موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

د. خالد الطراولي
الحركة الإسلامية بين الانتماء للطائفة والتعبير عن الأمة

في البدء فإن حديثنا هذا يتنزل في فضاء اجتهادي يحتمل الخطأ والصواب، وليس في فضاء عقائدي لا يتحمّل إلا الحلال والحرام.
لقد شهد العالم الإسلامي في هذا القرن صحوة تغييرية شاملة ساهمت فيها أطراف مختلفة ومشارب متنوعة وأيديولوجيات متعددة، هدفها التمكين وإخراج بلدانها من ربقة الاستعمار والتخلف والتبعية والاستبداد، إلى أحضان الحرية والعدل والتقدم والازدهار. وقد كانت الحركة الإسلامية رقمًا هامًّا وفاعلاً في هذا الإطار، غير أن مشوارها التغييري ومنهجياتها المطروحة شابتهما الضبابية أحيانًا والتشتت والاختلاف أحيانًا أخرى، وطُرح الشيء ونقيضه، وساهم الداخل والخارج في تحييدها أو تحجيمها طوعًا أو كرهًا، ففشل أغلبها في الوصول إلى الهدف الذي كرست مسيرتها من أجل تحقيقه، رغم توفّر الزخم الجماهيري والمعطى الثقافي والمرجعية الدينية.
وتعددت التساؤلات والإجابات حول الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل، فمن ابتلاء وجب قبوله حتما والصبر على تجاوزه، إلى عقاب استحقته لانزلاق بعضها وابتعادها عن روح الإسلام، إلى عدم فهم بعضها لواقعها الوطني وعدم إدراك للمعادلات الإقليمية والدولية وحتى الداخلية... إلخ. غير أن سؤالاً ظل غائبًا أو منسيًّا، وهو: لماذا لا يكون تحزب بعض الحركات الإسلامية نفسها هو أحد الأسباب الرئيسية والعميقة وراء هذا الفشل؟ هذا التحزب الذي اعتبرتْه هذه القطاعات من الحركة الإسلامية حقًّا شرعيًّا، ومطلبًا سعت إلى كسبه، والعمل على الحصول على تأشيرة بروزه! وقد ساهم الداخل من سلطة ومعارضة، والخارج في اللعب على أوتاره، بين دفع وسحب، وتطميع وصدّ، والذي يبدو أن الحركة الإسلامية وقعت في حباله وكأنها تبحث عن حتفها بنفسها!
التحزب مواجهة للأمة
إن دعوة جل الحركات الإسلامية إلى التحزب وتبنيه وممارسته يجعلها طرفًا في الصراع على السلطة؛ فتصبح ممثلة لمجموعة معينة، لها أبعادها وأهدافها وأدواتها ورجالها؛ وهو ما يقزِّم مشروعها، ويحجم تأثيرها، ويمكن أن يجرها إلى مواجهة الأمة دون قصد منها. ففي منازلتها للسلطة القائمة تتعالى أصوات كثرة من الإسلاميين عن غياب السند من الأمة، التي في أحسن الحالات تلتزم الصمت والانسحاب، إن لم تكن طرفا مناهضا.
وعلى الصعيد الفكري يرى بعض المفكرين في الحزبية سبيلاً إلى الطائفية، يسحب عن الأمة مسؤولية إقامة الدين وعمارة الدنيا، ويجعلها في أيدي مجموعة مهما كبر عددها، هي تلك المجموعة التي اعتبرت نفسها - وحدها - تتحدث باسم الإسلام في مواجهة آخرين لا يتحدثون باسمه. وكان هذا الخطأ فادحًا. فالأمة مكلفة ومسؤولة، والحزبية تنزع أو تخفف عنها هذا التكليف، والخطاب القرآني واضح في هذا المجال حيث يلقي المهمة كاملة على الأمة وليس على طرف منها "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ" (النساء: 135). وما يحصل الآن من تعدد للأوصياء على المشروع الإسلامي ومن تنوع وتباين شاسع في فهمه وتنزيله، يُعتبر تواصلاً ولونًا معاصرًا للفرقية والمذهبية القديمة. وحتى إن اعتبرنا مزايا هذا التنوع في مجال الفقه من توسعة للأمة وتسيير لها، فإن الفرقية السياسية قديما وكذا الفرقية الحاملة للمشروع الإسلامي حديثًا لم تنجح إلا في زيادة خلافات الأمة وتعميق تشرذمها، وفشل أغلبها في الوصول إلى سدة الحكم. وحتى التي وصلت لم تترك لنا نماذج تُحتذى ونجاحات تُعتبر، لأن غياب الأمة كان ملازما لفشلها ولو بعد حين.
التغيير والمنهجية غير المحسومة
إن منهجية التغيير تبدو مرتبطة في جانب منها بالنظرة الحزبية للتغيير. فوجود الأمة كحاملة للواء التغيير أو انحساره في مجموعة أو حزب، يمثلان حالتين منفصلتين، ومسارين مختلفين. فبقدر ما يساهم التحزب في زيادة سرعة وكثافة العمل، وطي المراحل، بقدر ما تراهن الأمة على النفس الطويل والمنهجية الهادئة. والحقيقة أنه على الرغم من وضوح مواقف العقائد والمذاهب، وتفهمنا لمبررات نشأتها عقيديًا وتاريخيًا، إلا أن التاريخ الإسلامي وحاضره لم يحسما شرعية منهجية التغيير التي ظلت مترنحة بين الموالاة والمواجهة، وبين المنازلة والمناصرة، وظل السؤال حول من المصيب ومن المخطئ مجلبة للاختلاف ولنشوء المدارس والفرق والمذاهب. وبمطالعة تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية في التاريخ الإسلامي نجد أن الحاضر الإسلامي بقي مشدودًا إلى تاريخه غير المحسوم، ودون أخذ العبرة من مجريات التاريخ والأحداث، وبقيت الأسئلة مطروحة. ودفع عدم الحسم هذا إلى تبني منهجيات مختلفة ومتباينة من أطراف الأمة التي تشكلت في أحزاب وطوائف، والذي عمق لاحقا الفرقة بينها.
على قطعة الفسيفساء هذه تشكلت الحركات الإسلامية الحديثة عبر واقعها الذي تنزل فيه الغامض والعنيف أحيانا، ومرجعيتها التاريخية المهتزة، وغلب على التحزب والفرقيَّة الدفع إلى منهجيات التغيير العنفي والمتسرع، وغابت الأمة.. حيَّدتها السلطة حتى يغيب العتاد والعدة، وهمَّشها قطاع عريض من الحركة الإسلامية؛ لأنه ظن أنه قادرًا على حمل التغيير والفوز بالسلطان، فهو الجيل الفريد، والنخبة الواعية والصفوة الفاعلة!
الأمة المشروع هو مشروع الأمة
إن الحركة الإسلامية التي نرتئيها ليست ذات لون واحد ولا فكرة واحدة، بل هي مجموعة رؤى وأفكار وممارسات، تجمع في صف واحد المعارض للسلطة والموافق لها، تشمل التحريري (نسبة إلى أنصار حزب التحرير) والتبليغي (نسبة إلى جماعة الدعوة والتبليغ) والصوفي والزيتوني (نسبة إلى جامعة الزيتونة)، والسني والشيعي، والموَكَّلين بالكتاتيب وأئمة المساجد وخطباء الجُمع، حتى إن كانوا يأخذون خطبهم من السُّلطات القائمة ويتغافلون عن ظلمها طمعًا في استمرار مسيرة الدعوة، وأعضاء هذه الحركة الإسلامية هم الجماهير، ومن يتبنى مشروع التمكين بلا مواربة، ومن لا يعرف من الإسلام سوى ركعات فرض تتبعها أحيانا ركيعات نوافل، أو من يعرف الله في رمضان وينساه فيما سواه، المصلي البسيط والصائم الأبسط والحاج المتقاعد، أو من يحمل في قلبه ذرة إيمان، وهم كثير. فالمشروع الإسلامي الذي يتبناه هذا الكلُّ الجامع ويُجمع عليه القاصي والداني منهم، بسيط في تعبيراته عميق في محتواه، وهو ما عنته آية التمكين من سورة الحج " الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" (الحج: 41)، والتي سبقته آية النصر والمؤازرة الغيبية له "وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز" (الحج:40).
وعندما يصبح برنامج هذا اللقاء الإسلامي خطوطا عريضة وواضحة فإنه يمكن له أن يؤلف بين فئات الأمة ويجمع شتاتها ، قال تعالى: "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال: 63).
وليس اعتباطًا أن كانت دعوات الأنبياء خطوطا عريضة وميسَّرة في السياسة والاقتصاد والاجتماع حتى تجمع الناس حولها. وهذه الخطوط العريضة لا تلغي الجانب التفصيلي والتجزيئي، ولكن هذا يمثل محطة أخرى ومرحلة ما بعد التمكين. فعلى الحركة الإسلامية حينئذ أن تبين أن الربا من المنكر وتأتي بالمعروف بديلا، وأن الخمر والزنا والغش والرشاوى رذيلة وتأتي بالفضيلة بديلاً، وهذا ليس صعبًا في تنزيله، ولا يواجه الأمة، بل يمثل توضيحا لخطوط سابقة تبنتها واصطحبتها، فهي صاحبة المشروع وتعلم بوعيها التقاء هذا الجزئي بالكلي، غير أنها تطلب تمكينها من البديل "الشرعي".
ووجود هذا اللقاء الإسلامي الحامل للمشروع الإسلامي في خطوطه العريضة لا يلغي الاختلاف في الجزئي والتفصيلي، والذي يمكن أن تحمله داخل الفضاء الإسلامي مجموعات وأطراف، لكن دون المساس بالأصل الجامع تنظيما وخطابا. ولعل الآية الكريمة "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا" (الحجرات: 9) تؤكد على إمكانية وجود التعارض بين أصحاب المشروع الإسلامي داخل الفضاء الإسلامي، فالباغية منهم، والباغية عليها منهم، والمصلح منهم، وهو ليس عيبا،بل العيب يتمثل في مواجهة مجموعة للأخرى بدعوى وجود السياسي أو غيابه، أو أولوية الروحاني أو تهميشه. فالتعارض المقبول شرعا والمفهوم عقلا والآخذ بأسباب النجاح وسنن الاستخلاف يكون فقط داخل رباعية التمكين: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس خارجه.
وقد أرادت قطاعات من الحركة الإسلامية أن تكون طرفا في الصراع، وذلك حسب فهمها واعتبارها من قصص الأنبياء ودعواتهم، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه الذين غالبا ما كانوا أقلية يواجهون مجتمعاتهم بأفكارهم الجديدة ويتصدون لبغيها. وكان النصر دائما حليفهم "واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِه" (يوسف: 21)؛ لأن يد الغيب راعية، والهدف هو الشهادة وإقامة الحجة على هذه الأقوام وتأكيد عدل الله فيهم. غير أن اليوم ليس بالبارحة. ومشروع الحركة الإسلامية لا يتنزل اليوم في مجتمع كافر وجاهلي لا يعرف الله ويشرك بعبادته، بل في أمة زاغ بعضها ونافق بعضها وخاف بعضها وآمن الكثير منها. ولذلك ليست دعوتها نسخة لدعوة الرسل لاختلاف الإطار مع وحدة الهدف. فهذا ليس مواجهة بين الكفر والإيمان وفصلاً بين الأمة والكفار، فالأمة الإسلامية هي جزء من الأمة المدنية التي تجمع كل الأطراف من عقائدية وسياسية متنوعة. فالشيوعي جزء من هذه الأمة المدنية وكذلك الليبرالي والمسيحي واليهودي، ولكل طرف الحق في التعبير عن آرائه في تسيير هذه الأمة
والإسلام يستبشر بمن رضي دعوته ويقبل التعايش مع من رفضها "فَإِن تَوَلَّوا فَقُل حَسبَيَ اللهُ لاَ إَلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيهِ تَوَكَلتُ وَهوَ رَبُّ العَرشِ العَظِيم" (التوبة: 129). وهذا ما عايناه في الصدر الأول من الإسلام، ففي وصية الإمام علي إلى واليّه على مصر مالك الأشتر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم.. فإنهم صنفان، إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
وهذا الحل المنشود يسعى إلى التفاف الأمة حوله وتبنيه وحمله وحمايته، فالمشروع جزء منها وليس مُسقطا عليها، فهي ينبوعه وليست مخبره.
يُروى أن الخليفة العباسي المهتدي بالله أراد أن يقتفي أثر عمر بن عبد العزيز بعد قرن ونصف من الزمن، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وزهد في الدنيا وقرّب العلماء وتهجّد بالليل وأطال الصلاة ولبس جبّة الشعر (انظر التطرف والمبالغة)، فثقلت وطأته على العامة والخاصة (لاحظ انسحاب مؤيدي المشروع وحامليه)، فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة حتى قتلوه. ولمّا قبضوا عليه قالوا له: أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟ فقال: أريد أن أحملهم على سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته والخلفاء الراشدين! فقيل له: إن الرسول كان مع قوم زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة ، وأنت إنمّا رجالك تركي وخزري ومغربي وغير ذلك من أنواع الأعاجم، لا يعلمون ما يجب عليهم في أمر آخرتهم وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟ فقُتل بعد أحد عشر شهرا من خلافته وشرب القتلة من دمه.
وقد وقعت أطراف من الحركة الإسلامية دون أن تشعر في هذا الفخ بتحزبها وتبنيها للدين كطرف سياسي وكمجموعة ضغط ومطالبة ومعارضة، وهو ما جعلها تأخذ بطرف الدين على أساس طائفي وليس على أساس كونه الأمَّة جميعها، وهو ما جعل من قائدها وزعيمها رئيسًا لمجموعة سياسية، ففقد بالتالي التفاف الأمة حوله بكونه قائدًا وعالمًا ومرشدًا ومفتيًا، تتعلق بتلابيبه الجموع وتتمسح على أطرافه الجماهير، التي ترى فيه قائدا لها ومرشدا يتعالى عن السياسة ونفاقها. فيصبح ممثلا للأمة في مجموعها، فهي إطاره وهو زعيمها، وهي المدافعة عنه والحامية لمبادئه وأفكاره.
كما ساهم ابتداع مصطلح "الإسلام السياسي" من طرف الكتاب الغربيين وأتباعهم من الداخل في الدفع إلى وجود الإسلام كطرف سياسي وحسب، وإذا كانت دعوة الغربيين قد تُفهم على أساس تعودهم على الديانة المسيحية غير المسيَّسة، وتنزيلهم لهذا الفهم على الإسلام بأن أية قراءة سياسية له تجعله إسلاما سياسيا وليس إسلاما فقط، فإن أتباعهم في الداخل قد سخّروا هذا المصطلح لصالحهم وانتهزوه سياسيا ووضعوه جماهيريًّا في غفلة من أصحابه! ورضيت قطاعات واسعة من الحركة الإسلامية بهذا التميّز ظنا منها بأن هذا يؤكد على شمولية الإسلام واحتوائه للبعد السياسي، ونسيت أن مصطلح الإسلام كفيل بهذا الحمل ذاتيًا باحتوائه لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذي وصفه الإمام الغزالي بالقطب الأعظم للدين، والذي يجعل الفرد غير جامد في مواجهة الأحداث، بل ساعيا إلى تعديل مجراها بردها إلى اتجاه الخير ما استطاع. وهذا لا يعني فصلاً بين الدين والسياسة، بل تواصل لها في إطار أوسع، فليس هناك انسحاب للسياسة وتفرغ للعلم والتربية والدعوة كما عناه بعضهم[6]،ولكن تواصل للسياسة وانسحاب للتحزب. ولهذا فلا طعن في شمولية الإسلام ولا استبعاد لدوره السياسي المفروض عقلاً وشرعًا..
السـياسة عـبادة أولا
لقد غابت السياسة في فكر بعض ممارسي العمل العام من الإسلاميين كنشاط عبادي يرجى منه مرضاة الله، وغلب البعد الدنيوي والسياسي على أطوارها، فأضحت مطية للكراسي والمهام والدرجات، ولم يعد يختلف السياسي الإسلامي عن غيره في فهمه لمسارها ولأهدافها. هذا البعد الغائب جعل السياسة تصبح فريضة عبادية غائبة في الذهنية الإسلامية، ونتج عنه تسرع في جني ثمارها وعمل على المستوى القصير المدى، هذا التسرع دفعته عوامل عديدة منها الفهم القاصر للفترة المكية والفترة المدنية، والالتزام ولو في اللاوعي بعدد السنين التي قضتها وكأن التمكين يجب أن يمر من هنا عددا وعدة، أو أن دعوة الرسل قد استُكمِلت في عهد روادها، والمطلوب من الحركات أن تكون شبيهة بها. هذا الخلط بين دعوة الرسل المبنية على عالم الغيب المقرِّر لزمانها ومكانها وبدايتها ونهايتها والمرتبطة أساسا بصاحبها، ودعوة بعض الحركات الإسلامية التي تمثل امتدادا لها في الفكرة والمشروع والهدف، واختلافا في الحمل والمسار والتنزيل، ومن أوجه العبادة في المشروع تأصيل القضايا والقرارات والمناهج، فغيرت حركات أسماءها إلى أحزاب، ولم تسأل عن الشرعية وتغيرت منهجيات التغيير ولم نرَ الشرعية! ومن أمثلة تواجد الغيبي في المشروع مبدأ الاستخارة، الذي لا يمثل تواكلا وانسحابا ولكن عونا إلهيا خص الله به المسلم عن بقية خلقه لقصور الإنسان وضعفه ومحدودية أبعاده. ومن المضحك المبكي أن أفرادًا من الحركة الإسلامية لا يعرفون الاستخارة إلا عند زواج أحدهم، وكأن الخلاص الفردي أهمّ وأعظم من خلاص الأمة ونجاحها!
لقد خلطت الحركة الإسلامية بين التميز والانعزال فوقعت في الاضمحلال؛ حيث أضحى خطابها غير جديد ولا يحمل الفردية اللازمة التي يحويها مشروعها بداهة، والتي تتجلى خاصة في جانبه العبادي الذي أكرمها الله به "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات-56) المشروع الإسلامي مشروع هداية بالأساس
لقد أدى التحزب وبشكل طبيعي إلى تعلق بعض الحركات الإسلامية بأهداب السياسة، وإلى تفشي ظاهرة التطلع إلى التمكين قبل الأوان، وإلى هيمنة السياسي على المجالات الأخرى. وأصبح التعويل على السلطان شفعة للتراخي وتبريرًا للفشل وتسرعًا في طي المراحل، ودفعًا للأفراد نحو الاستعداد لتحمل مسؤولية في واقع لم يستوف شروط نهوضه. واختلطت الأولويات، وأصبح التمكين غاية لدى هذا البعض لا وسيلة لتنزيل المشروع.
وقد حدث قدر من الالتباس وسوء الفهم لبعض النصوص لمنسوبة إلى الحديث النبوي. فمقولة: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" فهمها أصحابها على أنها تهميش للجانب القرآني التربوي والأخلاقي في دعوة التغيير ومنهجيته وتنزيله، وتضخيم للدور السلطاني الذي أُعطي الأولوية في التغيير في كل شيء، من أخلاق وتقاليد وحتى ضمائر! وتكاثُرُ الفرق السياسية الداعية لتغيير الشرعية في تاريخنا، يؤكد تمكّن هذا الفهم لديها واعتبارها بأن السياسي ـ السلطاني هو الكافل بطي المراحل وإحداث التغيير بسرعة ولعله بنجاعة. ولم تخرج بعض قطاعات الحركة الإسلامية الحديثة عن هذا الفهم، وظنت أنه بإمكانها تغيير العقليات وإنزال مشروعها عبر منهجية السلطان المتسرعة، ومن التنزيل إلى التدشين! وهذا حسب رأينا وليد التحزب والفرقية التي تجعل من رسالة الإسلام بالأساس سياسية، وأن السياسي في تضخمه ينحو المنحى السلطاني. على عكس الأمة التي يملي تبنيها للمشروع غلبة المنحى القرآني المتدرج والمتأني والذي يجعل من رسالة الإسلام رسالة هداية، يكون السياسي والتربوي والأخلاقي والاقتصادي أدوات ووسائل لتحقيق هدف الهداية الذي هو أكبر وأهمّ.
إن العودة إلى أصول التغيير المبثوثة في النص المقدس والفعل النبوي يُحمّل المشروع كل الأمة ولا يتركه لطرف منها، والحركة الإسلامية ليست ضمير هذه الأمة وجسمها الفاعل فحسب، فهذا تحجيم لها وتقزيم لدورها، بل هي الأمة في امتدادها وتنوعها وإيمانها ووعيها، وهو الذي رأيناه في رباعية التمكين المطلوبة منها والذي يجعل من تحزب الحركة الإسلامية البداية والنهاية لمشروعها. والله أعلم.
"إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (الأنعام: 160).

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة