دراسة في فكر سمير أمين هناك ثمة ثلاثة أبعاد للواقع الاجتماعي في كليته، وهي: الاقتصادي والسياسي والثقافي، ولكنها تختلف في درجة المعرفة العلمية. إن البعد الاقتصادي وجد فرصته في المعرفة والبحث. وقد أنتج علم الاقتصاد الأكاديمي أدوات تحليل للظواهر الاقتصادية لابأس بها، وكذلك أدوات لإدارة الاقتصاد تتسم بقدر من الفاعلية. أما المادية التاريخية فقد وضعت هدفاً أبعد لنفسها واقترحت من أجل ذلك منظومة مفاهيم تلقي ضوءاً على طابع ومغزى الصراعات الاجتماعية التي تحدد سير التطور الاقتصادي.
أما البعد السياسي أي مجال السياسية والسلطة فلم يحظ بنفس الاهتمام مثل البعد الاقتصادي، لذلك خلت الدراسات السياسية من وجود وات تحليل عالية ودقيقة المستوى مع غياب نظرية شاملة تقدم تفسيرات مؤثرة على مدارس فكرية مختلفة. حتى الماركسية لم تنتج نظرية للسلطة في مستوى نظرية الاقتصاد الرأسمالي. ويرجع ذلك إلى أن الجانب الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي هو المجدد للتطورات الأخرى بينما في مجتمعات ما قبل الرأسمالية يحتل البعد السياسي والايدولوجي المقدمة في التحليل على العامل الاقتصادي.
يقود الاستنتاج السابق إلى أهمية دراسة البعد الثقافي والذي يعتبر الأقل تقدماً في المعرفة العلمية له ولم يتلق الاهتمام اللازم لكي نتمكن من تعريف و تحديد حتى المفاهيم الأولية البسيطة للبعد الثقافي. ولم نتوصل إلى مناهج أو مقاربات علمية للولوج في ميدان. وكانت نتيجة ذلك أن نظريات الثقافة تدور حول ما يسمى (بالتشويه الثقافوي) ويُقصد بذلك أن النظريات الموجودة تتسم بلا تاريخيتها، حيث تقوم على فرضية وجود عناصر ثقافية ثابتة لاتخضع لمراحل التطور التاريخي وقد تتجلى في مواقف مضادة تماماً، فالبعض قد يجد هذا الثبات في وجود عناصر مشتركة في جميع المجتمعات أو على العكس يرك على التمايزات وخصوصيات مختلف المجتمعات. ونواجه في الحالتين غياب الزمن والنسبية، ففي الأولى يخضع أي مجتمع لنموذج كلي شامل (holistic).
وفي الثانية يكون المجتمع مكتفياً ذاتياً ويكاد يكون منعدم الصلة مع الآخر والعالم الخارجي أو لايخضع لقوانين عامة وله قوانينه الذاتية. وهذا ما يسمى ـ بلغة أخرى ـ التمركز الأوربي والتمركز الأوربي المعكوس أو الاستشراق المعكوس. إن هذه الثنائية لم تعد ممكنة في التاريخ المعاصر، لأن العالم الذي نعيش فيه أصبح رأسمالي الطابع في جوهره رغماً عنا ـ تدريجياً ـ منذ القرن السادس عشر. والمطلوب تحليل العالم على ضوء هذه الفرضية إذا أردنا فهم قوانين تطور المجتمعات البشرية. إن الرأسمالية خلقت حاجة إلى أيديولوجيا عالمية من خلال توسعها في العالم. ومن هنا يبدأ اتجاهان هما، العالمية أو العولمة على أسس أوربية من جهة، والخصوصية من جانب آخر. ويتفق الاتجاهان حول عدم وجود المشكلة أصلاً فدعاة الخصوصية يرفضون تماماً مفهوم العالمية باعتبار أن ثقافتهم ذات جوهر ثابت وتمثلها التيارات الفكرية السلفية والمنغلقة على نفسها داخل تراثها الملحي. أما نموذج التمركز الأوربي فيرى أن أوربا اكتشفت الإجابة على التحدي الذي طرحته الرأسمالية العالمية وعلى المجتمعات الأخرى أن تقتدى بها. وهذا إلغاء للمشكلة بطريقة أخرى، أي تنفى أثر الرأسمالية المدمر على تلك المجتمعات واستحالة أن تشيد رأسماليتها الخاصة حسب المبادئ التي يقوم عليها النظام العالمي. إن (العالمثالثية السلفية) تردد حقيقة عدم القدرة على خلق رأسمالية محلية تقتدى بالنموذج الأوربي، ولكن لاتقدم أي بديل عالمي أي يتجاوز حدود الدين أو الثقافة أو الإقليم.
هناك فرق بين العولمة الرأسمالية الحالية وبين عالمية الامبراطوريات القديمة مثل الدولة العربية الإسلامية التي امتدت من الصين إلى الأندلس أو الدولة الرومانية فالعولمة الرأسمالية تغطى الكون وتلك الامبراطوريات مجرد دول إقليمية كبرى شملت في الأكثر بين الربع والثلث من الانسانية، والراسمالية هي أول نظام عالمي على الكون كله. الاختلاف الثاني هو أن نظام العولمة والرأسمالية يستند: على سيادة هيمنة المستوى الاقتصادي على المستويات الأخرى وسيادة قانون القيمة الذي هو قانون اقتصادي على جميع المستويات الأخرى، بينما جميع النظم السابقة على الرأسمالية كانت قائمة على هيمنة المستوى الإيدولوجي. تستطيع أن تتحدّث عن الدولة الإسلامية، ولا تستطيع أن تصفها كنظام اقتصادي.
ينقسم تبلور فكرة العالمية تاريخياً إلى خمس مراحل هي: الهيلينية، المسيحية، فالغسلامية ثم عصر فلسفة الانوار أو التنوير وأخيراً المرحلة المعاصرة وتكوين الفكر الاشتراكي الماركسي. وتعتبر العصور الثلاثة الاولي مرحلة تحضيرية عظيمة في التاريخ، وظهر فيها لأول مرة مفهوم عالمية الانسان أي مفهوم البشر ذي الشخصية الفردية المتساوية أخلاقياً مهما كانت أصوله من حيث العرق والجنس وأوضاعه الاجتماعية وهذا يعني أن هذه الثقافات أو ما يسمى الميتافيزيقيات الخراجية تحصر مفهوم العالمية في مجال المسؤولية الأخلاقية الفردية وأزلية الروح. وفي مرحلة عصر التنوير ظهرت المفاهيم البرجوازية للحرية والمساواة وفقاً لشروط النظام الرأسمالي. وأخيراً ظهرت الاشتراكية باتجاهاتها المختلفة الطوباوية والإصلاحية والماركسية، لتنطلق من نقد حقيقة المجتمع الرأسمالي واقترحت مضامين جديدة أرقى لمفاهيم الحرية والمساواة بدعوتها لمجتمع لا طبقي على صعيد عالمي.
هناك ثقافات ترى أن ما ينطبق عليها لايمكن تعميمه، ويتولد من هذا التفكير تصوران مختلفان ولكن يتقاطعان رغم التناقض الظاهري. فالغرب الرأسمالي يؤكد خصوصيته ولكن يمكن للآخر أن يتخلى عن ذاته ليكون صورة من المجتمع الرأسمالي إذا أراد أن يلحق به. هنا لاينطبق على العالم الثالث والرابع مثلاً قانون عام بمقدار ما تأتي هذه العمومية بتبني التطور الخاص بالرأسمالية أي طريق واحد. مع ملاحظة أن البعض يعتبر التطور الذي هو امتياز غربي فقط. ومن الناحية الأخرى يقبل الطرف المقابل فكرة: (الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان) وتعيه من ضرورة الأخذ والنقل والتأثير والتأثر لكي يحمي ذاته من العطب أو الذوبان في الغرب. وهكذا يمكن أن تستعمل (الخصوصية) من موقعين متناقضين.
انتشار الأصولية: الأسباب والمدى
تعددت في السنوات الأخيرة التحليلات والأحكام التي تحاول تفسير انتشار ظاهرة الأصولية الاسلامية أو ما يسميه أصحابها الصحوة الاسلامية. وتتراوح التفسيرات بين السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وقد يكون هناك أكثر من عامل في التفسير الواحد. ويرجع انتشار الأصولية إلى نتائج وعمليات التراكم الرأسمالي على صعيد عالمي أي وضعية هذه الثقافات الاسلامية في ظل العولمة. فهي ـ أي الأصولية ـ ليست أزمة هوية بل أزمة توسع رأسمالي يخترق الحدود كلها، بالذات خلال المرحلة الممتدة بين (45 ـ 1990). فقد تعمقت العولمة وأن حركات التحرر الوطني في العالم الثالث شاركت موضوعياً في تحقيق هذا التعمق، ومن خلال تصنيع الأطراف وتحديث أشكال الحكم فيها في أعقاب تحقيقها الاستقلال السياسي. ثم أضفت إلى ذلك أن معيار النجاح في هذه الإنجازات لابد أن يكون مقدار القدرة على المنافسة العالمية في القطاعات الصناعية الحديثة النشأة تمشياً مع منطق العولمة الرأسمالية.
هناك بعض التفسيرات المتداولة والتي ترى الحركة الأصولية ردة فعل مقابل فشل عمليات التحديث بشقيها الرأسمالي والاشتراكي في هذه المجتمعات، وبالتالي هي رفض للنخب الحاكمة في مرحلة المد الوطني والقومي حين تبنت سياسية التحديث أو التغريب ـ كما يسميها معسكر الأصولية ـ ويذهب الاسلاميون إلى أبعد من ذلك: بتقديم أنفسهم كبديل لفشل ا لرأسمالية الغربية والاشتراكية (الغربية) أيضاً. ويرفض أمين هذه الفرضية جذرياً، إذ يرى أن: الرأسمالية لم تفشل على الاطلاق، لا على صعيد عالمي ولا على صعيد العالم الثالث ومنه الأقطار الاسلامية والعربية. فالرأسمالية لاتستهدف (التنمية) ولا تطوير المناطق المختلفة حتى تصبح بلداناً نامية على نمط الغرب. هذا الشعار هو شعار أيوديولوجي بحت لايمت لواقع آليات الرأسمالية ومنطق توسعها بصلة. ولكن على العكس من ذلك يرى أن الرأسمالية كانت ناجحة تماماً لأن منطق الرأسمالية وهو تحقيق أقصى حد ممكن من ربح رأس المال المستمثر في وقت قياسي. وتساعد عملية (تخليف) جزء من الدول (تنمية) الجزء الآخر، في تعظيم الأرباح من خلال الاستقطاب بين التنمية والتخلف. أما الاشتراكية فهي لم تبدأ لكي تفشل، فالتجارب كلها ـ وفي ذلك الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية ـ مثلت مرحلة بناء رأسمالية وطنية مستقلة في دول العالم الثالث، وأخيراً يستنتج أن أطروحة نمو الأصولية الاسلامية بسبب فشل الرأسمالية والاشتراكية ضعيفة وغير مقنعة.
لذلك لايمكن فهم ظاهرة صعود الحركات الاسلامية إلا بوضعها ضمن عملية التطريف والعولمة، والتي تتسارع باستمرار في الفترة الأخيرة. إن تطور الدول الطرفية لم يكن متساوياً من حيث الإنجاز، فهناك دول حققت رغم تبعيتها قدراً من النجاح في تحقيق تنافس نسبي في السوق العالمية. ويطلق عليها اسم (العالم الثالث) وهي تمثل قلب رأسمالية الأطراف للمستقبل. وهناك دول أخرى تسمى العالم الرابع وهي تحتل الدرجة الدنيا في التراتبية العالمية وهي تضم العالم الاسلامي بكليته ـ عدا تركيا وأجزاء من آسيا الوسطى تحت النظام السوفيتي السابق ـ بالإضافة إلى أفريقيا جنوب الصحراء، ونتوصل من خلال هذا التقسيم إلى تمييز واضح بين المجموعتين في طريقة وأسلوب الاستجابة لهذا الواقع. فهناك قدر من النضج أو التطور في ردود الفعل في مجتمعات الفئة الأولى يتخذ شكل صراعات اجتماعية أو طبقية وسياسية. بينما في العالم الرابع نجد حركات الرفض الشعبي التي تتجلى في صور مختلفة وتعتبر (الحركة الإسلامية شكلاً من هذه الأشكال الخاصة بالعالم الرابع. والسمة الرئيسية الواضحة التي تتسم بها هذه الحركات هي غيابها عن إدارة الصراع على أرضيات الحياة الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية وهجرها إلى سماوات الحلول العامة المجردة (الاسلام هو الحل) وامتناعها عن ترجمة هذا الشعار المجرد إلى برنامج ملموس يتناول المطالب الشعبية وإجابات عينية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية.
ولكن هذه الحقيقة في تكوين الحركة الاسلامية لم يحرمها من ميزة تجييش وتعبئة جماهير غفيرة مما جعلها وكأنها حركة جماهيرية جذرية. فهي قادرة على الحشد والتجنيد ولكن لاتستطيع تنظيم الجماهيرية فكرياً وديموقراطياً حول برنامج وفي حزب له قواعد محددة في العضوية وشروط ديموقراطية لإدارة شؤون هذا الحزب أو الجبهة. فقط نشطت الحركة الاسلامية بين الفئات المهمشة من القادمين من الريف دون أن تستوعبهم المدينة والتي تختلف في نشأتها عن المدينة البورجوازية فهي مجرد تراكم لهجرات الريفيين حاملين ثقافاتهم وانقساماتهم الثانية أو العشائرية، ولم تحولهم المدينة إلى برولوتاريا كما حدث في أوربا بعد إقلاع الفلاحين من أراضيهم حين تحولوا إلى العمل في المصانع. وكان الشباب من هذه الفئات قد حصل على تعليم أتاحته له فرصة مجانية التعليم ولكن ساهم هذا التعليم في زيادة العاطلين عن العمل. كذلك كان لابد أن يؤدي مضمون مثل هذا التعليم إلى تكوين رصيد من العقول الجاهزة للتأثر بالأفكار غير العلمية، لأنه تعليم لايقوم على التساؤل والنقد والشك. كما وجد المنتجون الصغار في الحركة الاسلامية بعض الأمان حيث مكنهم الفكر الديني من تفسير العلاقة الاستغلالية التي يعيشونها، رغم غيبية هذا الفهم والتحليل الذي لايقدم الحلول الحقيقية للمشكلات بل يروج الأوهام.
كان من آثار تطور مجتمعات العالم الرابع أن هذه الفئات تعيش حرماناً يبعدها من أي مشاركة فعالة في السلطة والثروة، فغياب الديموقراطية ـ مهما كانت درجتها أو مضمونها ـ لايضع هذه الفئات في مركز القرار ونفس الشيء بالنسبة للثروة، فقد حرمت بسبب الاقتصاد التابع ونمو الرأسمالية الطفيلية والفساد. وقد وقع هذا الحرمان أكثر على الشباب لأن التعليم فتح أمامه تطلعات وآمال جديدة ولكن الواقع جاء محبطاً فاستفادت من ذلك الحركة الاسلامية. فقد قدمت الحركة الايديولوجيا والخدمات التي تخلت الدولة عن تقديمها مع التنازل التدريجي عن دورها قبولاً لسياسات التكيف الهيكلي بالذات إضعاف القطاع العام وتقليل الانفاق الحكومي على الخدمات. وهكذا أصبح الشباب في أغلب الأحيان أعضاء أو متعاطفين محتملين مع الحركة الاسلامية، خاصة وقد واكب ذلك غياب القوى الوطنية الديمقراطية والتقدمية المنظمة التي كانت في الماضي تستطيع تأطير هؤلاء الشباب في أحزاب أو تنظيمات تلبي رغباتهم في الإصلاح أو التغيير الجذر. أما الحركات الاسلامية فهي تشعرهم بالتضامن فقط، أو كما قال أحد الكتاب، بأن الدين ليس أفيون الشعوب ولكن فيتامين الضعفاء.
تحاول الحركة الاسلامية التعبير عن الأزمة بتفسيرات مختلفة ولكن أهم الآراء السائدة هو النظرة إلى القضية باعتبارها أزمة هوية بينما هي في حقيقتها أزمة التوسع الرأسمالي عالمياً. وتختصر الحركة الاسلامية بتياراتها المختلفة (الهوية) في الدين فقط باعتباره المكون المركزي للشخصية الأساسية للأمة الاسلامية أو الثقافة الاسلامية. كما تفهم الدين بطريقة نماذجية ماضوية بمعنى أخذ نموذج ثابت من الماضي وتعتبره سرمدياً أو صالحاً لكل زمان ومكان. وتأخذ الحركة الاسلامية مجتمع المدينة المنورة في عهد الرسول كنموذج يمكن إعادة إنتاجه لمواجهة الأسئلة والتحديات المعاصرة، بالذات مسائل مثل الديموقراطية (تقرأ الشورى) والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس المختلفين عرقياً أو ثقافياً أي معاملة غير المسلمين. وترى في تطبيق نموذج المدينة البديل لفشل الرأسمالية والاشتراكية، إذ يمتاز بتكامله روحياً ومادياً وفردياً. ومثل هذه الأفكار مهما كانت درجة صحتها وتماسكها المنطقي، فهي تجد قبولاً مريحاً واسعاً يعيد الثقة المتوهمة للكثيرين. لذلك يستعمل الاسلاميون شعارات مثل (خير أمة أخرجت للناس).
استطاعت الحركة الاسلامية على أساس أنها فكر أزمة أي تنتشر في مناخ الأزمات، أن تجتذب أغلب الساخطين بسبب الفراغ السياسي والتدهور الفكري والثقافي مع غياب الوعي أو تزييفه. وحققت الحركة الاسلامية انتشاراً ولا أقول صعوداً لأنها لم تتطور فكرياً فهي لاتحتاج لذلك في إقناع الجماهير. فالمقولات أو المفاهيم التي ترددها لم تتغير كثيراً ولم تبتعد كثيراً عن التساؤل التقليدي للإصلاحيين الاسلاميين: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ ما زال الرد التقليدي متداولاً مع تنويعات بسيطة: لأنهم ابتعدوا عن التمسك بصحيح دينهم أو إحياء ما صلح به أولهم. فالشاهد هو أن الحركة الاسلامية تهيمن على المسرح السياسي والاجتماعي بنشاطها الخاص بقدرتها على إقصاء أو تعطيل الآخرين.
الأصولية في مواجهة التحديث والحداثة والعولمة:
فالحركات الاسلامية ترفض هذه التسمية وتعتبرها وصفاً قدحياً يحاول العلمانيون والمستشرقون إلصاقه بها بقصد الوصول إلى نعوت أخرى مثل الجمود والتعصب بل والارهاب وترى أن أساس الكلمة أتى من سياق التاريخ المسيحي، وهي محقة في ذلك فالمصطلح ظهر مع نشر سلسلة كتيبات ما بين عامي 1909 ـ 1915 سميت الأصول أو الأساسيات، وكان ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية. كذلك ترفض الحركات الاسلامية المعاصرة تسمية السلفية. ولكن تسمية أصولي أو سلفي تنطبق على أفراد الحركة الاسلامية وفكرها من خلال مطالبتها ـ كما ذكرنا من قبل ـ بالرجوع إلى نموذج أو أصل طبقة السلف. كما أن إصلاح الدين أو تنقيته يكون ـ حسب رأيهم ـ بإحياء أصول هي عماد الدين الحقيقي. فالمعيار لصحة الدين يكون بالرجوع إلى أصول يفترض الاتفاق أو الإجماع حولها.
من جانب آخر، تتداخل مفاهيم التحديث والحداثة، وتثير كثيراً من السجال الإشكالي في تحديد دلالات المفهوم. نلاحظ أن سمير أمين يتحدث عن وجهين أو شكلين للتقدم أو التحول أو الثورة، يحتوي أحدهما مجالات الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية لتشمل وسائل الانتاج والعلاقات الانتاجية ونظم المجتمع. وهذا يمكن أن يقع ضمن مفهوم التحديث (Modernization) والآخر يعني الثورة الفكرية والثقافية، وهذا يتعلق بالحداثة (Modernity) نلجأ إلى فصل إجرائي لتقريب المفهوم، ولكن الحركات الأصولية تحاول أن تقوم بهذا الفصل على أرض الواقع وتتخذ لذلك عدة آليات، منه على سبيل المثال الفصل بين التغريب والتحديث. ويعني التغريب الاقتداء أو الاهتداء بالنموذج الغربي في التطور أو قيادة المجتمع نحو تحقيق تقدم أو تغيير حسب القيم والوسائل الأوربية، أو على الأقل استلهامها فيما يساعد في إنجاز التقدم المادي. ومن هنا يرفض الأصوليون عملية التحديث لتطابقها مع التغريب باعتبارها تجعل للتاريخ نموذجاً وحيداً للتقدم أو التطور.
نتوقف هنا عند السؤال الذي لايقتصر على الأصولية والحركات الاسلامية فقط، وهو: هل التحديث مشروع غربي أم إنساني حدث في الغرب أو لا؟ أو كما تساءل بادي: هل هناك تحديث غير التحديث الغربي؟ هناك من يري أن شروط التحديث تنطبق على كل المجتمعات الانسانية دون استثناء أي وجود أوضاع معينة تجعل التحديث ممكناً لأنها تفضى إلى قيام المؤسسات التي ترتكز عليها كل عمليات التغيير والتحول على المستوي الجماعي والفردي. وقد حصر بعض العلماء التحديث في عمليات التعبئة والتمايز والعلمنة.
يصل أمين في دعوته إلى الثورة الفكرية إلى تأكيد أن الفكر الحديث تخلى أكثر عن الاهتمام بالبحث عن (الحقيقة المطلقة)، ولكنه يرى: ميلين اثنين يتواجدان في أعماق الإنسان ويتجاوزان حدود مختلف مراحل تطور المجتمع وبالتالي يحددان وضع الانسان في الطبيعة، وهما الميل الأخلاقي والميل الكسموجوني) ويعطي الدين موضوعاً أصيلاً وأساسياً في الفرد وبالتالي في المجتمع، لذلك يفترض أن يكون للدين دوره في عملية الثورة الثقافية. ولكن يحدد نظرتين للدين: كعقيدة أو ظاهرة اجتماعية، يصاحب هاتين النظرتين مفهوما الاجتهاد والابداع. فالاجتهاد ممكن في العقيدة وله سقف معين، أما الابداع فينطلق نحو فضاء أرحب في مجالات المعرفة الأخرى أي تلك التي لاتحكمها الشريعة أو النصوص الدينية. هذا هو مدخل وشرط الثورة الثقافية والتي هي في هذه الحالة ثورة في الدين بموقعه في الفكر العربي ـ الاسلامي طوال أربعة عشر قرناً. ويرى أمين ذلك ممكناً وقد حدث في المسيحية، ويرجع ذلك إلى ما يسميه مرونة الأديان وقابليتها للتكيف وللتطور الاجتماعي. لذلك يطرح المهمة الحيوية والحاسمة أمام الحركة الأصولية العربية، إذ يقول: نحن العرب نواجه إذن تحدياً مزدوجاً: تحدي النضال من أجل تقدم الأوضاع الاجتماعية من جانب، والتحدي على جبهة الفكر من أجل الخروج من مأزق الفكر الوسيط من الجانب الآخر. ولا يقل هذا البعد الثاني الثقافي أهمية عن بعده الأول الاقتصادي والسياسي.
الأصولية بين الفكر والممارسة:
مثلت السنوات الأخيرة اختباراً واقعياً لقدرة الحركات الاسلامية الأصولية على الاستجابة لتحديات الحداثة والعولمة. ورغم أنها على المستوى النظري حاولت أن تكون بديلاً ولكن الفهم الخاطئ للتطورات المعاصرة قاد إلى إقتراح حلول خاطئة وتبني رؤى غير واقعية. إذ بينما نتحجث عن ثنائية الرأسمالية والاشتراكية أو التخلف والتقدم أو الحداثة والتقليد، يحول الأصوليون الصراع أو التناقض إلى آخر عقائدي أو ديني. وقد ارتكزوا على فكرة أن الاسلام هو الحضارة وبالتالي لايمكن تقسيمه أو تقسيم المجتمعات المسلمة (الحقيقية) إلى حديث وتقليدي.
ترد مثل هذه التوصيفات في أغلب أدبيات الحركة الاسلامية وهي قاطعة في رأيها بأن الاسلام يوجد في داخله ولذلك ليس مطالباً باللحاق بنموذج خارجه، كل المطلوب هو أن يعيد إنتاج نفسه ولكن حسب المبادئ الاسلامية ذات الطابع الشامل. وهناك من يرى التحديث امتداداً لعملية التبعية التي بدأها الغرب منذ حملاته الاستعمارية، ويهدف التحديث لجعل هذه المجتمعات جزءاً من أوربا أو الغرب عموماً. ولكن هذه العلاقة المتداخلة لاتمنع من الأخذ من التكنولوجيا والعلوم شريطة أخضاعها للعقيدة التوحيدية المتمثلة في الإيمان بالله الواحد الخالق.
تقوم الاستجابة الأصولية على الفصل بين التحديث أو الحداثة والتغريب لأسباب دينية. حقيقة الحداثة في أوربا والغرب لها جذور دينية مسيحية، فالرأسمالية ـ حسب فيبر ـ وجدت أرضيتها الخصبة في الأخلاق البروتستانية. وإسلوب الحياة الحديثة صاغته ـ إلى حد كبير ـ الثورة الصناعية التي بدأت في انجلترا في منتصف القرن الثامن عشر، وذلك على مستوى التحول في الانتاج والعلاقات الاجتماعية على الأقل. ويرجعها البعض إلى بروز النظام البرجوازي في أوربا عامة بما يحمله ذلك من التصنيع والمدن والعقلانية والتنوير والعلمانية والديمقراطية وغيرها من الدلالات التي لازمت ذلك التحول العميق في أوربا الغربية. ورغم ذلك يرى الأصوليون أن التطور في الغرب هو حداثة مسيحية أي تحويل المسيحية إلى الحداثة، ولكن القضية لم تعد دينية في جوهرها بعيداً عن التاريخ والمكان. فنحن الآن أمام تحولات قد نجد جذورها الأولي. قد يقسر ذلك موقف الازدواجية أو الثنائية التي تتسم به الحركة الاسلامية رغم كل ادعاءات الأصالة، إذ لم تستطع حل إشكالية مصدر الحداثة. لذلك قد ترفض بعض مظاهر الحداثة بسبب من أين أتت أو ظهرت؟ وليس بسبب جدواها أو صلاحيتها.
لايرجع عجز الحركة الأصولية عن الاستجابة إلى طبيعة الدين أو عدم مرونته، ولكن إلى قدرات الحركة نفسها. ويؤكد أمين بحزم أن (الصحوة الاسلامية المزعومة) لم تحقق خطوة أولى ـ مهما كانت متواضعة ـ في اتجاه الثورة الثقافية المطلوبة.
نقف عند المأزق العربي، نحن في حاجة إلى ثورة فكرية ـ ثقافية ولكن القوى الاجتماعية الأغلب والأكثر عدداً، فشل مثقفوها في القيام بهذه المهمة. والثورة الثقافية تحتاج لفهم غير متخلف، رغم عدم مرآوية العلاقة بين الواقع والفكر أو انعكاس البناء التحتي على البناء الفوقي. إلا أن الظروف الراهنة في الواقع العربي استمرت في إنتاج فكر يشبهها في تخلفه.
ومن الواضح أن المجتمعات العربية لم تتمكن من تحقيق هذه الثورة أو التغيير، وحتى الأنظمة الوطنية التي حكمت في الستينيات ويصفها الأصوليون بالعلمانية، لم تتجرأ على تنفيذ أي سياسات علمانية، بل على العكس من ذلك، دخلت في مزايدات دينية مع الأصوليين. ويمكن من رصد دور الدولة في الميدان الديني خلال الفترة الناصرية مثلاً، أن نتوصل إلى مساهمة الاسلام الرسمي في دعم رصيد ممكن للحركة الأصولية فيما بعد، وظهرت آثاره الآن. ورغم أن العلمانية في السياق العربي لاتتطابق مع الإلحاد وتعني ببساطة ازدياد المدني على حساب الديني في الدولة والمجتمع.
يؤكد أمين أن الحركة الأصولية أو السلفية (وهي تعني عنده الدعوة لإقامة الدولة الاسلامية) لاتعمل من أجل القيام بالثورة الثقافية المطلوبة بل تسعى إلى إبعاد هذا الخطر ـ حسب قوله ـ ويتضح ذلك من تحليل مضمون ايديولوجية التيار السلفي أو الأصولي.
أسلمة الحداثة أم تحديث السلام؟
اتسمت محاولات الحركة الأصولية في حل مشكلات العصر ومنها بالذات على مستوى الاقتصاد والتكنولوجيا والعلم، بقدر كبير من الازدواجية أو الثنائية، هذا الوضع ناجم عن توفيقية تقف بين النص والواقع أو التراث والمستقبل، ولكنها بحكم تكوينها ورؤيتها للعالم والمجتمع والانسان، تنرلق إلى معسكر المحافظة لتصبح دون وعي حليفاً للتطور الرأسمالي العالمي. لقد وجدت الحركة الأصولية نفسها بين خيارين إما أن تملأ الحداثة بمضمون إسلامي أو تقوم بإصلاح ديني (يحدثن) الاسلام أي يفسر ويفهم من خلال عيون العصر وليس عيون الموتى. واختارت الأصولية مهمة أسلمة الحداثة، لذلك كثر الحديث عن الاقتصاد الاسلامي، وإسلامية المعرفة، وحتى درجة البحث عن سينما إسلامية أو فن إسلامي.
يعتبر الاقتصاد أهم المجالات التي مثلت تحدياً للحركة الأصولية وللنظم الاسلامية الحاكمة مثل إيران والسودان وباكستان في فترات معينة وقد تأتي تركيا وأفغانستان. ولقد كثر الجدل منذ منتصف السبعينيات حول الاقتصاد الاسلامي، مع أن الفكرة أسق من ذلك، ولكن الفورة النفطية بعد ارتفاع أسعار النفط عقب حرب اكتوبر 1973، جعل القضية تتقدم إلى صدارة البحث عن حلول متمايزة للمجتمعات الاسلامية. وبعد سنوات قليلة جاءت الثورة الإيرانية، حيث سنحت الفرصة لكي نرى نموذجاً على أرض الواقع وليس في سماء الشعارات أو ثنايا النصوص. ولكن النموذج الإيراني لم يغير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ما ورثه من زمن الشاه واكتفي بالتحديات الثقافية. وفي كل الأحوال كانت الأخلاق الحافز لحشد الناس حول قضايا يدعي النظام دينيتها وهي في جوهرها غير دينية. يحاول الأصوليون الوصول إلى فصل تعسفي بين المادي والروحي حسب تفسيرهم، فهم يقولون مثلاً إنهم مع الديمقراطية كطريقة لاختيار الحكام وتداول السلطة ولكنهم يعارضون النواحي الفلسفية التي قامت عليها. فهم ـ مثلاً ـ مع الصناعة ولكن بدون مشكلاتها الاجتماعية. لذلك يلتقي الأصوليون مع الرأسمالية في أهم أسسها مع رفض المضامين الروحية أو الثقافية. فهي تقبل الاقتصاد الآتي من الغرب، وما هو غير ذلك يقع تحت طائلة (الغزو الفكري) وقد وصل أحد الباحثين إلى هذه الحقيقة، حين قال: (الاسلاميون معادون لليبرالية الاقتصادية. لأنها حركة ذات طابع أخلاقي تخشى أن تقود الليبرالية السياسية والاجتماعية إلى الانحلال والتفسخ. بينما الليبرالية الاقتصادية قد تقود إلى القوة الاقتصادية، أما الآثار الجانبية للرأسمالية، فيمكن معالجتها بالإصلاح والزكاة والتكافل). ويسبب قبول الليبرالية الاقتصادية لايمكن القول بأن الأصوليين والحركة الاسلامية معادون في حقيقة الأمر للغرب أو بالأصح للرأسمالية العالمية. على العكس من ذلك يؤدي الخوف المرضي من الشيوعية والإلحاد إلى تنازلات في التعاون مع الغرب الرأسمالي.
أما الدولة الأخرى والتي وصل إليها الإسلاميون إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري وهي السودان فقد اختطت سياسة خوصصة لاتختلف عن مصر أو السودان أو تونس أو ساحل العاج. وقد قبلت السودان خلال سنوات حكم الإسلاميين من 1989 حتى الآن، كل شروط صندوق النقد الدولي (IMF) ورفع القطاع العام يده عن كثير من المشروعات الاستراتيجية مثل المواصلات والاتصالات بل رفعت الدولة الدعم عن التعليم والصحة. ويشجع النظام الحاكم القطاع الخاص والمبادرة الفردية إلا أنها رأسمالية موجهة تميز أعضاء حزب الجبهة الإسلامية القومية الحاكم.
أما على الصعيد النظري، فتلتقي مبادئ الاقتصاد الاسلامي التي يعلنها الاسلاميون مع الرأسمالية أو الملكية الخاصة والحرية. فهم ينطلقون من فكرة الاستخلاف لأن الأصل في الملكية لله وحده أما بالنسبة للبشر المستخلفين، فالملكية لها أسباب حققتها: (فإما ناتجة عن ممارسة الانسان لنشاط معين فكانت ناتجة عن جهده وسعيه، أو يكون مصدرها إلهياً تشريعياً كملكية الإرث أو الميراث). كذلك يضع في الاعتبار الفطرة أي (الطبيعة البشرية وما فطرت عليه، فلم ينظر لغريزة التملك على ضرورة قتلها في النفس البشرية. ومن ناحية أخرى، فالربح ليس له حدود.
رغم أن هذا المجال لايسمح بدراسة ونقد الاقتصاد الاسلامي، إلا أن ما سبق يقدم نماذج لتوجهات عامة للاقتصاد الاسلامي نوضح عدم تناقضه مع العولمة والرأسمالية العالمية بعيداً ن فلسفتها ومضمونها الثقافي. وقد صدق أحد الباحثين حين أسماه (بالاقتصاد البلاغي) نسبة للبلاغة والخطابة. من الملاحظ أن يسمى بالاقتصاد الاسلامي ركز على قضية واحدة هي الربا. لذلك ظهرت موجة البنوك الاسلامية مقابل ما أسموه بالبنوك الربوية التي تتعامل بالفائدة. هذا هو التناقض الوحيد الذي زعم الاسلاميون اختلافاتهم فيه مع الرأسمالية. ولكن عمليات المرابحة التي تقوم عليها البنوك الاسلامية تخضع لجدل واختلافات واسعة.
أخذت محاولات الاسلاميين في النهاية شكلاً لأسلمة الحداثة في فضاءات الثقافة والفكر، ولكن وقعت في تناقضات أفقدتها الاصالة ولم تدرجها في الحداثة. وهذه هي العملية التي يسميها شايغان ـ في تعبير ـ دقيق وعميق ـ التصفيح أو الفصام المعرفي، حيث تعمل معرفتان مختلفتان جذرياً في آن واحد داخل الشخص الواحد. حيث تكون الأفكار من الحاضر والمواقف من الماضي، وهنا تظهر كل أنواع الاختلالات.
إذ بينما يحاول الاسلاميون أسلمة الحداثة، يجدون أنفسهم قد انغمسوا في العالم دون مقاومة حقيقية غير التشنج والصراخ، يقول شايغان عن الحالة الإيرانية التي يمكن تعميمها:
(ليست الثورة هي التي تتأسلم لتغدو عقيدة أخروية (...)، بل الاسلام هو الذي يتفكرن، يدخل في التاريخ ليقاتل الفكرة، أو الفكرويات المنافسة التي هي عموما (...) أكثر توافقاً مع روح العصر. وهكذا يقع الدين في فخ مكر العقل: فالدين حين يريد الوقوف ضد الغرب إنما (يتغربن) يتفرنج: وحين يريد روحنة العالم، إنما (يتعلمن)، وحين يريد إنكار التاريخ، إنما ينزلق فيه كلياً).
--------------------------
المصدر : العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي