موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

لشيخ مهدي السماوي
موقف النبي من الخلافة

ـ الوصي ضرورة تفرضها طبيعة المجتمع:
من الأمور البديهية أن الوصي وهو مَن يخلف رسول الله (ص) على حياطة الشريعة وقيادة الأمة ضرورة لابد من تعيينه من قبل الله تعالى ورسوله (ص) حتى يستطيع أن يضطلع بعبء المسؤولية التي هي من أعظم المسؤوليات وقد صورها أمير المؤمنين في جملة كلماته الخالدات وآياته البينات بقوله: ((ومكان القيِّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه فإن انقطع النظام تفرق وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً)).
هكذا يصور سيد البلغاء مقام الإمامة أرأيت الخيط الذي يسلك فيه الخرز فهو يجمع مجموع الخرز فيوحد بين أفرادها في وحدة شاملة متضامنة. ثم أرأيت لو انقطع هذا الخيط كيف تتناثر الخرز هنا وهناك كل واحدة منها أو كل مجموعة مصادفة أخذت مكاناً يبعد من بواقيها دون أن يتم لها أن تجتمع جميعاً في وحدة متضامنة متضامنة. بهذا المثل الواضح يصور لنا إمام الفصاحة مركز الإمامة الحيوي والحساس وهل المسألة بحاجة إلى دليل وهذا واقع الأمة المعاش اليوم وقبل اليوم كيف تتسافل أمورها عبر التاريخ الطويل حتى أصبحت كالفريسة تطمع فيها كل أمة من الأمم بعد أن تفرقت أهواء وشِيَعاً وتمزقت وحدتها أحزاباً ودولاً …
أرأيت كيف تناهبها الشرق والغرب بل تلمضت شفتا أحط الأمم وأجبنها وأقذرها طمعاً في أن تكون غنيمة لها منادية بثارات خيبر وفدك والعوالي وللمسلمين مواقفهم المشرفة في تلكم الأيام من تاريخ الإسلام المشرق يوم كان المسلمون قوة يسير الرعب بين يديها يرهبها العالم وتهابها الأمم جميعاً وكيف لا تكون كذلك وهي تحمل رسالة السماء وتملك نصر الله (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
ومَن أصدق من الله وعداً وهو يعدهم بأمثال قوله تعال وهو القاهر فوق عباده (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).
وليس من الممكن أن تعيش أمة بل بلدة واحدة بدون أمير تقاد به أمورها وعلى ذلك المسلمون جميعاً بل جميع العقلاء وإن شذ بعض الخوارج في قولهم لا حكم إلا لله وهم يريدون لا امرة ولا حكومة في الأرض ((كلمة حق أريد بها باطل نعم إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا امرة إلا لله وأنه لابد للناس من أمير بَرّاً وفاجر يعمل في امرته المؤمنين ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بر ويستراح من فاجر)).
إن مسألة الإمام الحاكم بعد انتقال الرسول (ص) من أوضح الأمور ضرورة ((إن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوة البشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدي إلى الهرج وصفك الدماء وإذهاب النفوس المفضي إلى انقطاع النوع وهو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم).
إن طبيعة الإنسان المجبول على تناقضات أوضاعه وحبه لذاته وأنانيته التي تنسيه في غالب الأحيان حكم التزاماته وتخرجه عن حدود اعتداله تفرض وجود الحاكم العاجل كضرورة لا غنى عنها في نظام الحياة حتى إن الشريعة الإسلامية وهي تحترم في قوانينها مقام العادل وتجيز شهادته لا تقبل شهادته لنفسه وما أكثر العدول وهم يتنازعون بينهم على ما هم عليه من المستوى العالي في الإيمان والصدق والالتزام وما أكثر التنازعات والخصومات التي تحدث في المجتمع الإنساني، فلو لم يكن لمجتمع ما أو أمة من الأمم أمير قائم على رعايتها وحفظها فكيف يؤمن البقاء على وحدتها وانتظام أحوالها. فلقد سخف الناس والمفكرون جميعاً حكم الشيعية وطوبائيتهم في امكان وجود مجتمع بلا حكومة، والتاريخ يشهد كيف اهتم أصحاب السقيفة بالأمر وكيف أسرعوا في التداول من أجل نصب الخليفة والرسول (ص) بعد لما يُقبر ولم يجهز، أليس ذلك بدافع من الشعور بالضرورة .. واحساس المؤتمرين بحاجة الأمة إلى مَن يسوس أمورها ويحفظ نظامها.
بل قد شبّه رسول الله (ص) المسلمين جميعاً بالجسد الواحد في تعاونهم وتآزرهم إذا اشتكى منه عضو ألما تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
والرسول (ص) يقول (ألا وإن) في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله .. ألا وهي القلب.
فالقلب بمثابة السيد لهذه الأعضاء لا يمكن أن يتم لها الإصلاح أو الصلاح إلا بصلاحه وإذا فسد فسد الجسد كله.
ألا يكون المجتمع المشبه بالجسد الواحد وهو مترامي الأطراف مشتت الأهواء متناقض الرغبات والغايات .. ألا يكون هذا المجتمع أولى بالقيادة من الجسد الواحد المتماسك في أعضائه وبنيته المتينة المتعاضدة والمرتبط صلاحه فساده بالقلب القائد والرئيس لأعضائه؟
ـ الوصي ضرورة في النظام الإسلامي:
يفهم من خلال النظر في التشريع الإسلامي ضرورة نصب الوصي وقد مرّ عليك بعض ما يدل على هذه الضرورة.
وإذا غضضنا النظر عن ذلك، فإن كل بنية اجتماعية في نظام الإسلام لا يمكن أن تتم إلا بالسيد والرئيس والقيم.
فالأسرة وهي أقل بنية اجتماعية بل حجر الأساس في البناء الاجتماعي الكبير جعل الرجل الذي يتحمل تبعات الأسرة قيّماً عليها … (الرجال قوامون على النساء) … بل حتى لو فقد أب الأسرة وبقي له يتامى ـ وهي قضية شخصية ـ نصّب في شرع الإسلام قيم عليهم.
ثم إن الرسول (ص) في بعثاته المتعددة كان يؤمّر على المجاهدين أميراً وإذا غادر المدينة في حملة جهادية خلّف مَن يحفظ المدينة ويكون مسؤولاً عنها بعده، على هذه الطريقة سار الخلفاء بعد الرسول إذا عبأوا جماعة للجهاد أو أرسلوا إرسالية معينة، والتاريخ أمامكم خير شاهد على ثبوت هذه الدعوى، ولنأخذ كشاهد على هذه الدعوى ما يثبت التأريخ نقله وهو هجرة المهاجرين إلى الحبشة الأولى والثانية وإنما آثرنا هذا الشاهد ليدلل على اهتمام الإسلام في بداية تكوينه بهذا الأمر، ففي كلا الهجرتين أمَّر رسول الله (ص) أميراً، ولنقرأ ما في الكامل لابن الأثير على الهامش من تعليقات (الادارة) وهم نخبة من علماء يعقبون بعض الأحداث بشيء من الشرح والتفسير فقد ذكروا تعقيباً على الحديث عن الهجرة الأولى (وكان عليهم عثمان بن مطعون فهو رئيس المهاجرين ليشرف على شؤونهم ويراقب أعمالهم كي لا تتفرق كلمتهم .. ومنه تعلم أن المسلمين يجب أن لا يخرجوا عن النظام وأن يكون لهم قائد يدبر أمورهم وإن كانوا قليلين .. وإن ترك المسلمين القيادة وانصراف كل حسب رأيه جعلهم كالغنم الشاردة فصاروا طعمة للمستعمرين)).
وفي الهجرة الثانية كان جعفر بن أبي طالب (ع) أميرهم ورئيسهم (وكان هو قائد المهاجرين في هذه الهجرة .. ومنه تعلم اهتمام الدين الإسلامي بالقيادة والإمارة لتوحيد الكلمة).
وطريقة نصب الولاة في الأمصار شاهدة بعدم إمكان مجتمع ما ـ في تعاليم الدين ـ بغير الوالي الذي ينصبه النبي أو الإمام، لأن ترك ذلك مؤداه الإخلال بالمسؤولية العامة، وينتج عنها تحلل المجتمع والخروج فيه على الإسلام، وعودة الجاهلية للحياة من جديد، وضياع القيم، وانهيار المفاهيم التي بناها محمد (ص) والمجاهدون من أتباعه.
وهنا سؤال يأخذ مركزه في الحديث هو:
كيف خلف رسول الله (ص) الأمة؟
هل أوصى من بعده مَن يخلفه على ادارة شؤون الأمة؟
أو ترك في تشريعه نظاماً ينص على هذه النقطة بالذات؟ …
أو أهملها؟ …
ـ محتملات المسألة ومبرراتها:
فالمحتملات في المسألة ترجع إلى أصول ثلاثة:
1 ـ إن رسول الله (ص) أهمل الموضوع الخطير وترك الأمة وشأنها.
2 ـ وضع نظاماً معيناً أرشد الأمة إلى اتباعه ولزوم تطبيقه.
3 ـ نص على وصي من بعده بعينه.
أما المحتمل الأول فالذي يبدو للنظرة الأولى اتفاق المسلمين فيه فلم يذهب إليه جمهور المسلمين ولا خاصتهم غير أن بعض المستشرقين حاول أن يستغل الخلاف بين المسلمين ليقول ما يشتهي ويحثه الغرض عليه.
ينقل الدكتور محمد غلاب نص مقالة المستشرق (بول كازانوفا) في هذا الخصوص بعد رفضه قول الشيعة في أن النبي (ص) لم يغمض عينه دون أن أوصى مَن يكون إماماً بعده لأن الشيعة أقلية. والأقلية لا تمثل الحق في نظره.
علق على رأي الجمهور الذين يرون أن الإمامة من المصالح العامة الموكول أمرها إلى الخلق فيفترض أن القرآن سكت عن هذا الأمر الخطير والنبي (ص) لم يصرح فيه بقول يرجع إليه وحينئذ يقول هذا المستشرق:
((وعند سكوت القرآن كوحي إلهي عن هذه المسألة: لماذا أهمل النبي (ص) معالجتها بطريقة شخصية؟ ولماذا لم يعمل على تثبيت انتقال السلطة التي كان مديناً بها لنبوته والتي لم يكن أحد بعده يستطيع علياً أن يتلقاها إلا عنه وحده؟ لأن محمداً إذا كان إماماً للعرب، لم يكن كذلك لأنه كان قرشياً من أسرة كذا وكذا، وإنما كان إماماً، لأه نبي ولهذا يجب أن يكون الاعتراف بخليفته تابعاً لهذا النظام عينه، وبما أن النبوة لا تتجدد بعده فعلى الأقل كان ينبغي أن يكون تعيين الخليفة ناشئاً عن مصدر نبوي … ))، ((عن هذا السؤال أجاب الشيعة بجواب هو اصل مذهبهم وهو أن النبي لم يهمل هذه المسألة بل عنى بها كل العناية وعيّن الإمام الذي يخلفه)).
وبعد أن يرفض إجابة الشيعة على مثل هذا السؤال لأنهم أقلية ولأن الخلافة لا تتم إلا عن مصدر إلهي أو نبوي ولا يمكن أن يتلقاها عقلاً عنه أحد إلا عن هذا الطريق فقط. وبما أن رأي الجمهور يؤكد على أن الخلافة من الأمور الموكولة إلى الخلق فيعلق هذا المستشرق على رأي الجمهور بأنه لا يتم لما ذكره من السبب ثم يقول: ((بقي علينا نحن الذين لسنا مسلمين والذين بناء على هذا لنا الحق في أن ننظر إلى محمد (ص) كرجل عبقري (عادي) أن نوضح لماذا أهمل العناية بمسألة لها هذه الأهمية الكبرى فنعلن أن السبب في إهمال أمر الخلافة بسيط، وهو أن محمداً لم يفكر في أنه سيموت وسيترك خلفاء من بعده … بل اعتقد أن نهاية العالم قريبة، وأنه سيشاهدها)).
فيذهب في خيالاته وتخبطاته وتهريشاته كما يجب دون أن يكون هناك مبرر سوى الحقد الأعمى والغرض الخبيث وإلا فمن أي مصدر استقى علمه في أن النبي (ص) اعتقد بأن نهاية العالم قريبة وأنه عند انتقاله إلى رفيقه الأعلى فسوف لا يبقى بشر ولا حاجة إلى استخلاف عندئذ وإذا تمّ له ذلك صرخ ألم يمت محمد وبقي العالم بعده وبقي المسلمون يعيشون نتائج الفرقة والانقسام والحاجة إلى الإمام الجامع لهم على كلمة الإسلام والموحد قلوبهم على دين الله، وتبرز الغاية المقنّعة للكاتب المحترم وتبرز نوايا المستشرقين بوضوح من خلال هذه التخيلات التي لا سند لها ولا مبرر غير الهوى والغرض اللئيم.
وقد يكون مبنى رأيه في أن النبي (ص) قد أهمل الموضوع على خطورته مستفاداً من أمثال قول (ابن خلدون) عن الخلافة.
هي من المصالح العامة المفوضة إلى الخلق.
ويقول الدكتور محمد غلاب تعقيباً على قوله ((يمثل في هذا آراء إجماع المسلمين، فإذا كانت كذلك فإهمالها على خطورتها قائم على أساس أنها مما تعين المسلمين أنفسهم دون أن يكون الرسول حق في التدخل فيها)). ونقطة الارتكاز التي تتطلب الإجابة تتلخص في أمرين:
1 ـ إن تدخل الرسول بصفته نبياً في تعيين الإمام طبيعي إذا كان يريد لدينه البقاء في المجتمع ودينه هو الدين الخالد حيث لا نبي بعده (ص) والمدعى الذي تبناه الأستاذ (غلاب) أنه لا حق للنبي في التدخل وإن هذا يمثل آراء إجماع المسلمين فكيف نجيب عن شبهة هذا المستشرق وأنصاره؟
2 ـ ما هو الدليل على ما يدّعيه غلاب أو ابن خلدون في ذلك ولندع الأستاذ غلاب يجيب عن هاتين النقطتين بنفسه فهو يرى أن في دين النبي (ص) ما يمنعه من تعيين الإمام ((فإن الذي منع النبي عن تعيين الإمام هو روحه الدستوري المشبع بمبدأ الشورى واحترامه للعدل ويقينه بأن مهمته الأساسية دينية وعلمه بأن الأزمان متغيرة والظروف حائلة .. وأنه لهذا يجب أن يترك الأمر، أمر الناس الدنيوي بأيديهم بعد أن يوضح مسؤولياتهم وأن ينذرهم بأن تصرفاتهم محسوبة عليهم .. وليست عقيدة فناء العالم قبل موته هي التي منعته كما تخيل الأستاذ (كازانوفا) وقد ناقش الأستاذ محمد غلاب كازانوفا في تخيله المبنى على مجرد الفرض الخيالي ((وهل مجرد الفرض الخيالي يكفي في نظر العلم الصحيح لأن يكون دليلاً؟)).
ثم ألا يعلم هذا الأستاذ أنه يحتمل أن يكون هناك سبب آخر منع النبي (ص) من تعيين الإمام السياسي غير عقيدته بفناء العالم وأن من أوليات قواعد (أرسطو) و (فرمزيوس) المنطقية قولهما ((ما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال) على أننا نؤكد للأستاذ وأنصاره أن هناك سبباً آخر غير عقيدة فناء العالم هو وحده الذي منع النبي (ص) عن هذا التعيين، وأن هذا السبب ليس في درجة الاحتمال بل هو في درجة اليقين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي تؤيده الشواهد المنطقية والأحداث الجلية والتاريخ الصحيح والذي لا يستطيع أي واحد من أنصار (كازانوفا) أن يجادل فيه.
ذلك السبب هو أن النبي (ص) أعلن، منذ الساعة الأولى لبعثته إلى اللحظة الأخيرة من حياته أنه رسول ديني وأن مهمته العليا في هذه الحياة هي ارشاد الناس إلى التوحيد والاستقامة .. أما الرئاسة السياسية والقيادة الحربية فهما ضرورتان من ضروريات الحياة احتملهما النبي احتمالاً لأنه لم يكن له منهما مفر وإذن فهو لم يكن طاغية أو ديكتاتوراً أو ملكاً مطلقاً حتى يعين ولي العهد بعده ويفرضه على الأمة فرضاً كما كان ذلك متبعاً في الدول الأخرى وكما حدث في الإسلام فيما بعد.
لهذا تصرف النبي في الأمر الديني الذي يملكه .. بل الذي هو مهمته الأساسية التي جاء من أجلها وترك الإمامة السياسية لمن يعنيهم أمر دنياهم من بعده على أني لا أدري كيف يتفق فرض الإمام على الأمة مع مبدأ الشورى الذي أمر القرآن به النبي (ص) أمراً صريحاً فقال: (وشاورهم في الأمر)، (وأمرهم شورى بينهم) فلم يسعه إلا الخضوع والطاعة لهذا الأمر)). والذي يبدو من هذه المناقشة بشكل واضح أن الأستاذ غلاب يرى ضرورة إهمال النبي لمسألة الإمامة وأنه بالفعل أهملها إهمالاً مطلقاً لأن هذا الموضوع لا يهمه ولا يعنيه فهو منذ اللحظة الأولى إلى آخر لحظة من حياته قد أعلن أنه رسول ديني ويرى الأستاذ غلاب أن تركه لهذا الأمر كان احتراماً للعدل.
أ ـ وهل من العدل أن يترك دينه ومركزه الحيوي الحساس عرضة للأهواء العاطفية والهزات الاجتماعية المتتالية؟ …
ولا أرغب في هذا المجال مناقشة الأستاذ غلاب في فصل القضايا الدينية من الحياة الدنيا ومن أين أتت هذه الفكرة إلى أذهان المسلمين وهل الدين إلا تنظيم لعلاقات الناس في الدنيا والانتقال بهم في الأهداف والغايات إلى الآخرة ليتحقق لهم كرامة الدنيا والآخرة كما لست بصدد مناقشته حول وظيفة النبي التي يحددها في الإطار الضيق مع العلم بأن النبي ليس له رأي في القضايا التي أنزلت عليه (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) إن الأمر إلا الله .. لست في هذا الصدد لأننا سنعود لمحاسبة أمثال ذلك عند مناقشة ما له ارتباط بموضوع البحث من الحديث.
ب ـ ما هو الدليل على هذا المدعى؟ فلندع الأستاذ محمد غلاب يجيب عنه ((قد يعترض أنصار كازانوفا على هذا الإهمال بأن النبي عني بما هو أقل شأناً في مصالح الأمة من الخلافة، مثل سياسة الأسرة، فلم يكن منن الطبيعي، أن يعنى بالأقل ويهمل الأعظم ولكننا نجيبهم عن هذا الاعتراض المضحك بأن عناية القرآن والنبي بالأسرة تنحصر في وضع القواعد المؤدية إلى نظامها وسعادتها وهذه العناية لم تحرم منها سياسة الحكم في القرآن أو في السنة بل كان لهذه السياسة من تلك العناية منها حظ عظيم إذ عنى القرآن وعنيت السنة بوضع قواعد الشورى والعدالة والاعتدال والعفة والبشاشة ولين الجانب وكرم الخلق للملوك والحكام (وشاورهم في الأمر)، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى)، (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)، (وإنك لعلى خلق عظيم).
وكذلك عنيت السنة بإيضاح أن مسؤولية الحاكم مضاعفة ولو كانت رعيته من الحيوانات ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، (دخلت امرأة النار في هرة: ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)).
وإذن فقد وضع القرآن والسنة دستور الدولة ولكنهما لم يعينا الملك، ولا نظام الحكم الذي يجب أن تسير عليه الأمة بل تركا هذا التعيين لمن يهمهم الأمر من رجالاتها المسؤولين فكأنهما أعلنا أن الأمة حرة في اختيار النظام الذي يروقها والملك الذي تريده على شرط ألا تكون الأهواء ولا الأغراض الخاصة ولا المصالح الشخصية، هي التي تحمل الزعماء على اختيار نظام بعينه أو هي التي تدفع الملوك إلى التكالب على الحكم أو تحول بينهم وبين تحقيق العدالة والعفة والتضحية بالمنافع الشخصية في سبيل المنفعة العامة فإذا رأى المسلمون أن هذه الشروط تتحقق في أي نظام من أنظمة الحكم فليس عليهم أي إثم ديني في أن يأخذوا به لأن الإسلام لا يجيز القسر والاضطهاد إلا في الأحوال التي لا مفر فيها منهما مثل: حالات الفتن وفساد الأنظمة الاجتماعية وغيبة الأمن. وسيادة الفزع وهذه مبادئ لا تحط من قدر الإسلام بل على العكس هي تشرفه وترفع من شأنه في نظر عقلاء السياسة والاجتماعيين)) وفي هذا الحديث اعتراف بالحقيقة التي لابد من الاعتراف بها وهي مهمة، فكيف لا تعنى بالأعظم والأهم ألا وهو موضوع الخلافة وهو أدق ما يمكن أن تعنى به الشرائع بعموم فكيف شريعة الإسلام دين الله العظيم أتراه يغفل الأهم والأعظم ويعنى ببسائط الأمور.
والمستفاد من هذا أيضاً أن النبي لم يهمل هذا الموضوع وعلى هذا فيكون اعتراض (كازانوفا) مضحكاً في أن النبي قد أهمل ذلك كله كما أهمله القرآن العظيم ولئن كان التشريع عني بقواعد الأسرة فإن عناية القرآن والنبي تنحصر في وضع والقواعد المؤدية إلى نظامها وسعادتها وهذه العناية لم تحرم منها سياسة الحكم في القرآن أو في السنة بل اكن لهذه السياسة من تلك العناية فيها حظ عظيم والذي يبدو في هذا أن النبي (ص) لم يهمل هذا الموضوع بل أعطاه قواعد ونظماً دقيقة عادلة، ومن هنا انطلق الأستاذ محمد غلاب في ذكره هذه القواعد وحيث اعترف أن النبي لم يهمل هذا الأمر بل أعطاه العناية اللائقة به فستكون المناقشة عند ذكر المحتمل الثاني، ومن هنا سننتقل إلى المحتمل الثاني وهو:
إن النبي (ص) وضع نظاماً معيناً أرشد الأمة إلى اتباعه ولزوم تطبيقه .. وإن كان في هذا الكلام تناقض واضح فمرة يدعي إهمال النبي لهذا الموضوع بدافع من التزامه بالعدل ففي الأمر ما يمنع رسول الله (ص) من التدخل فيه غذ لم يكن من شؤونه ووظيفته أن يتدخل فيما لا يعنيه وفيما لا يصح له التدخل فيه …
ومرة يدعي أن رسول الله (ص) وكلام الله لم يهملا الموضوع بل أعطياه عناية كبيرة .. وسيكون بعد هذا رجوع إلى المدعى الأول نعود إلى الحديث عنه بعد استعراض أدلة الأستاذ محمد غلاب، والذي يبدو أنه بذل قسطاً وافراً من الجهد يستحق التكريم والاحترام وإن كنا نختلف معه في الرأي، فقد انتهى إلى أن القرآن الكريم والرسول العظيم قد اهتما كثيراً بوضع قواعد الشورى والعدالة والاعتدال والعفة والبشاشة، ولين الجانب وكرم الخلق للملوك والحكام)) ثم استعرض الآيات. والحديثين الكريمين الآنف ذكرهما ولكن الملاحظ أن فيها ما يخص رسول الله (ص): (وإنك لعلى خلق عظيم).
(ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) وهي في مقام الثناء على رسول الله (ص) وأخلاقه العالية العظيمة التي يتحلى بها. فإذا اشترطنا في الحاكم أن يكون بالمثابة التي وصفت الآيات الكريمة ـ وهو حق ـ فلابد أن يكون الشخص الذي يتولى شؤون الأمة وحفظ الشريعة فيها بالمثابة التي تقربه من رسول الله في أخلاقه الفاضلة التي تكون تطبيقاً حرفياً للآية الكريمة (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقول الرسول (ص): ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ففيها من انعموم وتحميل المسؤولية العامة على الأمة جمعاء ما لا يخفى وكذلك الحديث المنقول عن أبي هريرة ((في المرأة التي دخلت النار في هرة … الخ)) إن صح الحديث فإنه يحث على الرحمة والإحسان على ذي الروح وأن المسؤولية والمؤاخذة على الجفوة والغلظة في هذا النوع من المعاملة القاسية والتي لا تعرف الرحمة بوجه … ومن السهل جداً مناقشة هذه الأدلة)).
أولاً: بأنها لم تتعرض إلى موضوع الخلافة عن رسول الله (ص) ذات الأهمية الخطيرة وهي موضوع الحديث ولا تثبت حكماً بخصوصها ولعله لذلك عدل الأخ محمد غلاب بعد ذلك عن كون الشريعة اهتمت بالخلافة، فقال: ((وضع القرآن والسنة دستور الدولة ولم يعيّنا الملك ولا نظام الحكم الذي يجب أن تسير عليه الأمة بل تركا هذا التعيين لمن يهمهم الأمر من رجالاتها المسؤولين)) …
ففي هذا عدول عن الرأي الأول .. واعتبار الخلافة من الشؤون التي أهملها القرآن ورسول الله (ص).
ثانياً: إن الآيات التي استعرضها الأستاذ .. (وشاورهم في الأمر) .. (أن تحكموا بالعدل) .. (فاحكم بين الناس بالحق) … لو سلم أنها في الخليفة والإمام الحاكم فهي ليست في معرض كيف ينتخب الخليفة؟ أو مَن هو الذي يجب أن تختاره الأمة وإنما هي في بيان مقام الأخلاقية التي يلزم التحلي بها عموماً أو خصوصاً ولو فرض أنها في خصوص الإمام أو ترشد إليه فهي حينئذ تبين المنهاج الذي يلزم أن يسير عليه ومعنى ذلك فرض وجوده شاخصاً قائماً ترد عليه هذه الوصايا (وشاورهم في الأمر) .. (فاحكم بين الناس بالحق) .. فليس في ما ذكر من الآيات دلالة واضحة على معرفة من هو الإمام وإنما فيها الارشاد إلى ما يلزم من الأمور الواجب اتباعها في سلوكه وعند معاملة الأمة فلو قدر أنها موجهة إلى القيم بالأمر والخليفة فهي تعتبر المفروغية من تعيينه ومن ثم الوصايا اللازم التقيد بها فلا تعود دليلاً على معرفة الإمام.
ثالثاً: على أن قوله ممن يعنيهم الأمر من المسؤولين من هم المقصودون للأستاذ غلاب في حديثه هذا؟ وهل هناك أولى من رسول الله (ص) في الاهتمام بالأمر؟ وهل هناك ممن يهمهم الأمر؟ حتى يستطيعوا القيام بتعيين النظام والشخص الحاكم في المسلمين وفق الشروط التي استفادها مما سبق لو تمت الاستفادة بحسب الموازين العلمية ((فإذا رأى المسلمون أن هذه الشروط … الخ)).
4 ـ والسؤال الذي يفرض نفسه فرضاً هنا بأن الذي يقوم بالقسر أو فرض النظام الأصلح وعودة الحياة الطبيعية في شرايين المجتمع الإسلامي في حالات الفتن وفساد الأنظمة الاجتماعية وغيبة الأمن وسيادة الفزع من هو ذلك الحاكم العادل الذي يفرض وجوده ويقوم بهذا الدور الخطير في أعسر الظروف وأشدها عنواً؟ هل هي الأمة نفسها؟
والمفروض انتشار الفساد في أنظمتها الاجتماعية وشيوع الفتن وغيبة الأمن وسيادة الفزع؟
أم أن شخصاً حاكماً فرضه على الأمة رسول الله (ص) وأقامه الله على حفظ الأمة وشرعها الأفضل؟ ومَن هو هذا الشخص؟ فلابد إذن من التعيين … ؟
5 ـ فإذا رأى المسلمون إن هذه الشروط تحقق في أي نظام من أنظمة الحكم فليس عليهم أي إثم ديني في أن يأخذوا به ..
أليس نتيجة لذلك أن المسلمين سيبقون ينتظرون متطلعين إلى هذا الشخص المثالي الذي يستطيع التحلل من أنانيته وذاتيته وشهواته ويستعلي على المستويات العادية للناس في سلوكه وفي علمه ليضع هذا النظام الأفضل وهو الرجل الأفضل (مصداق هذه الشروط العظيمة) وما دام الميدان مفتوحاً العقلاء على مصراعيه الأذكياء منهم والمغامرين والمعتوهين فالأمة المرحومة التي ضحى من أجلها رسول الله (ص) بنفسه وبالصفوة الطاهرة من آله وأصحابه المجاهدين الأبرار ستظل وسط معترك الصراع ومحتدم الأغراض والشهوات والأنانيات وفي خضم التجارب المريرة من الأنظمة ومنظميها بين النجاح والفشل.
6 ـ ما هو الضمان لوحدة الأمة عند انقسامها وتوزع أهوائها واستئثار مَن يتولى عليها .. وما هو الضمان لسلامة اتجاهها حين تظلم الآفاق وتنتشر الفوضى ويشيع الفساد حتى ينزو على منبر رسول الله (ص) من أمثال معاوية المراوغ والسفاك للدماء ويزيد الفاجر والوليد الكافر ومروان طريد رسول الله (ص) ومروان الحمار .. وغيرهم ممن استهتر بالحرمات ولعب بمقدرات الأمة واستولى على خيراتها يسفك دماءها غير مبال ولا متحرج ولا متأثم …
والأفظع والأدهى ما نقرأه من تبرير لتسلط هؤلاء على الأمة حتى انبرى من العلماء المحترمين مَن لا يشترط هذه الشروط في الخليفة مضطراً لتبرير هذه النقطة بل لا يجيز الخروج على الفاسق كما فعل الغزالي وغيره فيما نقل عنه أمثال هذه الفتاوى ..
بل من أجل ذلك لم يشترطوا عصمة الأنبياء وأجازوا عليهم الفسق والعصيان والتمرد وحتى الكفر …
فقد جوز (ابن فورك) بعثة مَن كان كافراً وقال الغزالي في المنحول في الأصول:
((والمختار ما ذكره القاضي وهو أنه لا يجب عقلاً عصمتهم إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظره وليس هو مناقضاً لمدلول المعجزة، فإن مدلوله صدق اللهجة بما يخبر عن الله تعالى لا عمداً ولا سهواً ـ ومعنى التنفير باطل ـ فإنا نجوز أن ينبئ الله تعالى كافراً ويؤيده بالمعجزة)).
وقال بعض الحشوية كذلك:
((إن نبينا (ص) كان كذلك لقوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى) وكان من نتائج ذلك بأن تقرأ في كتب المسلمين: تسمع وتطيع الأمر وإن ضرب ظهرك وبطنك وأخذ مالك.
وإن الخلافة تنعقد بالقهر والاستيلاء ولو كان الأمير فاسقاً أو جاهلاً أو أعجمياً ولا يحد الإمام حد الشرب ولا ينعزل بالفسق والفجور)).
حتى انتهت النتيجة أن تقرأ في كتب النصائح والتوجيهات للعامة ما يلزم الرعية من الآداب في حق الخليفة أو السلطان ما يلي:
((وأمر بعض الخلفاء رجلاً بأمر … فقال: أنا أطوع لك من الرداء، وأذل لك من الحذاء. وقال آخر: أنا أطوع لك من يدك، وأذل لك من نعلك.
وهذا قاله الحسن بن وهب لمحمد بن عبدالملك الزيات ..
وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم .. قال: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).
قال حسبك أبا أمية.
وغير ذلك من التوصيات فما يلزم وعاظ السلاطين ومَن يحضر بين يديهم للخدمة والحاجة فيها عليه سوى السمع والطاعة ـ وليس له الاعتراض أو المحاسبة.
ويقول ابن خلدون في مقدمته وهو ممن يشترط العدالة في الإمام: ((ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها وفي انتفائها بالبدع الاعتقادية خلاف)).
وعند ذلك أين تكون الشروط التي ذكرت سابقاً وهل من الممكن تطبيقها على الصعيد العملي …
وهل مؤدى ذلك غير الإهمال من قبل النبي (ص) وحاشاه لهذا الأمر الحيوي الحساس؟
فتكون النتيجة كما يقول الدكتور أحمد أمين:
((توفي رسول الله (ص) ولم يعين مَن يخلفه ولم يبين كيف يكون اختياره فواجه المسلمون أشق مسألة وأخطرها .. وعلى طريق سيرهم فيها كان يتوقف نجاحهم في الحياة السياسية .. أو فشلهم)) بل تتوقف حياتهم في مختلف مجالاتها الحيوية على الخلافة نجاحاً أو فشلاً وليس في الحياة السياسية وحدها فالدكتور أحمد أمين يصرح هنا بالاهمال من قبل الرسول (ص) لأمر الخلافة مع اعترافه بأهمية مركزها وتوقف حياة المسلمين السياسية على نجاها وفشلها. ومع ذلك توفي رسول الله (ص) ولم يعين مَن يخلفه ولم يبين كيف يكون اختياره!!
ـ وجوب نصب الإمام:
هذا مع تصريحهم جميعاً، إلا مَن شذ، بوجوب نصب الإمام عقلاً أو نقلاً على اختلاف الأقوال يقول ابن خلدون في مقدمته:
((إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله (ص) عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر (رض) وتسليم النظر إليه في أمورهم وكذا في كل عصر من بعد ذلك ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه قالوا وإنما وجب بالعقل بضرورة الاجتماع للبشر.
واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية وهذا المعنى هو الذي لحظه الحكماء في وجوب النبوءات في البشر وقد نبهنا على فساده وإن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة ولو لم يكن شرع كما في أمم المجوس وغيرهم ممن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدعوة، أو نقول يكفي في دفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك ونصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجد الرؤساء وأهل الشوكة أو بامتناع الناس عن التنازع والتظالم فلا ينهض دليلهم العقلي المبني على هذه المقدمة فدل على أن مدرك وجوبه إنما هو بالشرع وهو الإجماع الذي قدمناه، قد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأساً لا بالعقل ولا بالشرع منهم (الأصم) من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم، والواجب عند هؤلاء إنما هو امضاء لحكم الشرع فإذا تواطأت الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه وهؤلاء محجوجون بالإجماع)).
وحكم العقل بضرورة نصب الخليفة لا يخفى على مَن أعطى النظر حقه. وما ذكره بعد بيان أوجه الضرورة من المناقشة التي ذكرها كما رأيت غير سديدة.
ومن هنا تنكشف الضرورة الماحة في نصب الإمام بما ذكره من حكم العقل.
ولذلك بادر الأصحاب إلى نصب الخليفة، فقال الأنصار: منا الخليفة واحتج المهاجرون عليهم بالقرابة وكذلك بادر قسم فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، وقال بنو هاشم وجماعة كبيرة من المسلمين ليس لها إلا أبو حسن علي صاحب الوصية .. وهذه الأقوال بأجمعها تكشف عن الباعث العقلي لهم على نصب الخليفة ..
أما اجتماعهم على بيعة أبي بكر (رض) فغير ثابت لاختلاف آراء الأمة في مجتمع السقيفة وفي غيره. وهو يعترف به كما يعترف به غيره ممن كتب في هذا الموضوع. فالجميع لم يناقش واحد منهم بعدم ضرورة نصب الإمام لوضوح الحاجة الماسة إلى ذلك وأنها ضرورة يدرك العقل مدى الحاجة الشديدة إليها. ولكن لم يحصل إجماع على بيعة أبي بكر (رض) مع هذا الاختلاف وكون بعض الصحابة بادروا إلى البيعة لا يشكل إجماعاً ولا يصح الاحتجاج به.
وابن خلدون لا يرى حجية فعل الصحابي وإنما اعتبر الاستناد إلى الإجماع في مسألة الخلافة لا إلى حكم العقل لأنه إذا قال بحكم العقل في المسألة ينتهي بالنتيجة إلى رأي الإمامية في اعتباره من أصول الدين وضرورة نصبه من قبل رب العالمين مثل النبوة تماماً لاستواء الحاجة إليهما. ولذلك اضطر في دفع ذاك إلى أمور لا يلتزم هو بها مما يوجب ارتباط عبارته وتناقض أقواله مثل ادعاء إمكان الاستغناء عن الإمام بتواطؤ الأمة على الالتزام بحرفية الدين ومتى كان ذلك؟ وكيف يتم؟ أو بتغلب الحاكم الجائر من الملوك والسلاطين كما في أمم المجوس كما سبق النقل.
ولا يخفى تجاهل أهمية الخلافة في مثل هذه الادعاءات رغم أن الواقع الذي عليه الناس اليوم وقبل اليوم يكذب ذلك ورغم أن علم اليوم فيما يخص النفس والاجتماع لا يصحح أمثال هذه الادعاءات، يضاف إلى ذلك ما هو الضمان لحفظ الشريعة لو قدر إمكان الإهمال لها عقلاً؟ … وهذا يتناقض مع ما يؤكد عليه في جملة من أقواله المبثوثة في مقدمته.
اقرأ ما يتحدث به في ضرورة تعيين الحاكم في المجتمع واستحالة الاستغناء عنه كما تقدم إذ يقول في آخر حديثه: ((فاستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم)).
أليس هذا يتناقض مع القول بإمكان الاستغناء عن الإمام بتواطؤ الأمة على العمل بدينها وأن مسألة الإمامة لولا الإجماع المزعوم لم يقم دليل مَن انعقل عليها .. واقرأ مرة أخرى ما يتناقض مع القول بإمكان الاستغناء عقلاً لاستقامة الحياة بتغلب الملوك والسلاطين كما في أمم المجوس. فهو يتحدث في معنى الخلافة والإمامة ثم يستطرد القول:
((وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة وذلك أن الخلق ليس المقصود بها دنياهم فقط فإنها كلها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء والله يقول: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً) فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض فجاءت الشرائع تحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع فما كان منه بمقتضى القهر والتغلب وأعمال القوة العصبية في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السياسية وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضاً لأنه نظر بغير نور الله (ومَن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره قال (ص): إنما هي أعمالكم ترد عليكم وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأشكال الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومَن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة وأن الملك الطبيعي هو من حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، فأفهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك من بعد والله الحكيم العليم.
* المصدر : الامامة في الكتاب والسنة /ج1

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة