قام التشيع لآل البيت منذ أزمة الصراع على السلطة بين علي ومعاوية. كان ذلك فصلاً من فصول صراع سابق بدأ منذ وفاة النبي ظلت الإمامة والأحقية فيها مداره. لكن التشيع بات عقيدة مذهبية منذ اغتصاب يزيد بن معاوية للسلطة ومقتل الإمام الحسين بن علي في مجزرة كربلاء. وخلال الفترة الفاصلة بين منتصف القرن الهجري الأول (تاريخ مقتل الحسين) ونهاية الربع الأول من القرن الهجري الرابع (غيبة الإمام الثاني عشر: محمد بن الحسن المهدي عام 329هـ)، انصرف فقهاء ومتكلمة الشيعة إلى الاهتمام بموضوع وحيد: إثبات حق أئمة آل البيت الشرعي في تقلد منصب الإمامة والخلافة، والطعن في شرعية حكم الغصب والجور الذي أقامه بنو أمية بحد السيف. ومع الغيبة، حصل بعض التعديل في طبيعة المسألة: إذ بات في صدارة موضوعات النظر إثبات استحالة قيام الدولة الشرعية إلى حين عودة الإمام المنتظر. وذلك ما فتح الباب أمام فكرة الانتظار في الفقه الشيعي. ثم كانت النتيجة أن العمل بمقتضى مبدأ انتظار الفرج حوّل هذا المبدأ عملياً إلى (آلية فاعلة في تأسيس مخرجات جديدة، تحولت من ثم إلى قواعد حاكمة على التفكير الفقهي في الشأن السياسي. فمع الانطلاق من كون احتجاب الإمام المهدي (ع) تعبيراً عن عدم إمكانية إقامة الدولة الشرعية، توصل الفقهاء إلى تعطيل الأحكام التي يحتاج في إقامتها إلى السلطة الشرعية).
لكن ذلك طرح إشكالات جديدة متفرعة من الإشكال الأصل، وأهم هذه الإشكالات أن تعطيل تلك الأحكام معناه ترك المسلمين (الشيعة) تحت سلطة أحكام نظام الجور، وتجميد واجبات الدين على الجماعة، والحيلولة دون استقامة أمور حياتهم التي لا تستقيم بغير سلطة ... الخ. والحقيقة أن موطن الإعضال في الموضوع يتبين حين نعود إلى السؤال الإشكالي الأصل حول الدولة في الفقه الشيعي في عصر الغيبة. وقوامه أن الإمام ( المكلف من قبل الله) ـ بوظيفة الرئاسة غائب، ومنصبه مغتصب من قبل السلطة الجائرة، وأهل المذهب لا يسعون إلى السلطة لأن في ذلك منافسة غير مشروعة لأصحابها الشرعيين ( = الأئمة) ... ، ولكن الناس يحتاجون إلى سلطة تنتظم بها أمورهم، فما العمل؟
لا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بقيام مَن ينوب عن الإمام في غيبته، وبالتعامل الاضطراري مع السلطة القائمة بغض الطرف عن غصبيتها لمنصب الإمامة. لكن السؤال هو: هل يكون لنائب الإمام من المقام ما للإمام، أي هل يملك ن يتمتع بذات الصلاحيات التي يتمتع بها الإمام. ثم هل يجوز التعامل مع السلطة القائمة ـ على الرغم من الحاجات الضرورية التي تدعو إلى ذلك ـ وهي غير شرعية؟
أجاب الفقه الشيعي عن السؤال الأول ـ في ما بعد ـ بإقرار مبدأ وجوب قيام نواب للإمام (الفقهاء الجامعون لشرائط المرجعية الدينية) مع تحديد لسلطاتهم إلى ما دون سلطة الإمام (المعصوم)، ولكن ـ أيضاً ـ إلى الحد الذي يسمح لهم بالنهوض بأداء الوظائف الحسبية، أي في إطار ما يعرف بولاية الفقيه الخاصة، لدى بعض من الفقهاء، فيما ذهب بعض آخر إلى القول بوجوب قيامهم مقام الإمام في سائر صلاحياته وسلطاته، وذلك في إطار ولاية الفقيه العامة. أما السؤال الثاني، فقد أجيب عنه على مراحل، على النحو التالي:
جرى التمييز ـ في مرحلة أولى ـ بين شرعية السلطة الغاصبة والجائرة، وهي غير متوفرة لديها، وبين مشروعية التعامل معها، (فأجيز التعامل ضمن حدود معينة، بناء على الضرورة ـ حاجة الناس إلى التعامل ـ وأحياناً على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالتكاليف التي لا يمكن القيام بها دون سلطة). وقد سبق للمحقق محمد باقر السبزواري أن برّر ذلك بالحاجة إلى عدم جواز تفويت حقوق الناس من وراء رفض التعامل مع السلطان. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الفقه الشيعي اعتاد على عدم التحريض على السلطة الجائرة، في عصر الغيبة، لئلا يكون ذلك مسوغاً لسعي غير شرعي ـ في المذهب ـ إلى غصب منصب الإمام مجدداً، بعد غصب السلطة الجائرة له، أدركنا أن التنظير لذلك التعامل (الاضطراري) لم يكن في باب المستحيلات، على الرغم من الصورة التي تكونت عن الإمامية والجعفرية كجماعة رافضة، وكمذهبية مغلقة!
في مرحلة ثانية، حصل تطوير فقهي في مسألة التعامل مع السلطة القائمة، وصل إلى حد إسباغ بعض الشرعية الدينية: لا على التعامل ذاك فحسب، بل ـ وأيضاً ـ على السلطة تلك. والحقيقة أن فهم هذا المستجد الفقهي، المتعلق بالسؤال عن شرعية التعامل مع السلطة الغاصبة، يتوقف على العودة إلى معطيات الجواب الفقهي الشيعي عن السؤال الأول المتعلق بإمكانية قيام مَن ينوب مناب الإمام في رئاسة وقيادة المسلمين في عصر الغيبة، بحسبانه سؤالاً يتصل اتصالاً منطقياً وفقهياً بالثاني: نعني بسؤال التعامل مع السلطة ومشروعية التعامل ذلك، كما سبق الإلماح إلى ذلك:
فالفقهاء الشيعة لم يكتفوا بالتماس حل لمسألة الغيبة وأحكامها (ومنها التعطيل والانتظار) من خلال إجازة قيام نواب للإمام (الفقهاء المجتهدين) وتوليهم مقاليد أمر الإمامة في عهد الغيبة، فقط، بل ذهبوا إلى تقرير جواز الإذن: إذن الفقيه الجامع لشرائط المرجعية للحاكم بتولي السلطة، وطبعاً على قاعدة وثوق الفقيه من تدين الحاكم وعدله. ومع أن ذلك أدخله الفقهاء في باب وجوب قيام الرئاسة في المجتمع ولو أسندت إلى فاسق إذا ما كانت ديار الاسلام مهددة من الخارج، إلا أن الإذن كان ـ بقوة الحقائق المادية ـ شكلاً من التسويغ الديني لسلطة مطعون في شرعيتها، وخصوصاً حينما تكون تلك السلطة قد نجحت في استثماره لصالح تعزيز صورتها لدى الجمهور، أكان إذناً عاماً أم محدوداً. ولعل رسالة الشريف المرتضى: مسألة في العمل مع السلطان، كانت أفضل تنظير شيعي مبكر لإشكالية التعامل مع السلطة، فتح الباب ـ في ما بعد ـ أمام نظرية الإذن الفقهي للسلطان بتولي الأمر العام على مقتضى القبول والطاعة.
هذا كان سياق، وحصيلة، النظر الفقهي الشيعي في مسألة الإمامة والسلطة، وشرعية هذه، في زمن الغيبة. وإذا كان من باب الأمانة: التاريخية والعلمية، القول إن في هذا التراث الفقهي ـ وفي نفسه الواقعي بالذات ـ ما أسعف العلامة النائيني بتأسيس مقالة حديثة في المسألة السياسية، متحرراً ـ إلى حد بعيد ـ من قيود المقالة الفقهية الأصولية الشيعية حول عدم جواز التفكير في السلطة خارج فرضية الحق الشرعي الوحيد والأوحد لأئمة آل البيت المعصومين فيها، كما بعيداً عن أطروحة وجوب التزام خط (الانتظار) إلى حين حدوث فرج الإمام الغائب .. ، فإن الأمانة عينها تقتضي القول إنه تجاوز الحلو المؤقتة التي استقر عليها العقل السياسي ـ الفقهي الشيعي: إسناد وظائف الإمام مؤقتاً لنواب الإمام ( = الفقهاء)، وتأمين مخرج فقهي لمسألة التعامل مع السلطة الغاصبة (الإذن الفقهي). ولم يكن تجاوزه ذاك مجرد كسر لعقيدة الانتظار فقط، بل طرح نفسه في صورة تخط لمسألة الإذن إلى طرح مسألة السلطة الشرعية، وكيف تقام بديلاً من سلطة الجور السائدة.
* المصدر : الدولة في الفكر الاسلامي المعاصر /مركز دراسات الوحدة العربية /2002م