موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم السياسة

شريف محمد هاشم
الخلاف الاسلامي ـ الاسلامي بحجمه الحقيقي

 

بشر محمد برسالته في جو يعبق بالشرك والوثنية، وفي مناخ اجتماعي معقد، مشبع بروح العائلية، والقبلية والتخلف، فكانت مهمته والوضع كذلك صعبة للغاية، إن لم نقل مستحيلة.
فتغيير مجتمع بكل ما يشمل التغيير من آفاق ومناحي، وبكل ما يعنيه من تبدل في هيكليته برمتها، وقلب أوضاعه رأساً على عقب، مجتمع محدود الثقافة، متمسك بعاداته وتقاليده البدائية أيما تمسك، ليس بالأمر الهيّن أو السهل.
ومع ذلك فلقد شق النبي طريق دعوته، وسط العوائق، والصعاب، والعراقيل، وعانى في سبيل ذلك ما عاناه، ولاقى ما لاقاه من القهر، والإذلال، والملاحقة، ولكن النجاح كان بالنتيجة حليفه، والانتصار كان خاتمة المطاف الطويل.
ثلاث وعشرون سنة بين نبوته ووفاته، قضاها في الجهاد الديني، والفكري، والسياسي، والاجتماعي، والتنظيمي، والإداري، وبعضها في الجهاد العسكري.
وعندما وافته المنية، كان الإسلام قد أصبح حصناً منيعاً، ووحدة متماسكة، عميق الجذور، راسخ البنيان في المجتمع، كما في قلوب المؤمنين به، يكسب كل يوم مؤمنين جدداً، وأرضاً اسلامية جديدة.
آمن به الجميع طريقاً للهداية، وسبيلاً للرشاد، ما عدا قلة منهم أسلمت بفعل هزيمتها العسكرية، ولكن لم يدخل الإيمان قلوبها، فنزلت بها الآية: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) الحجرات/ 14.
هذه القلة تجاوزتها قافلة الإسلام، في سيرها المظفر نحو هدفها الكبير، ألا وهو دك معالم الشرك والوثنية من حياة البشرية، وإرساء قواعد الإيمان الراسخ بوحدانية الله، في النفوس قبل النصوص.
ولم يحدث في حياة النبي أي تصدع يذكر في البنية الإسلامية، أو أي خلاف بين المسلمين حول أسس ديانتهم، باستثناء بعض الخلل الذي حدث بسبب موضوع الإسراء والمعراج، وكان ذلك أمراً طبيعياً، إذ ان موضوعاً كهذا لفرادته، كان يفترض أن يثار حوله جدل، ويقع بسببه خلاف، وتحصل لأجله بلبلة.
ولكن سرعان ما أعيدت الأمور إلى مجاريها، والحال إلى طبيعتها، وأكمل الإسلام مسيرته بقيادة، متماسكة، مدركة، قيادة النبي وصحابته المؤمنين.
وبعد وفاة النبي، لم يترك الإسلام ولا المسلمون في مهب الضياع، عرضة للحيرة، والفوضى، والانقسام.
بل ترك النبي لهم حصناً منيعاً ودرعاً واقية، وملاذاً أميناً، ترك لهم القرآن واضحاً، جلياً، كاملاً، مرجعاً نهائياً، وحكماً حاسماً، في كل أمر وشأن.
قرآن لم يشكك بآية منه مسلم، ولم يختلف في صدقه اثنان، ولقد حدثت بعد النبي، بعض الردة عن الإسلام إلى الوثنية في بعض الأماكن، سرعان ما عولجت وانتهى أمرها إلى غير رجعة، لتعود قافلة الإسلام في سيرها إلى الأمام، كل يوم إلى نصر جديد.
ويفترض أن نقف عند أول قطوع خطير مر على الإسلام، عند أول تجربة قاسية مر بها الدين الجديد، ونعني بذلك غياب ربان السفينة عن قيادتها، غياب النبي نفسه عن ساحة الإسلام، بعدما غيبه الموت. كان الحدث خطيراً وبالغ الخطورة، فالنبي كان بالنسبة للمسلمين كل شيء، والإسلام كان لا يزال طري العود، حديث العهد، والروح القبلية والعائلية لم تتطهر بعد كلياً من النفوس، كانت الصدمة كبيرة على المسلمين، وبين قادتهم ممن عرفوا برباطة الجأش، وقوة الشكيمة كعمر بن الخطاب، من أضاعتهم الصدمة، وأخرجهم الحدث عن جادة الصواب، حتى أن عمراً أنكر الخبر، ورفض أن يصدق موت النبي.
لكن الإسلام تخطى الأزمة بسلام، وخرج من الاختبار العسير أكثر ثباتاً، وأعظم تماسكاً وصلابة، لأن له ما كان يحفظه من الخلل، يدرأ عنه أخطار التفسخ والزوال، إنه القرآن.
فبالقرآن كانت وحدة المسلمين مصانة، ووحدة العقيدة التي تجمع بينهم مضمونة، به كان يتدرع المسلمون، وبه كان الإسلام يخرج من الأزمات والأحداث، أقوى وأمنع.
مات النبي وأتى الخليفة الأول، وبعده الخليفة الثاني، والإسلام يتعزز ويقوى، وأعلامه تجد كل يوم أرضاً جديدة ترفرف فوقها.
ثم ذهب عمر إلى جوار ربه، مقتولاً بخنجر مجوسي، فما اهتز للإسلام موقع، ولا اختل فيه توازن، في وقت دقيق كانت الجيوش الإسلامية تدق أبواب الامبراطورية البيزنطية من كل جانب. ثم أمسك بقيادة السفينة، الخليفة الثالث عثمان.
ومن هنا بدأ الخلاف داخل الصف الإسلامي، من هنا بدأت الصراعات الحزبية والسياسية بين المسلمين، وإليها مرادنا الوصول.
الفارق كبير جداً بين طبيعة الخلاف المسيحي المسيحي، والخلاف الإسلامي الإسلامي، فالأول كان خلافاً حول الله، والإنجيل، والمسيح، أي خلافاً حول الجوهر والأساس، فيما كان الثاني برمته خلافاً سياسياً، وليس دينياً.
كان خلافاً على المراكز والقيادة، ولم يكن أبداً ليمس جوهر الدين وأسسه.
فانتقادات المعارضة ضد عثمان ومآخذهم عليه، لم تكن أبداً لأن عثمان مثلاً: شكك بصحة القرآن، أو أخرج بدعة في الاسلام، أو طعن بنبوة محمد وتعاليم دينه.
كانت مآخذ المعارضة على عثمان سياسية بالخالص، تدور حول طريقته بادارة الحكم ليس إلا، واستئثار بعض ذويه ببعض السلطة والمنافع.
وإذا درسنا بتجرد ما كان معتبراً من عثمان خطايا يومذاك، لوجدناها بمنظار اليوم، وفي أرقى دول العالم، أخطاء صغيرة بسيطة، يشك أي انسان أنها كانت تستحق من المعارضة هذا الموقف، المتشدد، المتصلب، من الخليفة الثلاث. ولكن الذي حدث، أن عثمان استلم الخلافة بعد خليفتين متشددين في تطبيق أحكام الإسلام، فكان عدلهما، وزهدهما، وقسوتهما على نفسيهما وعائلتيهما، مضرب المثل، تكاد لا تصدق.
نكبة عثمان، أنه أتى مباشرة بعد عمر وأبي بكر، والناس لحاكمهم مراقبين، يعدون عليه أنفاسه، ويحسبون خطواته. كان المسلمون لا يزالون قريبين من عهد النبي وصحابته، وكان الصفاء العقائدي، والنقاء المبدأي، لا يزالان يسحبان تأثيرهما على توجه الناس وسلوكهم، وأقل خطأ، أو اعوجاج، أو تجاوز، خصوصاً من الحاكم، كان بنظر الناس مستفظعاً مستنكراً.
بهذه الأجواء النقية، الصافية، استلم عثمان الحكم، وهي أجواء كانت تتطلب منه الدقة، والحذر، والانتباه، وهذا ما لم يفعله، أما لتقدمه في السن، أو لطيبة قلبه، أو لضعف في شخصيته، مما كوّن لدى المعارضين أسباباً لمعارضتهم، ومآخذ عليه ..
وهكذا دب الخلاف في الصف الإسلامي ووقعت الكارثة، بعدما قتل الخليفة الثالث، لتبدأ مرحلة من الخلافات السياسية الحادة في التاريخ الإسلامي.
ورغم أن الخلاف قد تشعب، وامتد، وتوسع، وطال، ورغم خطورته وانعكاساته السلبية على انطلاقة الإسلام، إلا أن الأمر الثابت، إن هذا الخلاف رغم كل شيء، ظل محصوراً بالإطار السياسي، ولم يتعداه أبداً ليمس جوهر الدين وأسسه.
فمن نادى بعلي بن أبي طالب خليفة على المسلمين، فلأنه اعتبره أقدر، وأكفأ، وأجدر من سواه، لقيادة المسيرة الإسلامية على هدى القرآن وتعاليم الإسلام، وكذلك فكر وقدر من عاداه، وناصر معاوية بن أبي سفيان.
لقد اختلف القادة المسلمين على الشأن السياسي، واختلفت القاعدة لخلافهم عليه أيضاً، فتوزعت بولائها السياسي بين هذا وذاك.
ولكن القرآن ظل كتاب الجميع، والقاسم المشترك، والعامل الموحد بين كل الأطراف المتصارعة، على اختلاف ميولها ومواقفها.
ولكي نتبين ما كان للقرآن في نفوس المسلمين وقلوبهم، من تأثير فعال في تلك الحقبة المتفجرة من تاريخ الإسلام، ما علينا إلا أن نقف عند حادثة لها دلالة كبيرة، وشأن مهم وخطير في تاريخ الإسلام، فعندما ا لتحم جيشا علي ومعاوية، في صفين في معارك عنيفة محمومة، رأينا كيف أن سحر القرآن والإيمان به، والتمسك بأحكامه، والميل إلى الاحتكام إليه، كان لها أثر بالغ في تبريد جرارة المعركة الطاحنة وإيقافها، وذلك عندما رفع أحد طرفي النزاع القرآن، مطالباً، بوقف القتال، والاحتكام إليه، والتقيد بتعاليمه، حتى وإن كانت خدعة من معاوية يومذاك، أملتها عليه ظروف المعركة العسكرية، التي كان يخسرها، فإن ما يعنينا من الأمر، ليس بحث موضوع نزاع علي ومعاوية، أو تقييمه، طالما أن ذلك لا يدخل في نطاق بحثنا، وإنما الاستدلال بالحادثة لإظهار وإثبات أمرين:
الأول: مدى تعلق المسلمين بالقرآن وتأثيره في نفوسهم، حتى في أحلك ساعات الصراع فيما بينهم.
الثاني: أن الخلاف رغم حدته، لم يكن إلا خلافاً سياسياً بدأ كذلك واستمر هكذا.
فمجرد التلويح بالقرآن ليكون الحَكَم، كان كافياً لإرباك جيش الإمام علي، وإحداث بلبلة في صفوفه، وتصدع في قيادته، وإيجاد تيار داخله معارض لاستمرار القتال، يقول بالانصياع إلى حكم القرآن، إذ طالما ـ بنظره ـ أن القرآن سيكون الحكم، فما المبرر للقتال؟ وهكذا توقفت المعركة.
نستطيع أن نقول بثقة: أن رفع القرآن في صفين، غيّر مجرى التاريخ السياسي الإسلامي برمته، وربما لولا القرآن وتعلق الناس به، لما كان معاوية كما كان، ولا أمويون كما كانوا. ولا ندري ماذا كان يمكن أن يكون الحال، ولا كيف كانت قد تطورت الأحوال ..
وكما قفزنا فوق قرون عديدة من تاريخ المسيحية، لنرى بعد تمزقها المعروف، أين رست قواربها، وأين حطت رحلها في القرن العشرين، كذلك نفعل بالنسبة للإسلام.
إذ لابد لنا من أن نلقي نظرة متفحصة على واقع اسلام اليوم، لنرى هل تغير الخلاف السياسي بين المسلمين وتطور، ليصبح في وقت من الأوقات خلافاً على العقيدة وأسس الدين؟
أم إنه لا يزال كما بدأ، بعيداً عن أساسيات الدين وجوهر العقيدة؟
نختصر لنقول: أن تعلق المسلمين على اختلاف طوائفهم بالقرآن الواحد الموحد، والإيمان المطلق الصافي بنبوة نبيهم محمد، وصدق تعاليم رسالته، أمور تجعلنا نجزم، بأن الخلاف الإسلامي كان ولا يزال محصوراً بشكليات وهوامش القضايا السياسية الإسلامية، وربما يكون للخلاف السياسي القديم بين قادتهم التاريخيين، بعض آثاره على فرقة المسلمين اليوم، وتوزعهم إلى طوائف متعددة، إلا أن هذا الخلاف لم يتعد يوماً الشأن السياسي على الاطلاق، وهذا بالطبع يختلف كلياً عن طبيعة الخلاف المسيحي، الذي بدأ خلافاً حول جوهر الدين، واستمر كذلك، ولا يزال، ولا مجال للمقارنة بين الوضعين.
هذه حقيقة اعترف بها أكثر من باحث ومفكر، بينهم الباحث الأوروبي الكبير اندريه ميكيل في كتابه (الإسلام وحضارته) حيث قال:
((فالمسلمون مسلمون قبل أن يكونوا سنيين، أو شيعة، أو خوارج، وبصرف النظر عن خلافاتهم المذهبية، فهم في نفس الارتباطات الأساسية لإيمانهم)).
* المصدر : الاسلام والمسيحية في الميزان

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم السياسة