله (ص)، بوصفه مبلغاً عن ربه، أو من الأئمة والعلماء من بعده، بوصفهم مفتين ومعرفين بأحكام الله عز وجل. وبوسع كل منهم أن يطبقها على نفسه وعلى من له قوامة عليهم كالزوجة والأولاد، بدون وساطة قضاء قاض، أو حكم حاكم.
ومن الملاحظ أن سائر الأحكام الشرعية بأقسامها الثلاثة، تتلاقى في دخولها جميعا تحت عموم حكم الفتوى. وذلك لأنها لا تكتسب الصفة الشرعية أصلاً لو لم يتبلغ المسلمون عن طريق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح، أنها أحكام شرعها الله تعالى لعباده.
فهي، بهذه النظرة الشمولية العامة، داخلة في القسم الثالث، مشتركة معه بقاسم مشترك.
ولكن لما قضى الشارع جل جلاله بأن يعهد في تنفيذ بعض هذه الأحكام إلى بصيرة خليفة المسلمين وإمامهم، لكونها ذات صلة دقيقة ومباشرة بأمر المجتمع ورعايته، سميت أحكام الإمامة أو السياسة الشرعية، تغليباً لمراعات هذه المزية فيها.
ولما قضى بأن يعهد في تنفيذ طائفة أخرى منها إلى القضاة الذين وكل الله إليهم حل المنازعات ورعاية الحقوق وفض الخصومات، (وهي تلك التي تعالج هذه الأمور بشكل مباشر) سميت أحكام القضاء، تغليباً لمراعات هذه المزية فيها.
أما بقية الأحكام الشرعية ـ وهي التي تشكل القسم الثالث منها ـ فقد سميت بوصف القاسم المشترك بينها جميعاً، وهو صفة التبليغ والفتوى وذلك نظراً إلى أنها لا تختص بمزية من وراء هذا القاسم المشترك.
لذا فإن القاضي قد يضطر في كثير من الأحيان للرجوع إلى المفتي، في سبيل تمحيص النظر في بعض أحكامه القضائية التي يمارس تنفيذها. ولكن المفتي لا يحتاج أن يرجع إلى القاضي أو إلى الحاكم الأعلى لتمحيص النظر في شيء من هذا القسم الثالث الذي يسمى أحكام التبليغ أو الفتوى.
نعود إلى ما كنا بصدد بيانه: فقد وضح لك من خلال ما ذكرناه أن جل أحكام الشريعة الاسلامية إنما يتجه بالرعاية والمعالجة إلى الوضع الاجتماعي للأمة الاسلامية. إذ هو الضمانة لرعاية حال الفرد وتربيته وتيسير التزامه لسبيل مرضاة الله عز وجل.
ولهذا الذي ذكرناه تتجلى لك أهمية الحكم ونظامه في الشريعة الاسلامية. فهو ليس مجرد جزء من الموضوعات التي يتناولها الاسلام بالمعالجة والرعاية بل هو إلى جانب ذلك أساس هام لجل شرائعه وأحكامه، لا يتهيأ من دونه سبيل لتنفيذ تلك الشرائع والأحكام.
لقد وضح لك أن ثلثي أحكام الفقه الاسلامي، إنما يناط تنفيذه بجهاز الحكم في المجتمع الاسلامي سواء تمثل ذلك في سلطة الحاكم الأعلى بالنسبة لأحكام الإمامة، أو تمثل في سلطة القضاء بالنسبة للأحكام القضائية. فإذا لم يقم هذا الجهاز الحاكم على النحو المطلوب، بقيت هذه الأحكام كلها معلقة لا مجال لتنفيذها أو البت فيها!..
هذا بالإضافة إلى أن رباط أي مجتمع من المجتمعات أو تماسكه، لا يتم إلا في ظل حكم يجمع بين صفتي السلطة والرعاية، والقوة والعدالة. فكيف يكون جل اهتمام الشريعة الاسلامية بإنشاء هذا المجتمع ورعايته، ثم لا يكون له شأن بالشرط الذي لا بد منه لنموه وتماسكه وشيوع روح العدالة فيه؟!.
كما أن من شأن المجتمعات أن يتهددها، بغي قد يثور في داخلها، أو عدوان يتالب عليها من خارجها.
وإنما يرد عنها غائلة كل من البغي والعدوان، إمام أو حاكم أعلى، يضفر وعي المجتمع وجهوده، ويزج بهما في سبيل القضاء على كل ما يتهدد الأمة في داخلها أو من خارجها. فكيف يعقل أن تنسج الشريعة الاسلامية من أحكامها المجتمع الانساني السليم، ثم لا تلتفت إلى العناية بإقامة جهاز حكم إسلامي صحيح، يكون درعاً لذلك المجتمع ضد كل بغي وعدوان؟.
فمن هنا كانت مباحث الإمامة الكبرى من أهم أحكام الشريعة الاسلامية، وكانت مسؤولية إقامة الحكم الإسلامي والبيعة على أساسه، من اثقل التكاليف التي أناطها الله تعالى بعنق كل مسلم.
فأعجب لمن يشتهي أن يصور لك الاسلام ـ على الرغم من وضوح هذا الذي ذكرناه ـ بأنه دين لا يتعلق إلا بخاصية أفراد الناس، وعلاقاتهم الشخصية مع الله سبحانه وتعالى، وأنه إنما يتناول أمر العقيدة والعبادة والأخلاق فقط!. ولا يبالي أن يقفز ـ في سبيل أن يسلم له هذا التصوير ـ فوق ثلثي أحكام الشريعة الإسلامية، متجاوزاً ومتجاهلاً، بل معانداً ومحارباً إذا اقتضى الأمر.
فإن كانت الغاية اختراع دين هذا شأنه، وتلك هي حدود سلطانه، فإننا لفي غنى عن الدينونة له مهما تناقض حكمه وخفت تبعاته. وخير لنا من التقيد به أن نبسط لحريتنا مزيداً من الآفاق والأسباب. وإن كانت الغاية جمعاً بين تبعات الدين الحق الذي ألزم الله به عباده، ورعونات النفس الانسانية التي تغري بأسباب التسلط والظلم والتمتع بمزيد من الشهوات والأهواء ـ فمتى كان في مقدور انسان أن يجمع بين النقيضين، حتى يجمع بل يؤلف بين موازين العدالة الإنسانية وتخبطات الظلم والأهواء؟! ثم ما قيمة أن تزعم لنفسك الجمع بين مقتضيات دين الله عز وجل ومقتضيات عسفك وجورك ونوازعك الشهوانية، إذا كان مالك هذا الدين وديانة غير مقر لك بهذا الجمع أو الخلط؟.. وهل للافتراء على الله والعبث بحكمه وسلطانه، معنى آخر، أبلغ من هذا العبث الغبي؟!.
-----------------------------------------------
المصدر: على طريقة العودة إلى الاسلام

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة