موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

الصادق النيهوم/محمد جلال كشك
الافتقار إلى لغة الديموقراطية ويعقبها رد محمد جلال كشك بعنوان(في خدمة العسكر : محلك سرّ)

 

يعايش العرب تجربة حضارية أشبه بالكارثة في ثلاثة جوانب على الأقل: فمن جهة، لا يفتقر العرب إلى إدارة ديموقراطية فحسب، بل يفتقرون إلى لغة النظام الديموقراطي نفسه. انهم يترجمون عن الغرب مصطلحات مثل ]برلمان، ومعارضة، ومحكمة عليا، ودستور، وأحزاب[. لكن هذه المفردات الرأسمالية، لا ترد أصلاً في قاموس القرآن الذي يعتمده العرب مصدراً للتشريع. وهي مشكلة لها نتائج متناقضة جداً، منها أن الحكومة العربية، لا تستند إلى شريعة، وأن الشريعة العربية لا تستند إلى حكومة.
من جهة أخرى، لا يكف العرب عن القول، بأن القرآن هو دستور العدل الإلهي الشامل، وأن كل دستور سواه، مجرد قانون وضعي ناقص. لكن أحداً لا يهمه أن يلاحظ مدى العجز عن تحقيق العدالة عملياً منذ أربعة عشر قرناً حتى الآن. فالخطة المعمول بها في تفسير هذا الدستور، تقوم على تمجيد نصوصه، وليس على تطبيقه في نظام إداري محدد.
من جهة ثالثة، لا يعاني العرب من غياب العدل وحده، بل يعانون أساساً من غياب الوعي. فالاسلام الذي ورثوه عن عصور الاقطاع، اسلام كهنوتي، يرتكز على أداء الطقوس، ويعتمد منطق المعجزة والخرافة، وينطلق من مبدأ رهباني مؤداه، أن حياة الانسان الحقيقية، تبدأ ـ فقط ـ بعد أن يموت. وهي فكرة هدفها أن تلغي جميع الأفكار، وتنهي الحوار من أساسه، وتقدم الحل الذي يقوم على الاستغناء عن كل الحلول.
ميزة هذا التفسير الغيبي، أنه قادر على تحقيق سياسة التعويض النفسي التي قامت عليها نظم الاقطاع في جميع العصور، وفي جميع الحضارات. فمنذ عصر اوزيريس، كان الكهنة قد طوروا نظرية ]العالم السفلي[ التي سيعيد اليهود صياغتها تحت اسم ]العالم العلوي[. وكانوا قد عرفوا أن عقل الانسان ـ رغم نباهته ـ لا يستطيع أن يفرق بين الواقع وبين الحلم، من دون تدريب طويل ومعقد. وهي نقطة ضعف، تم استغلالها بمهارة في تطوير مناهج تعليمية مختلفة، قامت جميعاً على توجيه المشاعر في سن مبكرة، لتعويض الانسان عن واقعه المعاش، بواقع يحسه من دون أن يعيشه. وقبل أن ينقضي القرن الأول للميلاد، كان ابكتوتس قد لخص قضية الديموقراطية في إعلان مؤداه، أن الانسان الحر، هو الذي (يشعر) بأنه حر، وكان هذا المبدأ الشعوري، قد ألغى كل الفروق بين الدين وبين الافيون، وأحال مفهوم ]الشريعة[ من دستور إداري قائم على مسؤولية الناس تجاه حاضرهم ومستقبلهم، إلى نظرية رهبانية مسخرة لقطع علاقة الناس بالدنيا، وتفتيت الجماعة إلى أفراد مسحورين، يبحثون عن الخلاص في عالم ما بعد الموت. وهي نظرية تبناها الفقه الاسلامي رسمياً في قاعدته المريبة التي أقامت شريعة الاسلام على خمسة أركان، ليس بينها ركن واحد، له علاقة بحق المواطن في الإشراف على جهاز الحكم.
بموجب هذه القاعدة، تقررت أربعة مبادئ فقهية، موجهة صراحة لخدمة مصالح السحرة على حساب حقائق جوهرية جداً:
المبدأ الأول، يقوم على احتكار الفقه لسلطة بابوية رسمية.
فالاسلام المعمول به شرعاً، ليس دستوراً حياً، يعيش بين الناس الأحياء، ويتطور معهم من عصر إلى عصر. بل تعاليم موروثة، يتناقلها الفقهاء مثل جثة محنطة منذ مولد الفقه في القرن الهجري الأول. ولهذا السبب، فإن القوانين الاسلامية لا تصدر عن أمة المسلمين في استفتاء عام، بل تصدر عن فقيه مسحور، علامته السحرية، انه يعيش في كل العصور، بعقلية القرن الهجري الأول، ويملك كل الفتاوى المطلوبة بشأن معاملة العبيد والجواري وقطع يد اللص من المعصم، لكنه لا يملك فتوى واحدة بشأن حرية الصحافة وحق المواطن في الاطلاع على ما يجري في دهاليز الحكومة.
المبدأ الثاني، يقوم على تفريغ الدين من محتواه الإداري. فالاسلام الذي يتبناه الفقه، شريعة سلطانية فردية، لا تعرف نظام البرلمان، ولا تعترف بتعدد الأحزاب، ولا تملك وسيلة عملية واحدة، لضمان مسؤولية الأمة عن تسيير سياسة الدولة. وهي كارثة عقائدية ذات أبعاد مريبة حقاً، منها أن الشريعة التي أنزلها الله العادل، نسيت أن تضمن حق الناس في العدل.
المبدأ الثالث، يقوم على الفصل شرعاً، بين مصير الفرد وبين مصير الجماعة. فالمواطن المسلم يستطيع أن يضمن خلاصه بأداء الشعائر، ويدخل شخصياً في زمرة ]الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون[. حتى إذا كان كل مواطن آخر من حوله، يعيش خائفاً ومقهوراً ومهدداً في ماله وعرضه معاً. وهي فكرة لا يقرها القرآن، ولا يقرها العلم، وليس لها سند شرعي واحد، سوى حاجة الفقهاء إلى تطوير المبدأ الشعوري الذي أحال الدين إلى نوع من الأفيون.
المبدأ الرابع، يقوم على تبني نظرية عنصرية معقدة، لتحقيق الهدف السحري الرهيب الذي يكمن وراء فلسفة الشعور من أساسها. فالمواطن المسلم هو عبد الله الصالح الذي وعده ربه بالخلود في الجنة، ووعد غيره بالخلود في النار. انه مثل الرجل الأبيض الذي يعتبر لون جلده في حد ذاته، مبرراً شرعياً لكي يشعر بالتفوق. وهي فكرة تناقض نصوصاً قرآنية صريحة، لكنها أصبحت قاعدة لقوانين اسلامية متعددة، منها تحريم زواج المسلمة من غير المسلم، وإباحة دم المرتد، واعتبار غير المسلمين أنجاساً، لا يحق لهم دخول الأراضي المقدسة، وتحريف مفهوم الجهاد، من معركة لاقرار الديموقراطية إلى حرب ضد بقية الأديان.
فالاسلام في رؤية هذا المنهج الوصفي، ليس هو الاسلام الذي يعايشه الناس في أرض الواقع، بل هو الاسلام ]الشفوي[ الذي يصفه الفقهاء بكلمات منتقاة من قاموس الشعر. انه ليس شريعة عادلة قابلة للتطبيق، بل حلماً بشريعة عادلة, يحلم بها كل الناس، لكن أحداً لا يعرف سبيلاً إلى تطبيقها عملياً، بما في ذلك الفقهاء أنفسهم.
باستثناء نظام الخميني، يزدحم العالم الثالث بحكومات اسلامية كثيرة، بعضها تعتبر نفسها حامية للاسلام، وبعضها تعيش في حماه، وكلها تتمتع بمساندة إلهية مضمونة من شيوخ الأزهر. لكن ليس بينها حكومة واحدة، تملك برلماناً شرعياً، أو تعرف نظاماً إدارياً واحداً من شأنه أن يضمن مسؤولية المواطن عن شؤون الإدارة. وهي حقيقة تجلت في ثياب الهزلة، خلال الغارة العراقية على الكويت، عندما انقسم (علماء الاسلام) فجأة إلى فريقين صاخبين، أحدهما يلعب لمصلحة العراق، والآخر يقذفه بالفتاوى النارية، في مباراة بدت بمثابة دليل محزن على أن المواطن المسلم شخصياً، لا يملك صوتاً، بشأن ما يحدث له، وأن الاسلام ليس شرعاً قادراً على إصدار حكم جماعي، بل مجرد نظرية قابلة للتطويع، بقدر ما تشاء أهواء السياسة.
قبل العراق، كان (علماء المسلمين) قد انقسموا دائماً إلى فريقين بين السنة والشيعة، أو بين الخوارج والأمويين، أو بين الأمويين والعباسيين، أو بين القرامطة والتتار. وقد انحاز بعضهم إلى صف نابليون ضد الأتراك. وانحاز بعضهم الآخر إلى الإنجليز ضد عرابي، فيما خرج مفتي ليبيا ذات مرة، لكي يقلد (سيف الاسلام القاطع) للمدعو موسوليني شخصياً. فالمنهج الوصفي الذي يعتمده (علماء المسلمين) في تفسير الاسلام، ليس منهجاً شرعياً قادراً على الالتزام بحقيقة واحدة، بل منهجاً دعائياً مسخر لتطويع الدين في خدمة السياسة، على حساب الحقيقة الواحدة بالذات. انه مجرد وصف لغوي للظاهرة، صفته الأولى، انه لا يقوم باستقراء الواقع، وصفته الثانية، انه سهل، وعاطفي، وطفولي، وساذج، ولا يتطلب بذل الجهد، وخال من المسؤولية، ومفتوح لكل من هب ودب لكي يضمن لنفسه عيشاً رغداً، في نظم إقطاعية مغلقة، يصعب فيها كسب لقمة العيش.
لكل ما يتطلبه المنهج الوصفي، هو أن تقول لكل من تصادفه، إن الاسلام دين العدل والرحمة والرخاء والكرامة والحرية وإن طريق المسلمين إلى الجنة في الدنيا والآخرة، هو أن يتمسكوا بشعائر الاسلام، ويعتصموا بالصبر، ويلتزموا بمكارم الأخلاق، ويحب بعضهم بعضاً، حتى يصيروا كالبنيان المرصوص). أما كيف يحقق المسلمون هذه المعجزة في نظم إقطاعية مسلحة تقودهم كالخراف من عصر إلى عصر. فذلك سؤال لا يدخل في باب (العلم)، ولا يجيب عنه علماء الدين، وليس من شأن منهجهم الوصفي أن يورطهم أبداً في مثل هذه التفاصيل الإدارية المعقدة. إن المشكلة بأسرها يتم حلها ـ سحرياً ـ بتسخير اللغة لكي تنوب عن الواقع، على غرار ما يفعل رواة الأساطير.
البديل المتاح عن مناهج الفقه في ثقافتنا العربية، هو الدعوة إلى ]الديموقراطية الرأسمالية[ التي تحولت بدورها إلى دعوة سحرية أخرى، تقوم على منهج وصفي آخر، لا يختلف عن منهج الفقهاء في شيء، إلا في مصدر الصفات التي يضطر إلى ترجمتها عن اللغات الأوروبية، في محاولة طريفة ـ ومستحيلة ـ لإقامة نوع من الحوار بين نوع من الطرشان.
فالواقع أن دعاة هذه الفكرة البديلة، لا يتقدمون بحل لمشكلة الديموقراطية في الوطن العربي، بل يسخرون اللغة للتعويض عن غياب الحل، على غرار ما يفعل الفقهاء بالضبط. انهم لا يملون من تكرار القول بأن ]الديموقراطية جميلة ومفيدة ومطلوبة وضرورية وعظيمة وقادرة على تحقيق الرخاء والعدل[. لكن أحداً منهم لا يهمه أن يذهب وراء هذه الصفات، لكي يشرح للعرب، كيف يمكن إقامة الديموقراطية الرأسمالية في مجتمع لا يملك رأس المال ولا العمال، وليس بوسعه أن يؤسس أحزاباً، لا تجد ما يدعوها إلى التحزب.
إن الديموقراطية الرأسمالية ليست فكرة يمكن استعارتها، بل ]بيئة[ تشكلت خلال قرون طويلة من معايشة الثورة الصناعية التي فرضت ظهور قوتين جديدتين على تاريخ الحضارة بأسره، هما قوتا التجار والعمال، ونجحت بالتالي في خلق سلطة حزبية بديلة عن سلطة الإقطاع والكنيسة. وكل محاولة لنقل هذا النظام الحزبي إلى بلد غير صناعي، فكرة من شأنها أن تحيل الديموقراطية الرأسمالية إلى تمثيلية هزلية، تختفي وراءها أعتى نظم الطغيان، وأكثرها جبروتاً وقسوة.
والواقع أن العرب بالذات، هم أشهر شهود الإثبات على أن الديموقراطية الرأسمالية، ليست فكرة يمكن استعارتها خارج بيئتها الأصلية. فقد جربوا نظام الأحزاب منذ مطلع القرن الحالي، وعايشوا في ظله كل أنواع المآسي، من تقسيم الوطن العربي بين الباشوات وشيوخ القبائل، إلى ضياع فلسطين في معركة وهمية بحتة. وعندما زحف قادة العسكر على العواصم العربية، في أعقاب الهزيمة، خرجت الأمة للترحيب بهم، معلنة براءتها من قادة الأحزاب الذين تعرضوا للقتل والسجن في شهادة معلنة، على أنهم لم يكونوا ممثلين للأمة حقاً، ولم يمتلكوا من السلطة الشرعية، ما يكفي للدفاع عن فروة رؤوسهم.
إن الدعوة إلى نظام الأحزاب في واقعنا العربي الحالي، دعوة سحرية صرفة، يتبناها نوع جديد من الفقهاء المسحورين الذين خلعوا جلابيبهم وعمائهم، وخرجوا متنكرين في ثياب أوروبية، آملين أن يقدموا عرضاً مختلفاً على المسرح المنهار نفسه.
بين هذين الخيارين، لا يملك العرب سوى ممر وحيد وضيق ومظلم وصعب وحافل بالمخاطر، لكنه يستطيع أن يقودهم إلى الخلاص. وهو طريق الشرع الجماعي الذي يقوم على استعادة نظام الجامع، وتطوير اجتماع يوم الجمعة، من لقاء للصلاة والوعظ، إلى مؤتمر سياسي على مستوى الأمة، موجه لاعتماد الديموقراطية المباشرة، وضمان القاعدة الدستورية التي تكفل حق المواطن في الإشراف على إصدار القوانين ومراقبة سير الإدارة، وإيجاد السلطة الجماعية البديلة عن سلطة الإقطاع ورجال الدين.
الديموقراطية التي يبشر بها الصادق النيهوم:
في كتابي (طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية) فسرت نكسة الحضارة الاسلامية وعجزها عن إنجاز الثورة الصناعية، وقد كانت منها قاب قوسين أو أدنى في منتصف القرن الحادي عشر. فسرت ذلك بالحروب الصليبية والاجتياح المغولي، وقلت إن من أخطر نتائج هذا الحدث تراجع طبقة المثقفين والتجار وتولي العكسر مقاليد الأمور في العالم الاسلامي تحت مبرر أولوية الدفاع عن الوجود، ولو على حساب الحضارة والتمدين أو التقدم. وهكذا تجمد المجتمع، وتحول المثقف من دور المفكر المحاور المطور للمجتمع، إلى نديم أو فقيه السلطان الذي يبرر ويحلل وينظر لحكم العسكر ثم حكمتهم! وتتابع التراجع والانهيار، وحتى عندما جاءت الهبة العثمانية التي رفعت راية المسلمين على أسوار فينا، ورغم المستوى الثقافي الرفيع الذي كان لأوائل سلاطينهم إلا أنهم بحكم الروح العسكرية التي كانت تسيطر على العالم الاسلامي كله رأوا الخطر عليهم من ظهور قيادة مدنية تركية لا شك أنها وحدها كانت القادرة على إقامة المجتمع التجاري المنفتح، والسفر إلى أعالي البحار لمزاحمة تجار غرب أوروبا في العالم الجديد، ثم إنجاز الثورة الصناعية الكبري. لكن سلاطين آل عثمان استمروا في الاتجاه نفسه الذي بدأه الأيوبيون، عندما فرضوا العسكر على الرعية ولم تكن الانكشارية التي اعتمدوا عليها وسلطوها على المجتمع المدني إلا مماليك الدولة العثمانية الذين حموها بسيوفهم وإخلاصهم، ومدوا حدودها في جميع أنحاء المعمورة أو الثلاث قارات المعروفة وقتها. وفي الوقت نفسه قضوا على فرصتها في دخول العصر الحديث، ثم كانوا أعجز عن أن يخلقوا حضارة وأقوى من أن يرغموا على قبولها!
ومن دلالات التاريخ أنه كما كانت الحروب الصليبية هي التي دفعت طبقة العسكر إلى الصدارة في المجتمع الاسلامي وما ترتب على ذلك من ضياع فرصته في العصر الرأسمالي ـ الصناعي، فإن الحرب نفسها أحدثت العكس تماماً في أوروبا إذ خلصت المجتمع المدني من العسكر (ذبح عسكر المسلمين فرسان أوروبا، فحرروا عدوهم التاريخي!) واستعان ملوك أوروبا من ثم بالمثقف والتاجر في بناء الأوطان الموحدة والمجتمع المدني، ثم حضارة العصر الصناعي أو النظام الرأسمالي الذي استخدم العسكر لبناء الامبراطورية ولم يستخدمه العسكر.
فلنقصر حديثنا هذه المرة على العلاقة بين المثقف الذي أصبح رعية والعسكري الذي أصبح حكومة، فمنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم يتعرض المثقف المسلم لاغتصاب العسكر. وتتفاوت مواقف المثقفين.. منهم من يرى برهان ربه وشعبه فيستبق الباب هارباً بدينه وشرفه الثقافي ويقد قميصه من دبر، كما فعل المثقفون المصريون زمن فرعون، قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات. وكما فعل المئات وربما الألوف من الذين شنقوا وعذبوا أو تشردوا منذ انقلاب حسني الزعيم. ومنهم من يوضع في قميص المجانين أو يسلم الروح، ولا يفرط في قميصه. ومنهم من لا ينجح في الإفلات ولكنه يقاوم حتى يقد قميصه من قبل ومن دبر. والغالبية تكتم عارها وتستسلم مكتفية بلعن المنكر في صيغة اضعف الإيمان. ولكن هناك فئة فضلت التكسب بقميصها فهي تخلعه راضية وتفرشه للمغتصب على الرملة، وهناك من يعلنون رضاهم وامتنانهم لما يفعله العسكر. وبعضهم، وهم شر الناس، يفلسفون الاغتصاب وينظرونه ويدعون أنهم هم الذين اقترحوا الاغتصاب، وأن الأمة كانت تتمنى هذا الذي يفعله العسكر بها وهو العلاج الوحيد لكل متاعبها. من هؤلاء الفيلسوف الكبير الأستاذ صادق النيهوم، ودعكم من كل العجيج والضجيج الثوري الذي يغطي به ثقب قميصه.
العسكر في العالم الثالث، والعالم العربي بالذات لا يحبون الديموقراطية على الطراز الغربي، ولا يسمحون بالأحزاب ولا البرلمان ولا الانتخابات ولا حرية الصحافة. وهذا ما يوافقهم عليه النيهوم حرفياً، ويتطوع بأن يعلن شرعية هذه النظم، إذ إن هذه الديموقراطية لا تصلح لأمتنا! فنحن محرومون منها ليس بسبب ديكتاتورية العسكر بل لأنها رجس من عمل الشيطان كما يقول الفقيه التقليدي، أو من سلوكيات الملائكة لا يطيقها ولا هي فرضت على العربي، لا تصلح لنا ولا نصلح لها كما يقول الصادق النيهوم:
(الصحافة والدستور والحرية لا مكان لها في المجتمع العربي أو الاسلامي المعاصر أو الثالث خلف جبل طارق لأنها نظام خاص بالغرب وحده. شرط قيامها هو وجود نظام رأسمالي غربي وهو لا يمكن تقليده أو فهمه أصلاً إلا في مجتمع صناعي يشكل فيه رأس المال قوة قادرة على ردع الإقطاع ويشكل فيه العمال قوة قادرة على ردع الإقطاع ويشكل فيه العمال قوة قادرة على ردع رأس المال ومن دون هذا التوازن المعقد... إننا لا نستطيع أن نكون مثل الأوروبيين).
أرأيت؟! لقد عمل العسكر ما فيه صالحنا وعسى أن تكرهوا!
وحكام العالم الاسلامي الذين يرفضون الديموقراطية بالصيغة العالمية المعروفة يرفضون أكثر دعوة العودة للاسلام، ولكنهم لأسباب جماهيرية وتاريخية لا يستطيعون معارضة الاسلام من أساسه، ولا حتى في حدود ما فعله أتاتورك. ومن ثم فهم يدعون إلى التمسك بجوهر الاسلام ويتركون للمثقف المغتصب طرح صيغة أو تفسير للاسلام لا تهدد سلطتهم ولا دورهم في إطار المسموح به عالمياً. وهذا ما قام به النيهوم بجهد يثاب عليه بدون شك. وبالنسبة إلى واقع النيهوم الخاص فإن النظام هناك اختار صيغة اللجان الشعبية التي يحاولون وصفها بالديموقراطية المباشرة التي كانت تطبق في بداية حضارة المدن في اليونان القديمة، ويطلقها البعض على نظام الحكم في سويسرا.
الصادق النيهوم نظر الواقع السياسي العربي. ولم يهاجم الديموقراطية، لا، هو أذكى من ذلك. الديموقراطية هي أعظم نظام لكن لا حظ لنا فيها ومن العبث المطالبة بها لأنها اختراع غربي نشأ مع المصرف والمصرف ظهر مع استعمار العالم الجديد. وبما أننا لم نحضر حفلة اكتشاف أميركا فلا يمكن أن تقوم عندنا ديموقراطية، بل يتحتم على السلطة أن تحل وتمنع كل الأحزاب لأنها ظاهرة مستوردة فاشلة وأفشلت جهودنا نحو التقدم وسرقت الحرية من الشعب. يقول المفتي الثوري:
(نظام الأحزاب ليس ضمانة للديموقراطية، إلا في بلد فاحش الثراء، عايش تجربة الثورة على الكنيسة، وشارك في الغارة على قارات المحيط).
(بدون هذه الشروط مجتمعة، تصبح الأحزاب مجرد نواد سياسية، معرضة لإغلاق أبوابها فوراً عند أول انقلاب يقوم به رجال الدين، كما حدث في إيران، أو الجيش كما حدث في مصر).
(استعارة نظام الأحزاب من دول الغرب وهي فكرة أقرب إلى الشماتة منها إلى النصح، لأن العرب لا يملكون رأس المال نفسه، ولا يملكون العمال، ولا الأسواق، ولا المصانع، وليس بوسعهم أن يؤسسوا أحزاباً لا تجد ما يدعوها إلى التحزب).
(فالديموقراطية القائمة على تعدد الأحزاب صيغة رأسمالية محضة، تخص الأوروبيين الرأسماليين وحدهم ولا يمكن نقلها إلى بيئة أخرى).
هذه فتاوى جديرة أن يكتبها طغاة العالم الاسلامي بالإبر على أماق البصر، وهم يكتبونها فعلاً بالسياط على جلود الشعوب! وكان بغايا الفكر وما زالوا يتهمون الاسلاميين بأنهم هم الذين يعادون الأحزاب، وها هو عدو الاسلاميين اللدود ينسف أي أساس للمطالبة العامة التي تجتاح العالم الاسلامي اليوم، من اجل حق تشكيل وتعدد الأحزاب، وهو لا يفسر لنا كيف ألغيت الأحزاب في ألمانيا وإيطاليا بالسهولة نفسها التي ألغيت بها في مصر، رغم أن ألمانيا وإيطاليا عندهما الاسم الأعظم وهو المصرف، وشاركتا في حفل اقتسام العالم، ووصلتا إلى أعلى درجات السلم الرأسمالي ورغم ذلك، بل وبسبب ذلك أمكن قيام ديكتاتورية فيهما ألغت الأحزاب وحلت البرلمان وادعت الحكم باسم الشعب! وهناك أيضاً وجد هتلر وموسوليني. ولا ننسى ستالين، فهو من فلسف لهما أن الأحزابوالبرلمان والديموقراطية اختراع يهودي شرير أو من صنع الرأسمالية عدوة العمال. ثم انتهى هذا الزيف وألقيت بقاياه في المحيط يلتقطها بعض السيارة في العالم المتخلف.
وقادة العالم الثالث ورعاته لا يحبون البرلمان ولا الانتخابات وقد جاء في الكتاب الأخضر أن التمثيل تضليل، وهنا يتقدم المفتي لينظر ذلك ويحلله فيقول إنه لا يمكن قيامبرلمان إلا بالأحزاب ولا أحزاب ولا صراع إلا إذا أقام المصرف وأصبح المجتمع من طبقتين طبقة العمال وطبقة الرأسماليين وحيث إن... إذن لا يكون.. وما يجري هو بالضبط ما يجب أن يكون (فكل مخ) باطمئنان واقرأ الفاتحة للسلطان!
ويلخص النيهوم رأيه بأنه يدعو للديموقراطية المباشرة التي هي (ليست الفوضى وليست فكرة خيالية، بل هي فكرة حية ومعمول بها في بلدان كثيرة على درجة عالية من التنظيم والتطور منها دولة الإتحاد السويسري التي تجمع أربعة شعوب مختلفة تحت قبة برلمان واحد).
لا يجوز القول بأن سويسرا تحكمها اللجان الشعبية فسويسرا منذ 1848م يحكمها برلمان من مجلسين على طراز الكونغرس الأميركي، مجلس نواب من 200 عضو ومجلس المقاطعات أو الكانتونات. والمجلسان أو البرلمان السويسري يختار الحكومة ويراقب نشاطها. وفي سويسرا 12 حزباً رئيسياً ممثلة بالبرلمان وتشكل 8 تكتلات برلمانية. وفي الانتخابات الأخيرة كان 2و4 مليون نسمة لهم حق الانتخاب و 2400 مرشح على 222 قائمة. ويحتكر الحكم في سويسرا منذ 1959 تحالف من أربعة أحزاب. أما الديموقراطية المباشرة في سويسرا والتي تسبب الخلط في بعض الأذهان ويستخدمها البعض لتبرير قرارات الشرطة عندهم، فهي تعني حق الشعب في اقتراح القوانين أو طلب إلغاء قانون أو تعديل الدستور، كما تعني الاستفتاء الشعبي الذي أخذ به السادات وأسرف.
في سويسرا يحق أن يطلب خمسون ألف مواطن إعادة عرض قانون أقره البرلمان في استفتاء عام، كما يستطيع المواطنون طلب تعديل الدستور بشرط أن يجمعوا مائة ألف توقيع خلال مدة أقصاها 18 شهراً. ثم يطرح المطلب للتصويت العام ويشترط حصوله على أغلبية عامة على مستوى الدولة كلها، ثم أغلبية الكانتونات وهي الوحدات التي تكون الاتحاد السويسري الفيدرالي. فالاستفتاء الذي تجريه الحكومة والاستفتاء الذي تجبر عليه الحكومة هما العنصران الرئيسيان لما يسمى بـ (الديموقراطية المباشرة). وفي داخل الكانتونات يصوت الناخبون على كل إضافة للميزانية فوق حد معين. وكما حدث في مصر يعترض الكثير من فقهاء القانون والسياسييين في سويسرا على أسلوب الاستفتاءات لأنهم يعتقدون أنها وسيلة لتضليل الشعب لحساب المصالح الاحتكارية الكبرى التي تتمكن من خداع المواطن العادي بعكس الحال مع النواب في البرلمان.
أما عن ديموقراطية الهواء الطلق كما يسمونها في سويسرا وهي القشة التي يتشبث بها النيهوم، فهي تمارس في خمسة كانتونات فقط من 26. وذلك حين يجتمع الشعب كله لإقرار ميزانية الكانتون والقضايا الهامة للكانتون، وقد أصبحت أشبه بمهرجانات لإحياء التقاليد وجذب السياح. ففي كانتون (ابانزل) لا بد أن يحمل الرجال السيوف لإثبات حقهم في التصويت (لأن حمل السيوف كان محظوراً على العبيد والنساء) وقد اضطروا لإعطاء النساء ترخيصاً كتابياً بالحضور. وهذا يؤكد أنها تقاليع ومهرجانات سياحية وليست طريقة جادة لحكم البلاد.
باختصار الديموقراطية التي يبشر بها الصادق النيهوم، بعد أن شرق وغرب وأتى بكل طريف ومستغرب، هي اللجان الشعبية ولكن لو كتب ذلك لما أصبحت له ميزة عن الكتاب الوافدين، ومن ثم يفاجئك النيهوم بقنبلة الجامع:
(لا بد من العودة للجامع فهو بداية ديموقراطيتنا. هو الحل لمشاكلنا. هو المحرر للاسلام الأسير والمسلمين المستضعفين. هو البديل عن المصطلحات الديموقراطية الرأسمالية) إنه مقر مفتوح في كل محلة يرتاده الناس خمس مرات كل يوم. لهم حق الاجتماع فيه، حتى خلال ساعات حظر التجول. تحت سقفه مكفولة حرية القول، وحرية العقيدة وسلطة الأغلبية في لغته كل المصطلحات المطلوبة، وكل كلمة حية ترزق).
فكيف يطالب النيهوم بالعودة إلى المسجد أو حتى بحكم المسجد؟ هل سيقول إن الحل هو الإسلام؟! هل آثر النيهوم الحرية وقرر أن ينطلق مع قوافل الشهداء، أم أن ا للجاجة والتفاصح أوقعاه في شر أفكاره وأطبقا عليه فخه؟!
هيهات!! إنه عبقري من الطراز النادر. ولعله وصف فكره فأبدع عندما قال:
(تعرضت الأغلبية لحملة نفسية مروعة قادها السحرة منذ عصر سومر لتبرير سلطة الملك ـ الإله في برنامج معقد من الخرافات والأساطير استهدف تخريب عقول الناس وحرق كل جسر يربطهم بواقعهم).
هذا تعريف شديد الدقة لما يقوم به الساحر المعاصر الصادق النيهوم. وإذا كان النيهوم يرفض البرلمان كما يرفضه كل العسكر، ولكن على أساس أن كلمة برلمان لا وجود لها في لغتنا! إلا أنه لا يتمسك بهذا الاعتزاز الوطني في نظريته عن المسجد، إذ يرفض اللفظ الذي ورد في القرآن ويصر على كلمة الجامع التي لم ترد ولا مرة واحدة لا في القرآن ولا في السنة. وهو على أية حال يرفض السنة، ولا يساير في ذلك العسكر وحدهم، بل الخوارج الذين ما زال نفوذهم الفكري يترك بصماته على تفكير الكثيرين من العرب حتى النيهوم!
هو ضد المسجد الذي يضم المسلمين المصلين والعابدين والعاكفين. وهو يريد جامعاً يجمع الناس:
(بغض النظر عن دياناتهم وشعائرهم).
(المسجد فكرة قديمة عرفتها كل الحضارات، ولها اسم في كل لغة أما الجامع فهو فكرة أخرى، لم يعرفها أحد ولم يدع له أحد إلا الإسلام).
نعم، ولا عرفها الاسلام ولا الله سبحانه وتعالى الذي فضل لفظة المسجد ولم يذكر الجامع قط!
الجامع الذي يطالب به النيهوم هو النقيض لمسجد المسلمين، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك. فهو مكان يريد النيهوم أن يجمع فيه:
(الناس المتفرقين بين المساجد والكنائس والمعابد في جهاز إداري موحد (...) هذا الجامع لم تعرفه ثقافتنا العربية أبداً لأنه انتهى قبل أن تولد، وتركها تنمو في المساجد لكي تصبح نصف ثقافة، لغتها تقول شيئاً وواقعها يقول شيئاً آخر (...) .
فالمسجد كان النكسة والمطلوب الآن تحرير الجامع من المسجد. تحريره من الاسلام وسيطرة المسلمين، وجعله مرتعاً لغزلان وملتقى صلبان ونجمة داود.
النيهوم يدعو لدين جديد غير الاسلام الذي يتبعه المسلمون واتبعوه، هو ضد حديث أركان الاسلام الخمسة. فهذا الحديث:
(هو الذي أضاع الاسلام ومكن بني أمية من سلب حقوق الناس).
ليس كلامنا هنا بهدف نقد أفكار النيهوم، وإنما تأصيلها، بردها لجذورها وكشف ادعائه لثورية كاذبة، وإلا لقلنا متى وكيف مكن هذا الحديث بني أمية من سلب حقوق الناس؟ هل توجد دولة في تاريخ العالم واجهت ثورات وتمردات مثل دولة بني أمية فأين تأثير هذا الحديث؟ وهو يرفض الصلاة كعبادة ويعتقد أنها ضرب من اليوغا أو برنامج لجني فوندا سابق لعصره.
(إن حركات الصلاة الاسلامية ليست رموزاً بل أوضاع يتخذها المصلي لتمرير ضغط الهواء في جميع أنحاء جسده بتوقيت الشهيق والزفير).
ولن فقهاء الاسلام لم يكونوا يتقنون علم الشهيق والزفير مثل النيهوم، فإنهم لم يكتشفوا أبداً لماذا:
(اختار الرسول (ع هذه الحركات من دون سواها. مما دعاهم إلى تفسيرها تفسيراً بلاغياً بحتاً فالوقوف في الصلاة هو المثول بين يدي الله والسجود هو إبداء الخضوع (...) إلخ).
وهو غاضب جداً لأن أطفالنا يجبرون على تلاوة القرآن قبل أن يتموا العاشرة، وغاضب لتحريم الفقه زواج غير المسلم بالمسلمة.
والاسلام دين عنصري لأن المسلم يعتقد أنه:
(هو عبد الله الصالح الذي وعده ربه بالخلود في الجنة، ووعد غيره بالخلود في النار. إنه مثل الرجل الأبيض الذي يعتبر لون جلده مبرراً شرعياً بالتفوق (هل الدين يقوم على الاختيار الحر والمفتوح لكل من شاء. ألم نقل إننا أمام نصب فكري؟!) ويتابع: (وهي فكرة تناقض نصوصاً قرآنية صريحة، لكنها أصبحت قاعدة لقوانين اسلامية متعددة، منها تحريم زواج المسلمة من غير المسلم (القوانين العربية تحرم زواج الليبية والكويتية من المصري أو السوداني.. إلخ. وكما قلنا إن الاسلام قطع نصف الطريق بأن أباح الأسرة المتعددة الأديان، بزواج المسلم من غير المسلمة وهذه خطوة لم يقم بها أي دين آخر، فهل يستحق الذي قطع نصف الطريق أن يخص بالهجوم والنقد بينما لا ينتقد موقف الآخرين الذين يرفضون إلى اليوم زواج الرجل أو المرأة ولو حتى من مذهب آخر داخل الدين نفسه.. عجبي!).
الصادق النيهوم عندما يتحدث عن الجامع هو يعني اللجان الشعبية وليس المسجد فهو ضد المسجد الذي أضاع الجامع (ضاع الجامع وراء المسجد). وهو ضد الحل الاسلامي والاسلاميين، مثل السلطة كل السلطة في العالم الثالث، بل ومثل حكومة فرنسا وأميركا وتل أبيب (...) إلخ. فهو يقول:
(فالدعوة التي ترتفع حالياً في أرجاء الوطن العربي، مطالبة ]بإحياء الاسلام[ دعوة لا تطالب بإحياء صوت المواطن المسلم في مؤتمر يوم الجمعة، بل تهدف إلى تكريس إلغاء الحوار باسم الاسلام نفسه).
ثم يفقعنا حكمة:
(الاسلام الذي يبشر به القرآن ليس شريعة تطبقها دولة، بل دولة أخرى في حد ذاتها).
وهو يزيدنا تعريفاً بجامعه الذي هو نقيض مسجدنا فيقول:
(بيت لا تسري عليه قوانين الدولة).
إن كان يقصد اللجان الشعبية فهو يخدعنا، لأنها تشكلت بموجب قرار من رئيس الدولة وتسري عليها قوانين الدولة بالطبع وبالوضع. وإن كان يتحدث عن مسجد المسلمين فهو بالطبع تسري عليه قوانين الدولة التي تشرعها بموجب دين المسجد، وقد يكون التشريع في المسجد أو خارجه ولكن المهم هو أن يكون بوساطة أهل الحل والعقد. وبموافقة الأمة بالاسلوب الذي يضمن شرعية وجدية ونزاهة وصدق هذه الموافقة. المسجد لم يصنع المواطن الحر بل صنعه القرآن والسنة. نعم السنة التي علمت المسلم، أنه لا قدسية لبشر ولا عصمة لقرار، بل حتى قرارات رسول الله في أمور الدنيا قابلة للخطأ وللمراجعة والتصحيح. المسلم الذي تعلم ذلك في غزوة بدر، هو الذي علم المرأة أن تصيح في المسجد: ليس لك هذا يا عمر! وعمر تعلم من سنة الرسول أنه لا بد أن يرجع عن الاجتهاد الخاطئ، متى نبه له. فالأصل هو الاسلام، هو المجتمع المسلم. هو المواطن المسلم. أما الجامع الذي يضم كل الأديان فهو هايد بارك أو لعله دعوة بهائية ستكشف عنها الأيام! كذلك رفض الاسلام سياسة القطيع الذي يحشد في مكان عام ويصيح موافقون موافقون. أو ما يسميه النيهوم بالديموقراطية المباشرة. ولما حدث ذلك بادر رسول الله بأبي وأمي فقال:
(لا! ولكن اختاروا من بينكم نقباء يرفعون إلينا رأيكم).
هذه هي الديموقراطية الحقة دون حاجة للمصرف اليهودي ولا غزو أميركا وإبادة الهنود الحمر!
(وقد تعمد رسول الله أن يوكل إمامة الصلاة الجامعة إلى المسؤول السياسي شخصياً، لتسهيل مهمة الحوار السياسي بالذات).
وتحلو له لعبة البيضة أو الفرخة (أو حاوريني يا طيطة) فنحن لا نستحق البرلمان ولا الديموقراطية قبل أن نمتلك المصرف ولا سبيل لمصرف إلا بالديموقراطية و:
(تطبيق الشريعة يحتاج أولاً إلى مجتمع شرعي).
ولا يخبرنا كيف يصبح المجتمع شرعياً أو (كوشير) من غير شريعة أو قبل أن نطبق الشريعة!
(إن كل قانون تسنه الشريعة تحت سلطة الإقطاع يصبح قانوناً مسخراً لخدمته. وكل سلاح تشهره الشريعة للدفاع عن الناس، يتحول إلى سلاح إلهي ضدهم، لأن الخلطة نفسها مستحيلة من أساسها).
الخلطة فاسدة جداً. الشريعة لا تشرع تحت سلطة الإقطاع وإنما هو الإقطاع الذي يشرع حتى لو ادعى أنه يشرع باسم الشريعة. فنحن غير ملزمين بتصديقه. والثورة على الإقطاع تمت باسم الشريعة، وهي التي حررت الانسان المسلم من ذل الإقطاع قبل إنسان أوروبا بألف سنة. لم ينوجد في العالم الاسلامي (حق الليلة الأولى)، ولا بيع الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا كان الفلاح المسلم يعتقد أن دم النبيل أزرق.
دعنا من الجامع والمسجد ولنتوقف قليلاً عند تسبيح النيهوم بالمصرف والنظام الرأسمالي، وسنكتشف أنه إنما يعبر عن إعجابه وامتنانه لليهود، فهم اذين أهدوا البشرية مفتاح الكنز وهم أصل الحضارة واقرأ معي هذا:
(جلس قادة العبرانيين الهاربين برؤوس أموالهم من مصر (حتى التوراة اعترفت أنهم سرقوها من المصريين، ولكن الكاتب الليبي الثوري يشهد بأنها رؤوس أموالهم! حقهم هربوا من الطغيان أو النهب المصري لكي يكتبوا النسخة الأولى من دستور الدولة الرأسمالية الحديثة، ويؤسسوا أول جمهورية ديموقراطية في التاريخ).
(دولة على رأسها نبي ويديرها كهنة وبموجب لوح عليه وصايا من السماء تكون ديموقراطية وجمهورية لمجرد أنها يهودية الدين؟! أما الاسلام فمحرم ورجعي طوال عمره). فهو يقول:
(إن أربعة عشر قرناً من الاسلام لم تنتج في واقع العرب سوى حكومة اسلامية واحدة).
أما دولة اليهود التي قامت على الذبح والتذابح، فقد وضعت أول دستور ديموقراطي وأول جمهورية، بل الدستور الأم الذي بقي إلى اليوم. فهو يتابع:
(وهو دستور سوف يستعيره اللورد كرومويل، عندما يفتتح عصر الجمهوريات الأوروبية، ضامناً لليهود جميع حقوق التأليف).
ولا مناحيم يبغن في جهله وصلفه قال ذلك، أو يمكن أن يدعي أن اليهود هم أصل الحضارة! هذه طبعة جديدة شديدة الادعاء للتوراة، وتقرب كاتبها من جائزة نوبل، لولا خلوها من أي أساس أو حياء علمي!
---------------------------------------
المصدر: الاسلام في ألاسر ـ الاسلام ضد الاسلام

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة